تداعيات حرب 2023/ 2024: مأساة الفلسطيني في حياته اليومية: الحمامات

لم تقتصر حدود المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة الدائرة منذ 7 أكتوبر على استخدام أسلحة القتال وحسب، فقد اتسعت لتقتل في الفلسطيني كل ما هو إنساني ولتسلب منه أبسط حقوقه. لم تسلب منه الأمان والاستقرار ورغيف الخبز وحسب، ولم تمنعه من ممارسة حياته اليومية المألوفة في العمل والدراسة والعلاج، فقد حرمته، منذ دمرت أماكن سكنه، من ممارسة طقوسه وشعائره وعاداته اليومية التي ألفها كممارسة حياته الزوجية والذهاب إلى الحمام والاستحمام بحرية.
شغلت الكتابة عن الانتظار في طوابير طوابير، من أجل قضاء حاجة الإنسان في مرحاض ما، حيزا لا بأس به من كتابات كتاب وسائل التواصل الاجتماعي وكتاب اليوميات في الصحف، (كعاطف أبو سيف الذي أصدر يومياته في كتاب “وقت مستقطع للنجاة: يوميات حرب غزة”)، بل وصارت حجة لمعارضي أحداث 7 أكتوبر في وجه من يؤيدونها، وأمنية للأولين بأن يمر الأخيرون هم وعائلاتهم، بما يعاني منه في هذا الجانب الغزيون، حتى يعرفوا مدى معاناة الأهالي وقسوة حياتهم وما جرته عليهم الحرب.
وأنا أتابع ما يكتب وأهتم به، وألفت نظر المشرفة على موقع “مبدعون فلسطينيون” إلى ما يكتب عن الحرب، أرسلت إلي الكاتبة الغزية النشيطة نعمة حسن نصا تسرد فيه معاناة الناس اليومية بخصوص طقوس قضاء الحاجة أو الاستحمام، وكنت من قبل قرأت شيئا من هذا في يوميات الروائي عاطف أبو سيف والناقد طلعت قديح. ونص نعمة يأتي على التمييز بين جرأة الأطفال وخجل النسوة والكبار. إنه يأتي على معاناتها وأطفالها في قضاء حاجتهم، في بيوت أقاربهم، وهذا يشعرها، وهم غادون رائحون، بالخجل، وحين ترغب في الاستحمام وتمارس طقوسه ينتابها حذر شديد وحرص كبير.
تكتب نعمة نصا تحت عنوان “جسد الماء حرا: الضفاف مجرد وطن” وفيه نقرأ:
“أحاول اليوم بكل ما لي من قوة البحث عن حفنة ماء نظيفة.. موقد وبعض الورق.. مكان آمن للاستحمام.. الحب والحياة مرتبطان منذ بدء الخلق بنطفة ماء. أنا الآن أريد أن أستعيد فطرة الأشياء الأولى.. إنه يوم الاستحمام رغما عن أنف الحرب.. لا يمكنني الاستحمام داخل حمام المدرسة القذر.. ربما يعوزني الكثير من الشجاعة للوقوف في طابور (التبول)، ولكني لم أستطع قتال نفسي للوقوف عارية في حمام عام يؤمه مئات الأشخاص لقضاء حاجتهم…”.
وحكايات الحمامات العامة والمراحيض في سفر اللجوء الفلسطيني، وفي المخيمات تحديدا، حكايات كثيرة مر بها أجدادنا وآباؤنا واستمرت تقريبا عقدين من الزمان وسببت لهم مشاكل كثيرة؛ اجتماعية وصحية وأخلاقية أيضا.
وإذا كانت النصوص الشعرية، فيما قرأت، لم تولِ هذا الجانب شأنا، فلم تأت عليه، فإن الرواية الفلسطينية خصته بكتابة فيها قدر من الجرأة لم يعتدها القارئ الفلسطيني ولم يألفها، فلم يستسغ ما كتب، وهنا آتي على روايتي سامية عيسى “حليب التين” (2011) و “خلسة في كوبنهاجن” (2013)، والثانية متممة للأولى وجزؤها الثاني، وتعد أكثر النصوص جرأة في الكتابة، ولهذا لم ترق لمثقفين وسياسيين عديدين، إذ رأوا فيها إساءة لأهالي المخيمات ولمسؤولي بعض التنظيمات الفلسطينية فيها.
تكتب سامية في “حليب التين” عن ضيق البيوت في مخيم “أوزو” في لبنان، ما يمنع الفلسطيني من ممارسة طقوسه اليومية والبيولوجية منها بحرية. هكذا تنسلب منه خصوصيته، فيمارس سلوكات تبدو غير سوية، أو تدفع إلى الانحراف، أو تحرمه من ممارسة حياته بحرية، فيخضع لرغبات جسده، دون أن يشعر بأنه مراقب ودون أن يشعر بإثم ما. وستولد هذه الحياة لديه، وما ينجم عنها من سلوكات وطقوس سرية، أمنيات يسعى إلى تحقيقها إن استطاع، بل ويضعها في سلم أولوياته.
هكذا يغدو الحمام الذي افتقده، في منزله في المخيم، أو أقامه بشكل بائس، في سلم اهتماماته إن امتلك شقة أو بنى منزلا، وسيوليه جل عنايته وسيهتم ليس فقط بنظافته، بل بجودته وفخامته واختيار أجود أصناف مواده. ويذهب الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك، فحسام ابن صديقة سيغدو “السمكري المعروف بمهارته لدى كل بيوتات الجالية في الغيتو في عموم كوبنهاجن” (123).
ولعل من الصفحات التي تلفت النظر هي الصفحات التي تصف العلاقة الغرامية بين صديقة والشاعر الفلسطيني وليد في دبي حين التقيا هناك، والدهشة التي انتابته حين رأى المرحاض في شقة صديقة:
“حين دخل وليد إلى المرحاض شعر أنه كمن أقحم في حلم. فوجئ بديكوره البديع. كان أشبه بقصر صغير من قصور ألف ليلة وليلة. سيراميك أزرق لا هو بالفاتح ولا هو بالغامق، يغطي أرضيته. ومغطس عريض بعض الشيء أقل زرقة من الجدران المصنوعة من البورسلان الفاخر، على جنباته فتحات معدنية مدورة من الكروم تنتهي برشاش معلق بأعلى الجدار، وتفصل بين المغطس والحائط المقابل حافة صغيرة على جانبها جهاز ثبتت فيه ثلاثة أزرار كهربائية. بالقرب منها وعاء زجاجي شفاف يحتوي على أزهار مجففة وآخر مملوء بأملاح ذات لون برتقالي، وزجاجات عديدة فيها سوائل ملونة لم يفهم ما هي، وسلة صغيرة من القش تحتوي قطعا ملونة تشبه قطع الصابون تنبعث منها روائح الياسمين واللافندر والورد والليمون. ستارة بيضاء من طبقتين تتدلى من السقف على الجانب الفاصل ما بين المغطس وكرسي المرحاض…” وأظن أن هذا يكفي حتى لا يثور ضدي لاجئو غزة وحتى لا تنتابهم حالة من التحسر تؤدي إلى الموت كمدا.
الله المستعان به على ما يلم بنا!

المصدر https://al-ayyam.ps/ar/Article/399529/%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%A2%D9%A0%D9%A2%D9%A3-%D9%A2%D9%A0%D9%A2%D9%A4-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR1YKTkT5QmIGC4kQGc8oG1aCbMJ4elrKxYXtdZFYEU0jrarrZsp9jJLEjA_aem_AQwhQRAYOvnTaj6XlpNdCxfxoHWeVma2QLH5mi4XhtxLyCi01UbRgGt2lalYtosrD9ABvSd5mOWJkq3ItxsYyQ5-

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *