دوار البطيخة

انزلقتُ مع شوال الحرامات والملابس على سلالم الدرج، كي أخرج من شقتي وأهرب من المبنى الذي كان يتمرجح مثل جذع فوق نهر عابر، نزلتُ الدرج، وعلى رأسي تتساقط شقف الجبصين وحراب الزجاج وحصى الديكورات وكاسات وفناجين الجيران.. وصوت مصطفى يفرقع بقاع المبنى، يناديني، ويلعنُ دينَ الملابس والطناجر وأمهات الكاسات والحرامات.. مصطفى المؤمن المسالم يكفرُ ويشتم أهلي وعشيرتي، مع العلم أن زوجي لا يصرخ هكذا لو لدغه دبور في لسانه، أكيد رأى برأس الدخلة عزرائيل وأولاده قادمين عليه بالمناجل.. ارتد الرجل على أعقابه..
أول الأمر لم أرد عليه، وكنت أحشو الكيس الكبير بما تيسر من أثاث بيتي كي أخرج بهم إلى باب الله.. لكن بعد تلك الغارة التي أوقعت البراد على وجهه؛ وقلعت خزائن المطبخ، وسلخت الطينة، وبزَّت عظام الحديد من السقف.. جعلتني أُدحرجُ الكيس إلى أسفل الدرج وأنا هويت حافية القدمين وراءه.. لم أجد سوى حذاءً بكعبٍ عالٍ مرمياً تحت مضخة الماء، وما إن وضعته في قدميَّ، حتى دوى انفجار غيَّرَ علامات يوم القيامة، وكان هذا الحذاء المجنون سبباً في بقائي ملتصقة بمكاني، فقد زرعني الكعب الرفيع في الطين!..
وحين رفعت رأسي بعد الغارة العظيمة اختفى كل شيء، أظن أن مصطفى طار هو والعمارة والشجر والحجر ومضخات الماء وساعات الكهرباء، والصحون الفضائية. تغيَّر شكلُ الحارة تماماً.. وحين حاولتُ النهوضَ كيْ أهربَ كنتُ ثقيلةً ورخوةً، زحفتُ باتجاه الشارع لكني لم أجده، ولم أجد محل بائع الدجاج، رأيت الدجاجات فوق تلة الردم مذهولاتٍ يثرثرن وينظرن للأعلى، وحين اقتربت، اختبأن خائفاتٍ في برميل “النتافة”.. خلعتُ الحذاء ووقفتُ أبحثُ عن علامةٍ تأخذني إلى باب النجاة، فجأة ظهر مصطفى يشقُّ ضباب الغبار بقامته القديمة، يلبس طقماً أسودَ وقبعة أجنبية، استدار وأشار بحركة سينمائية كي اتبعه، لحقتُ به حافية القدمين، وكنت أتساءل من أين جاء بهذا الطقم وتلك القبعة ؟؟!!. وهل هناك حفلة تحت الجسر ليلبس هذا الطقم؟!
– حفلة يا مصطفى؟!.. “ومِطَّقِمْ” في هذا الوقت الفظيع! طول عمرك عايش برات الزمن..
عثرتُ على شحاطة، تناولتها بأصابع قدمي، وحين رفعتُ رأسي ضاع مني مصطفى، اختفى في سيارة أجرة، جرحتُ حلقي وأنا أنادي عليه، لكنه لم يلتفت.. وبعد ثوانٍ مرَّتِ السيارة ذاتها قربي وكان وجه مصطفى هادئاً، وحول عينيه دائرتين من الحبر الأزرق.. رفع لي يده ثم مضى..
مشيت وراء جيراني.. وقلتُ لا بد أنهم يعرفون طريق الجسر، وأنا على يقين أنني اقتربت من البوابة، لكن هذا لم يحدث، والناس تكاثروا واختلفوا على الطريق ثم تفرقوا.. واكتشفتُ أنني أسير في الطريق الخاطئ ذاهبة باتجاه الدوار، ودليلي بيتا أعرفه جيداً، وقفتُ تحت نوافذه الزرقاء كان سليماً ونظيفاً، إنه من دون شك بيتُ حماتي القديم، الذي تزوجتُ فيه وأنجبت أولادي كلهم، كل البيوت حوله انكبت على وجهها إلا بيت حماتي، رأيتها وراء الشباك تمسح الزجاج، وقد نادتني وسألتني عن سعر الباذنجان في سوق فلسطين، وقلت لها إن الباذنجان الأحمر تلال متلتلة، فهزت رأسها وقالت لي بكير على حفلة المكدوس، لم أسمع باقي تمتماتها المسمومة، وسألتني عن مصطفى، وتركتها تعيُّرني بقلة حيلتي وقصر قامتي:
– هي أنت يا “فتر ونص”.. ضيعتي ابني بطلباتك.
رأيتُ سلفي الصغير يخرج من باب البناية كأنه يلاحق سربا من الذباب، يضرب عواصف الغبرة بقميصه ويمشي، “يخرب بيت هالعيلة بيلحقوا الغبرة بثيابهم العتيقة”..
لكني عرفت بعد ذلك أنه جنَّ بعد أن أكل قطته الغالية، في مجاعة المخيم.. مشيت من الساحة إلى شارع صفد كان سيخ الشاورما يحترق وتتصاعد منه رائحة الحطب المشوي وصاحب الطربوش ينفخ “أركيلته” ويطقطق بسُبحته، ومن بعيد زغاريد أمام صالة ليالينا، كان هناك عرساً وطبلاً لأحد أقربائي، وقد اشتريت لهذه المناسبة حذاء حظي، وحين دخلت الصالة لم أجد سوى كراسي البلاستيك فوق الطاولات، وامرأة عجوزاً تشطف الأرض، والعروس تنام وحيدة على أرجوحة الورد.. توقفت العجوز وسألتني:
– هاي العروس أختك؟!
لقد اختنقت من رائحة الفانيلا التي هبت من مدخنة معمل البسكوت، لكن العمال خرجوا بباص البلدية منذ أسبوعين، والعروس ليست أختي إنها خطيبة صبحي..
صعدتُ على هضبة اختلط ترابها بالبضائع “وصواني” المعمول والكنافة والنحل والذباب يهمي على القَطْر.. خرجتُ من سوق النسوان إلى الشارع، كان الإسفلت سليماً، والمنصف تستلقي عليه بقايا ثياب الهاربين وأحذية أولادهم وحقائب مدارسهم. كان هناك رتلاً من الرجال والنساء مبتسمين مطمئنين، يخرجون من مقبرة اليرموك، عرفتُ بعضَهم ولم تتضح لي ملامح الكثيرين.. يرفعون قطعاً من الرخام الأبيض فوق رؤوسهم.. ويلوحون بسعف نخل يابس وبأعلام ملونة، أظنها لدول بائدة، عرفتُ بعد ذلك أنهم كانوا يمشون بالاتجاه الصحيح، وقد نادوا علي، ورأيت معهم أخي حسام وقد استغربتُ من وجوده مع هؤلاء الناس، سألته:
– لوين رايح؟!
قال لي:
– تعالي الحقيني!!
وقفتُ أنظر إليه.. لقد أصبح رجلاً كاملاً وعينيه تلمعان بخبث.. ولم يكن خائفاً مثلي، كان قوياً واثقاً بطريقه.. يلبس قميصاً أبيضَ ناصعاً لم تلوثه الترب، وتمسك بذراعه امرأة حُبلى، يبدو عليها التعب، تمشي متثاقلة وقد سحلَ بطنها وكأنها ستلد في تلك اللحظة.
متى تزوج أخي حسام!؟ لم يعزمني على عرسه فقد كان شاباً حين قُتل في لبنان، وقد هرب من بيتنا قبل امتحان البكالوريا، وغاب ثلاثة أشهر وعاد في صندوق، لم نفتح النعش المربع لكن انبعث من ثقوبه رائحة مالحة كماء البحر، مزقنا وجوهنا كي نراه للمرة الأخيرة، وقد منعونا بقوة السلاح.. وتركَنَا حسام غارقين بحزن الظنون.
نادى عليَّ حسام بغضبٍ كيْ ألحقه لكنني لم أكن على يقين أنه هو، وكان عمي وراءه يحمل رخامته على رأسه، ويتكئُ على عكازه الذي حطم بها زجاج الشباك ليوقف وسواس حماتي، فدَعَتْ عليه دعوةً هزت المخيمين، ضحك على غضبها وفي آخر الليل تسَحَّبِ إلى غرفتها، وكنا أنا وسلفاتي نضع قمع الكاز على الحائط كي نسمع ما يجري هناك!..
في الصباح يستيقظ عمي مرحاً يدندن، ونحن نتغامز على نشاطه وهمته، وحماتي تغطي وجهها بالنقاب خجلا. وحين فارقها إلى قبره لحقته بعد أربعة أيام.
أين ذهب مصطفى؟! ولمن سيارة الأجرة؟! لماذا لم يأخذني معه، تركني بالشارع ضائعة. حتى أنني لم أره بعد ذلك، لعلكَ أغضبتَ الله يا مصطفى وكفرتَ؛ فأرسل لك الموتَ الأصفرَ على شكل تكسي.. الآن حبكت.. الآن وقت الردة يا زوجي المؤمن.. كان يحزن عليَّ لأنني أصلي مرة واحدة في الأسبوع، فكان يقول لي:
– الله موجود في كل الأيام يا ست هانم..
والغريب أن مصطفى لم يكن يهمه ما ألبس، وقد تركني كي أتحاسب وحدي يوم لا أحد ينفع أحداً، وأنا كنت أحمل راية التقدم والتحضر، ولم يحرك بي وعيده ساكنا.. المهم أين أنت الآن يا زوجي؟؟
رأيت ابنتي “شادن” تجرُّ عربة طفل فارغة.. سألتها:
– يا شادن أين زوجك؟!
قالت:
– ذهب إلى الحلاق نعيم، يريد تصفيف شعره..
هذا الرجل الكذاب!! لقد رأيتُ الحلاق نعيم أمام دكانه يسحب الغلق، وسائل كشراب التوت يتدفق من عنقه، لكنه كان فرحاً ويصفر ولم أرَ صهري.. أكيد ما زال يلاحق هذه البنت التي أطلقت شاربيها، ولبست بنطالاً مبرقعاً، ودست مسدساً في حزامها وصارت تطلق العيارات النارية كلما مر شاب جاهز ليكون عريساً سريعاً.. يعقدُ عليها تحت ضباب الغارة..
– يا بنت “جوزك” كذاب.. نعيم سكَّرَ محله..
ضحكتْ ثم اختفت في شارع المدارس. وقفتُ قبالة عيادة الدكتور عادل الأشقر، واستغربتُ ما الذي أتى بعيادة الدكتور عادل إلى هنا؟! لقد كانت العيادة مقابل سوق الخضرة.
كان هناك بالظل رجلاً، يجلس على تلة بيته ويضرب موالاً خافتاً، يصمتُ قليلاً ثم يضربُ وجهه وينتحبُ.. عرفته إنه بائع السمك، ما زال يلبس جاكيته الأصفر اللامع، يبيع السمك في النهار ويغني في الليل.. رأيته عند المساء يغني ويعض الميكرفون، قالوا لنا “المعازيم” إنه عرسٌ للجن، وقد أجبروه على الغناء، بعدها دب بهم الطرب، نصبوا الدبكة حول البلدية، كانوا يقفزون من شدة الرقص، ويقطفون اللمبات الملونة، ويقرطونها مثل حبات الفجل، ثم يعصرون زجاجات “الكتشب” على شرطان الكهرباء ويبتلعونها مثل المعكرونة، ويركبون الدراجات ويتسابقون، كانت تلك الآلات النارية تهرول كالأحصنة، وتخرج على الطريق العام، وكنا جميعاً نصفق لهم، كانوا قوماً دماءَهم خفيفة وضحكاتهم رشيقة، يتسلقون جبال الرمل مثل القطط البرية، ويحملون بفرح الغسالات النسائية.. وكان فريق آخر يراقبهم بأقنعة لها أنياب القرش وقرون التيس البري، يرابطون وراء الجدران ويهددون الجن بعصا وقماشة سوداء فيحدث أحياناً إطلاق نار وهمي، وآخر الليل يشرب الجميع العرق.. هربتُ خائفة من قناص مجهول، كان يتسلى ويقتل الناس، يطلق الرصاص على مؤخرات النساء ورؤوس الرجال.
لُذتُ بالبيوت المهدومة، ولم أكن أدير وجهي باتجاه أجراس الدفوف، وكانت هناك راقصة تضع “الفقشات” بين سبابتها وابهامها.. وترقص بالساحات وتهدي على سور الملعب البلدي ثم تطير وتعود وعرفتها بعد ذلك كانت أنثى غراب ضخمة تبحث عن فرائس ضائعة، وتضع بيوضها الفاسدة على أسطحة البيوت المهجورة وتنعق بالخراب..
رتل من الجنود مروا من تحت القوس الكبير، ينقط عرق الحمى من جباههم يحملون بأيدهم مراوح، ويبردون رؤوسهم ويعبرون من تحت بيت أمي..
إلا أنا كنت أسير بالاتجاه المعاكس، وحين مررتُ من أمام مدرسة “كفر سبت” سمعت أصوات البنات، ورأيت أختي التوأم سمية، تنتظر بناتها قرب الباب ووجهها أصفر كالكركم، قلت لها:
لا يوجد أحد هنا يا أختي سقف المدرسة هبط على أرضها.. وتلك الأصوات من أيام كنا في الصف الخامس.. ألا تذكرين؟!
لكنها غضبت مني، ولم تكف عن ضرب باب المدرسة.. ورأيت نساءً وأطفالاً وجوههم كالبرقوق، يأكلون نبته رجل العصفورة وتقلاية كفوف الصبار، عزموني على ملعقة خضراء أخذت لقمة ومشيت ألتهمها وأشرب وراءها مرق الفلفل، كي يهدأ الشوك في فمي.
كنت أبحث عن مصطفى وأبكي.. ليس هو من يتركني أموت هنا.. وإذ بلمسةٍ حنونة من ذراعه على خصري! ثم أدار جذعي نحو الجسر.. وقال لي:
– هناك..
وإذ أنا خارج السور قرب الجامع.
كان كل شيء طبيعياً، الفرن الكبير يطيِّرُ الخبز الساخن على رؤوس الناس، والدراجات الهوائية تذهب وتأتي، والناس يبيعون ثيابهم، وبعضاً من أدوات المطابخ، وصبيان الدخان يتسابقون على نوافذ السيارات.. وأولادي واقفين ينتظرونني ويسألونني عن أبيهم، قلت لهم:
– لقد دلَّني أبوكم على الطريق، وركب في سيارة أجرة صفراء وذهب إلى مكان قريب وسوف يعود، سنقف وننتظره.. ربما ذهب إلى بيت جدكم كي يستريح، أو أن شادن قد عزمته على صحن ملوخية ناعمة.. من يدري؟! أو يطبخ للجياع كفوف الصبار.. الله يعلم أين فصل، وليس بعيداً أن يكون الآن في عرس ابن عمه صبحي، هذا الأهبل الذي ترك عروسه نائمةً في الصالة وذهب للحرب.. أو زار أختي سمية كي يتفاخر أمام عديله بطقم المجانين و”ببرنيطة” الساحر..
— خَلَصْ والله تعبت وَقْفوا وانتظروا أبوكم..
مضى ساعات ونحن ننتظر، وحين استدرتُ إلى الوراء علَّني أجد كرسياً أو حجراً لأجلس عليه.. كانت بركة دوار البطيخة “تخدق” وتتدفق مثل البحر، وأولادي معلقين بصواري القوارب وأخي حسام ومصطفى وزوج شادن وسلفي عامر وابن عمتي حمودة وجوز أختي سمية والحلاق نعيم. والعريس صبحي.. يقفلون عائدين إلى نهاية المخيم بالسيارة الصفراء ذاتها.. حتى السائق كان مبتهجاً بالغنائم.. يدخِّن ويزمِّر ويقطع شارع الثلاثين بلا خوف من القناص. كانوا جميعا نائمين بلا أنفاسهم المتعبة..

عن مي جليلي

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *