تداعيات حرب 2023 /2024: العالم بعيداً عن غزة والضفة الغربية

في 25 شباط 2024 غادرتُ نابلس، لأول مرة منذ 7 أكتوبر 2023، بداية «طوفان الأقصى»، لأشارك في ندوة بمعرض الكتاب في سلطنة عُمان، عنوانها «التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني». غبت ثمانية أيام وعدت في الرابع من آذار. ركبت السيارة والطيارة ونمت في فندقين وتجولت في الشوارع والأسواق وصالات المطار، ولم أنس أنني وشعبي نعيش تحت الاحتلال، وأن أهل غزة يعانون من ويلات الحرب وقسوتها، وما مررت به قال لي إن الحياة، بعيداً عن فلسطين، مختلفة تماماً، وإن اهتمامات الناس هناك لا تمتّ بِصلة لما نعانيه ونكابده، وإن أكثر ما يمكن أن يقدمه الآخرون لنا لا يعدو عبارة تعاطف يمكن اختصارها بـ «الله ينصركم ويكون بعونكم ويقويكم على عدوكم».
مثلاً السائق الذي أقلني من الجسر إلى عمّان، وهو لداوي لاجئ ستيني ولد في مخيم الجلزون وهاجر مع أهله في حزيران 1967، تحدث طويلاً عن معاناته وعذابات السائقين، وكانت فاتحة الحديث استفساري عن سبب عدم إيصاله الركاب، هو وغيره من السائقين، إلى الموقف المحدد في «طبربور». السائق لم يأتِ على ما يجري في غزة. الحديث عن غزة حضر مع صديق اصطحبني ليلاً من الفندق إلى الأسواق الجديدة في عمّان، المقامة على أرض مبنى المخابرات الأردنية السابق في الشميساني، ولأول مرة أسمع باسم (بوليفار). عالم مختلف تماماً عما تختزنه الذاكرة. من مقر مخابرات إلى سوق تجاري حديث أوروبي الشكل والنمط. في بوليفار ليلاً يعيش الناس حياتهم بالطول والعرض، مكررين قول محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، كأن لا حرب هناك في غزة، فلا قتلى ولا جرحى ولا جوعى، ولا مشردين بلا مأوى، ولا مرضى بلا علاج. لا شيء لا شيء من هذا، فالعالم كله شبعان ريّان وكاسٍ غير عريان ولا ينقصه شيء، وفي صالة الطعام بالفندق صباحاً تحتار فيما تختاره، بعد أن نمت ليلاً في غرفة مكيفة.
في مطار الملكة علياء، الذي وصلت إليه بسيارة حديثة مكيفة، تمشيت وتابعت حركة البشر المنشغلين بختم جوازات سفرهم والتجول في السوق الحرة. في المطار ترد إلى مسامعك مفردات لغات مختلفة، فتشعر أنك في برج بابل الذي يتحدث فيه البشر كل بلغته. وفي المطار تصغي إلى صوت يوجه الركاب إلى طائراتهم، والركاب مشغولون بأحاديث جانبية، ربما عن العائلة والوطن والعمل وأسعار العملات والمشتريات ووجبات الطعام في الطائرة. في مطار الدوحة يصطحبك الصديق فخري صالح إلى صالة المها المسموح دخولها لحملة البطاقة الائتمانية (إليت/ Elite) التي لم تفعلها أنت.
قبل أن أقطع جسر الملك حسين كنت أكتب يوميات المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة صباح مساء، وأما منذ قطعته، وصرت خارج حدود فلسطين، فقد انصرف ذهني إلى السفر والطائرة والفندق والسوق والإقامة، وما عدت أصغي 24 ساعة إلى الأخبار، وما عدت أشاهد الأشرطة وأستحضر كتبي وأظل مشغولاً بما سأكتب. لقد أخذتني تفاصيل السفر إلى عوالم مختلفة، وصارت غزة وفلسطين بعيدتين، وتيقنت من أن مناشدة الفلسطينيين العرب والمسلمين، لمساعدتهم، ليس أكثر من سلوك دونكيشوتي.
في مطار مَسقط استقبلنا مضيفنا العُماني. رحب بنا وأقلنا إلى فندق هرمز (داريسدون) لننفق الليلة الأولى، ونحاضر في مساء اليوم التالي عن «التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني». هل ينسى العرب فلسطين؟ ها هي تحضر في معرض الكتاب بسلطنة عُمان، ويصغي العُمانيون إلى أبنائها – أي فلسطين، يتحدثون عنها مدة ساعة، ثم… ثم تسير الحياة وتستمر، وتنتهي المحاضرة والنقاش، وينصرف الحاضرون الذين لم يتجاوز عددهم الأربعين إلى شؤون حياتهم، وينصرف المتحدثون إلى الفندق ومطعمه.
هل تدور حرب في غزة؟
الحرب في غزة محتدمة يعاني من ويلاتها الغزيون، أما نحن، في الفندق والسوق وعلى شاطئ بحر عُمان، فنأتي على سيرة محمود درويش وبهارات عدن ونتمشى على الشط، وحين نجلس في المقهى لنستمتع بمنظر البحر يطلب منا النادل أن نترك الطاولة لنجلس على أخرى داخل المقهى، فالرياح تنبئ بمطر غزير، وما هي إلا دقائق حتى انهمرت الأمطار واشتدت الرياح وطارت المظلات. وفي داخل المقهى نتحدث مع الكاتب العُماني محمود الرحبي والسعودي طاهر الزهراني عن روائيات وروائيين سعوديين، محمد حسن علوان وعبده خال ووردة عبد الملك وصبا الحرز ورجاء صانع، وينضم إلينا الكاتب المغربي محمد جليد، لنواصل الثرثرة في الأدب، ولا نأتي على ما يجري في غزة. هل كان يجري في غزة شيء؟ هل كان ثمة قتلى وثمة جرحى يعانون من نقص الأدوية ومستلزمات العمليات الجراحية؟
كأن لا شيء يحدث في غزة!!
غزة التي تعيش أسوأ كوابيسها.
في مَسقط نزور المتحف الوطني وسوق مطرح ونشاهد قلعة الجلالي. في المتحف نحضر فيلماً عن عُمان، وفي السوق يشتري فخري البهارات، فقد نصحه بها صبحي حديدي، وعن قلعة الجلالي يحدثنا محمد الشعري الروائي العُماني. يحدثنا عن سجنها وبعض سجنائها، والذاكرة ما عادت حديدية.
العالم بعيداً عن غزة لا يعرف عنها وقد يهتم بأمرها وقد لا يعنيه أمرها كثيراً، وفي أحسن الأحوال قد يتعاطف مع المقاومين وينظر للحلول القادمة من منظور إسلامي، فيبدو مطمئناً، فالله في كتابه الكريم وعد المسلمين بالنصر و… و….
العالم بعيداً عن غزة والضفة الغربية يواصل حياته العادية كأن لا حرب هناك ولا جوعى ولا عطشى، ولا قتلى ولا جرحى بالآلاف ولا.. ولا.. ولا…

المصدرhttps://al-ayyam.ps/ar/Article/398075/%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%A2%D9%A0%D9%A2%D9%A3–%D9%A2%D9%A0%D9%A2%D9%A4-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%8B-%D8%B9%D9%86-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B6%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR14Ds8fGkGlzh1EGKnViKonuuUHEWjv2c2iCLhhZ33LKCsswyhUdIEHBts

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *