تداعيات حرب 2023 / 2024 : الطفولة الفلسطينية المسلوبة : من ” كعك على الرصيف ” إلى شيبس في الطريق .

في نهاية سبعينيات القرن العشرين أخذت أنشر في جريدة الفجر رسائل تحت عنوان ” رسائل من المخيم ” ، ولما كنت موظفا في وكالة غوث اللاجئين فقد نشرتها باسم مستعار تارة باسم عادل الراوي وطورا باسم أحمد الزعتر .
في واحدة من هذه الرسائل التي كتبت تحت التأثر برواية إميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل “( 1974 ) كتبت عن الطفولة وضمنت الكتابة مقاطع شعرية لمحمود درويش ” ملوثة يا كؤوس الطفولة ” و” نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبيا ” وعندما درست ” جداريته ، التفت إلى كتابته عن الطفولة فيها وكتبت مقالا من أحد عشر مقالا عنوانه ” الطفولة : لم أكن ولدا سعيدا ” تتبعت فيه طفولة الشاعر في أشعاره .
شيء من طفولتي الشخصية أوردته في كتابي ” حزيران الذي لا ينتهي : شظايا سيرة ” ( 2016 ) ، وقد صدر عن الرقمية للنشر .
في الحرب الدائرة على غزة قتل ويتم وتشرد عشرات آلاف الأطفال الفلسطينيين ، وعاش الأطفال كلهم أهوالا تشبه أهوال يوم القيامة التي قرأنا عنها في النص القرآني ، وما سبق دفع ببعض الناشطين إلى الترفيه عن الأطفال الأحياء والتخفيف من مآسيهم والأخذ بيدهم ، من خلال الأغاني وعرض الأفلام السينمائية و … و … .
والظاهرة اللافتة في الحرب هي تحول قسم كبير من الأطفال إلى باعة في الشوارع ، فلا مدارس ولا رياض أطفال ولا دورات تدريبية ولا بيتا واسعا ولا نوادي ولا … لقد انعدمت الحياة وصار الشغل الشاغل للناس هو أن يبقوا على قيد الحياة يوفرون الرغيف الذي عز والطعام الذي شح وندر .
هكذا هام أطفال في البراري يحتطبون أو يبحثون عن نبتة ما ، ووقف آخرون في الشوارع ينادون على بضاعة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وذهب آخرون إلى شاطئ البحر يسبحون ويلهون بالرمل .
كل ما سبق أعادني من جديد إلى نصوص أدبية فلسطينية وإلى مظهر من مظاهر الحياة في المخيمات الفلسطينية في بداية ستينيات القرن العشرين .
ولأن المشاهد التي تستحضر شبيهتها كثيرة ، و” لأن الشجا يبعث الشجا ” ولأن غزة كلها انطبق عليها قول الشاعر متمم بن نويرة الذي وقف على قبر أخيه مالك يذرف الدموع السوافك فقال ” فهذا كله قبر مالك ” ، فإنني سوف أتوقف أمام مشهدين اثنين :
– أولهما مشهد الطفل الذي وقف في العراء وقد عرض على تنكة فارغة بعض ظروف شيبس ينادي عليها : الشيبس الشيبس ياللا الشيبس .
– وثانيهما هو الأطفال في الخيمة جلوسا على الأرض يشاهدون فيلما سينمائيا .
أعادني مشهد الطفل ، ومثل الطفل عشرات ، إلى قصة غسان كنفاني ” كعك على الرصيف ” التي كتبها في الكويت ، في العام 1959 ، يسترجع فيها قصة معلم في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين في دمشق مع أحد طلابه .
حميد طفل فلسطيني ماتت أمه وفقد أخاه الكبير في حادث مصعد ، فجن الأب وكان على حميد طالب المدرسة أن يمسح الأحذية وأن يبيع الكعك على الرصيف ، لكي يرعى أباه وأختيه ، ثم يذهب إلى المدرسة ، وفيها ينام ، لأنه في الليالي يظل ينتظر رواد السينما حتى يخرجوا منها فيشتروا منه الكعك .
يهتم المعلم الذي كانت نكبة 1948 أجبرته ، ذات يوم ، على مسح الأحذية أيضا ليعيش ، يهتم بأمر حميد الذي كان أحيانا يكذب ليخفي حقيقة وضعه على معلمه ، ومع ذلك ظل المعلم يشعر مع حميد :
” لقد استطاعت صورته أن تحفر نفسها في عظم رأسي قبل عام واحد ، حينما رأيته في تلك الزاوية بالذات – كنت احتل هذه الزاوية قبل عشر سنوات ، حينما كانت المحنة على أشدها ، وكانت طريقتي في مسح الأحذية تشبه طريقته إلى حد بعيد ، كان الحذاء بالنسبة لي هو كل الكون : رأسه وكعبه قطبان باردان ، وبين هذين القطبين كانت تتلخص دنياي ” .
وأما المشهد الثاني فقد أعادني إلى حياتنا في مخيم عسكر في ستينيات القرن 20 وبداية سبعينياته .
افتقدت المخيمات في تلك الفترة ، وما زالت ، إلى دور السينما ، ولم تكن التلفزيونات دخلت البيوت . كان أبناء المخيم القادرين إن أرادوا الذهاب إلى السينما يصعدون الحافلة إلى مدينة نابلس ويدخلون إلى دور السينما ويشاهدون الأفلام ، وغالبا ما تم ذلك في الأعياد ، وغالبا ما تيسر للرجال دون النساء وللشباب دون الشابات ، وأرجح أن أكثر أهل المخيم لم يذهبوا إلى السينما ، وإن شاهدوا أفلاما فهي تلك التي يتم عرضها في المخيم .
كانت وكالة غوث اللاجئين تتيح للناس هذه الفرصة مرة في كل عام أو في كل عامين . يتم الإعلان عن ذلك وتعميمه ، فيجتمع أهل المخيم أكثرهم ، عندما يحل الظلام ، في الساحة العامة في وسط المخيم قرب مركز التغذية ، ويبدأ العرض على الجدار ، وأذكر أن من الأفلام التي تم عرضها فيلم فريد شوقي ” صراع في الوادي ” وكان تغلب البطل في صراعه مع عدوه وأظنه محمود المليجي يدغدغ عواطفهم ومشاعرهم ، وقد يرون فيه انتصار الرئيس المصري جمال عبد الناصر على عدوهم الذي طردهم من بلادهم .
وفي نهاية ستينيات القرن العشرين لم يكن أكثر أهل المخيم قادرين على إدخال أجهزة التلفزيونات إلى بيوتهم ، وكان أحد القادرين يستأجر مخزنا ويضع فيه عشرات الكراسي ويمكن الأطفال والشباب ، مقابل مبلغ مادي ، من مشاهدة بعض المسلسلات والأفلام .
هل جانب محمود درويش الحقيقة حين قال ” ملوثة يا كؤوس الطفولة ” ؟ والطفولة في الحرب الدائرة حاليا انتهكت تماما ، فقد ذهب البؤس بكل ملامحهم ، والقول لمظفر النواب في أطفال تل الزعتر في 1976 .

 

المصدر
https://madar.news/?p=313966

 

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *