توقفنا في الجزء الثالث عند قراءة : ( سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) وكيف قرأها بعضهم : ( سَلامُ عَلى إلْياسِينَ ) بكسر الألف من إلياسين، وقالوا: هو اسم إلياس، وإنه كان يُسمى باسمين: إلياس، وإليا سين مثل إبراهيم، وإبراهام.. وكما تختلف القراءات يختلف حل رموز الخطوط أيضاً، وقد كانت عمليّة حل رموز الخط المسماري إلى حد ما أصعب من عمليّة حل الخط الهيروغليفي، إذ أنّ “كروتفند” تمكّن من حل رموز الخط المسماري دون أنْ تكون مكتوبة بخط آخر يمكن قراءته، كما هو حال حجر رشيد، الذي كان مفتاحاً لحل الكتابة الهيروغليفية، وقد أيّد ما توصل إليه “مونتر”، حين حدّد سبع علامات، وقال أن هذه العلامات تعني كلمة ملك، وذلك من خلال تكرارها في حيّز صغير”(١).
أما كلمة ملك في اللغات التي يطلق عليها سامية، فقد أسّست معضلات ومشاكل كثيرة، خاصة وأنها أيضا تكرّرت في هذه النّصوص الأثريّة، بوجود كلمة ملك أصبح عُرفاً مألوفاً، وما يشبه القاعدة يُستنتج من خلالها معنى الكلمة التي تسبقها، على أنها اسم الملك واسم علم، أمٌا الكلمة التي تلي كلمة ملك، فإنها تعني اسم مملكة، وكما رأينا في الأجزاء السّابقة من هذه الدّراسة، فقد كان مطلع نص يحيملك:
ب ت ز، ب ن ي، ي ح م ل ك، م ل ك، ج ب ل . وبعد تصويت يحملك وجبل، ووفق هذا العُرف، صار يحيملك اسم علم، وجبل اسم مملكة، إلا أنّ كلمة مُلك، الميم فيها مضمومة، وهي ليست مَلك بمعنى الحاكم، وهي من المُلكيّة، وقد وجدنا في الجزء السابق من هذه الدّراسة على أنّها : ابني يحمِ “يحمي” لك مُلك الجبل، وليس هناك اسم علم أو مملكة أو ملك. وفي نقش كيلاموبرحيا(٢) الذي مطلعه:
ا ن ك، ك ل م و ب ر ح ي ، م ل ك، ج ب ر، ع ل، ي ا د ي .
ووفق العُرف ذاته، كان كيلاموبرحيا اسم علم، وهُمزت كلمة يأدي، لتصبح اسم مملكة، وقدّمتُ قراءتها أيضا على الشكل التالي:
إنّكَ، كَ، لُمْ، و، بْ، رحيمْ، لكْ ، جبرْ، عليْ، أديْ، و ب ل ……، فمن المعروف جواز حذف الهمزة، ويصبح معناها : إنٌ ك : حرف مشبٌه بالفعل، والكاف ضمير متصل المفرد المخاطب، (وإنك ليست أنا كما تترجم دائماً في جميع النّصوص الأثريّة)، والكاف الثٌانية أداة تشبيه، كَلُمْ : كالأم، الواو حرف عطف، ءب : أبْ، رحيم، والميم هنا ليست متصله مع لك، ولاتوجد كلمة ملك، لك: جار ومجرور، وأيضاً عليّ: جار ومجرور، و الياء ليست مرتبطة بكلمة ي-أ دي، ولا يوجد في النّص اسم ملك أو مملكة، وهذه العبارة دعاء موجه إلى الإله “انك”، كالأم والأب في رحمتك.
أمّا نقش أفس زكور(٣) الذي مطلعه:
ن ص ب، ز ي، س م، ز ك ر، م ل ك، ح م …..، وترجمه جميع الباحثين كالتالي:
هذا النّصب الذي أقامه زكّور -على اعتبار أنه سبق كلمة ملك فهو اسم علم- إلّا أنّ هناك عبارة شائعة في كل لغات العالم قديمها وحديثها :”نصب تذكاري”، وكلمة زكر هي فعل وليس اسم، وهي من ذكر وذكرى لتخليد ملك حماة.
وفي نقش بر راكب (٤) الذي مطلعه :
إ ن ه، ب ر ر ك ب، ب ر، ف ن م و، م ل ك، ش م ا (ل)، هكذا أيضا تم اقتراح تقسيم كلماته وتمت ترجمته: أنه: أنا، “برراكب بن فنموّا “: اسم علم، أما شمأل فهو اسم مملكة -علما بأن حرف (ل) غير موجود في النقش الأثري، وإنما هناك “اعتقاد” بأنه حرف مفقود بفعل عامل الحت الزمني، ولايوجد ما يدل على مملكة شمأل الآرامية إلا في هذه القراءة النصية الخاطئة كما هي حال الممالك الآرامية الأخريات، وإن عبارة ركب بر تستدعي مباشرة العبارة الشائعة التي مازلنا نكرّرها : (ركب البحر)، أما بِر الأولى فهي بمعنى التقي والمؤمن، ويصبح المعنى: إنّه، بِر، ركب، بَٕر: إنه تقي سافر براً “بقصد الغزو أو التجارة”، وكلمة ف، نمو : في نومه، أي أنّه رأى حلماً يتجسد في سفر نحو الشمال، وهذا النّقش مترابط مع النص الذي يُذكر فيه اسم والده المزعوم، هذا النّص المُسمّى فنموّا بر قرل، والذي مطلعه:
ا ن ك، ف ن م و، ب ر، ق ر ل، م ل ك، ي أدي، وتُرجم هذا المقطع كالتالي:
انا، فنموا، بن، قرل، ملك، يأدي .. وإذا كان فنموّا
ملك مملكة يأدي، فكيف يكون ابنه “برراكب بن فنموا” – في النص السابق – ملكا لِشمْأل ؟ وقد أُرخ نص الأبن ٧٣٠ق.م، ونص الأب فنموا ٧٦٠ق.م.، أما “قرل” الذي زُعم أنه اسم علم”الجَد”، فبالإضافة إلى أن اللغات المسماة بالسامية لايجتمع فيها حرفا اللّام الراء متتالين في كلمة واحدة كما في “قرل”، يتوضّح أيضاً أن هذه الحروف ليست كلمة واحدة، كما في كلمة “لُم”: الأم، ولأن الكتابة عروضيّة فإن (ألف أل) التعريف لايُكتب ولا يُلفظ، وأنا أُُطلق عليها لام التّعريف المحكيُة، في حين ساد اعتقاد عند اللّغويين بأنّ أدوات التّعريف هي : هاء التعريف باللغة كنعانية، وألف التعريف في نهايات الكلمات الآرامية. واعتُبر الحرف عل هو حرف الجر على، كما اعتُبر الحرف ال هو حرف الجر الى، كما أنّ اسم الإله ايل يكتب مطابقاً لحرف الجر ال “إلى”، وللتّبسيط نعرض المثال التّالي من لغتنا المحكيّة : أنا رايحْ علْ بيتْ، وهنا يتبادر للذهن أن عل هو حرف جر، إلا أن قاعدة التعريف التي لا تسمح بالتعريف إلا بحالة واحدة فقط من حالاتها -إما ب أل التعريف أو بالإضافة – فعند تعريف “بيت” بالإضافة تصبح : أنا رايح ع بيت جدِّي، أي أن حرف الجر هو العين فقط، وأُزيل حرف اللام بسبب الاضافة، يدل ذلك أن اللام ليس جزءاً من الحرف عل وأنه لام التّعريف المحكية، ولأن العبرية أحد أفراد هذه العائلة اللغوية، فقد أخذت بها، مثل غيرها من التفسيرات الظّنيّة الخاطئة، واللام في كلمة قرل هي أداة تعريف، وأصل الكلمة : قرىْ لْملك، ولأن لام التعريف ساكنة دوماً، فإن أي كلمة تسبقها يلفظ الحرف الأخير منها متحركاً، ويحذف إذا كان معتلاً، و هذا المثال يتكرّر كثيراً في نصوص لبنان، والذي يكون عادة في نهاية النص الأثري : سنتو بعل عل جبل، أي أنّ شريعة بعل أنْ يكون مكانه عل جبل : على الجبل، وكيف لا وهو إله المطر، والأمطار أشدّها غزارة فوق ذرى الجبال؟
وبالنّسبة لحُلم ركوب البَر، فقد بَرّ وحقق منامه الذي راوده، “ويبدو أن الأحلام في الحضارات القديمة، بمثابة وحي إلهي لابد من تنفيذه”.
أما حرف الجر إلى “الذي أعتبر أل”، يتوضّح خطأ هذا الاعتقاد في نص السفيرة الثالث (٥)، ومطلع هذا النّص سليم، ولا يوجد أي تشوّهات فيه، وتمٌ تقسيم كلماته على الشٌكل التالي:
أو، ال، ب رك، أو، ال، ع ق ر ك …، وترجمته : أو إلى ابنك أو إلى نسلك .
لست أدري ما أقول حول فداحة هذا الخطأ، فهل يمكن أن نبدأ بحرف العطف “أو” في أي لغة من لغات العالم، إن كانت قديمة أو حديثة ؟ هذا الحرف “أو” هو تخييري بين شيئين، وهذا يعني أنه لايوجد حرف عطف في هذا النص، مما يؤثر ويغير كافة المفردات التي تتبعها ويصبح :
ا و ا، ل، ب رك، ا و ا، ل، ع ق ر ك، والتفسير : أوا : أوّاه صيغة تهديد، اللام حرف جر وليست “ال”، بَرِّك : البريّة و الأرض غير المعمورة، والكاف للمفرد المخاطب، أما عقرك، فهي من العقار والأراضي السكنية، وكلمتا برك وعقرك تتكرران في النّص مرّات عديدة، ومعانيهما مختلفة وحسب موقعهما في الجملة، فكلمة عقر، بمعنى ذبح، وبمعنى دواء، وبمعنى أرض، ويتبين للقارئ دون جهد معنى عقر الوارد في السطر الثالث من هذا النقش :
و ع ق ر، ل ك ي، …، مَ، هُ، ط ب ب، عيني . فأي معنى قد يكون سوى دواء لانه اقترن بطبيب عيني؟ وهل يمكن قبول المعنى المكرّر بأنّه “ذريتي ونسلي”؟.
إننا ندرك تأثير التطور العام على اللّغة التي مرّت بأطوار عديدة، و إن كنا قد عثرنا على اللام المحكية، فإن أول ظهور لـ “ال” التعريف بشكلها الحالي قد كان بعد ٥٠٠ سنة من هذه النصوص وتحديداً في نقش “عين عبدات”، حيث شاءت الصدف أن تكون فلسطين هي المكان الذي عثر فيه على أول نص باللغة العربية وفق صيغتها الفصيحة الراهنة، وهنا أثني على جهود الباحث “اللاأكاديمي”، الأستاذ سعد الدين أبو الحب، القارىء العربي الأول لهذا النّص المهم، والذي يُسكت كل السنة النفاق السابقة والحالية التي تنفي وجود العرب ولغتهم خارج الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وأتساءل أين مراكز البحث والجامعات العربية والأكاديميين، فبدل أن يتقدموا له بكل الاحترام والشكر، يتعرض للنقد ويُوصف “باللاأكاديمي” كأنها نقيصة أو تهمة !!
جدول من نقش عين عبدات
قراءة النص :
في فعل لا ف ذا و لا الثرى فِ كُنْ هَنا.
يبغنا الموت ولا أبغه فَ كِن هُنا .
و نلاحظ ال التعريف في صيغتها الحالية في كلمة “الموت”، و نلاحظ الضمائر المتصلة “نا في يبغنا” والضمير “ه “المفرد الغائب في كلمة يبغه” و نلاحظ لا النافية في البيت الأول والثاني، وحرف العطف “الواو”، ونلاحظ الجناس في تكرار “ف كن هنا”، ففي الأولى فِكُن: بكم، فيكم هَنا : هناء، أي لا يهنأ التراب بكم، أما الثانية : ف الاستئنافية، كِنْ : فعل أمر من الكينونة، هُنا : ظرف مكان، ولعل كّنْ : كان فعل ماض ناقص وهو احتمال ضعيف، وفي كل الحالات فأن لغة هذا النص عربية بلا ريب، إلا أن هناك من يهوى و يرغب في أن يتلاعب بلغة النص و “يعتقد” ، بأن واو حرف العطف بعد كلمة الموت هي بدل الضمة ، وهي الموتو !!!، و إذا كان حرف المد الطويل بدل حركة، فلماذا لم تستبدل باقي الحركات بحروف المد الطويلة ؟
هذه القراءات الخاطئة والعامة في النقوش الأثرية، والتي ذكرتها كأمثلة، تهدف إلى طمس لغتها الحقيقية، واختلاق مفردات مبهمة، وجميع ما ذكرته يدل على أن لغة النصوص أحد أطوار اللغة العربية، كان أوضحها نقش “عين عبدات”، بسكون العين وكسر الباء، كما ينطقها أبناء المنطقة، ولنتذكر جيداً، أن عشيرة العْبِدات أشهر من أن تعرف ومنتشرة في المنطقة، وتحت أقدامهم اليوم عثر على هذا النص.
هذه القراءة العامة في النصوص الأثرية بأجزائها الأربعة غطت أكثر من نصف النصوص الآرامية المكتشفة في سوريا، التي بلغت ٢٣ نصاً اثرياً، تتحدث عن ٤٠ مملكة، بواقع نص أثري واحد لكل مملكتين، أي أقل ماعثر عليه حول مملكة مؤاب، التي تركت نصاً أثرياً واحداً بالتمام والكمال!!! ، ونص مملكة مؤاب، هو النموذج الأمثل ليخدم الرواية التوراتية، وكان أفضل الأدلة التي تثبت مملكة داود، كما أننا سنجد ١٧ نقشاً آرامياً تمت قراءتها وكأنها سجلات توراتية، وجعل علم الآثار نصوصه جزءاً من لعبة كبيرة، وما هذه اللعبة الأثرية إلا جزء من عملية أوسع وأشمل.
وفي دراسة مقبلة سنوضح كيفيّة إطلاق أسماء العلم وأسماء الممالك الغريبة عن هوية المنطقة، كما سنتطرق إلى الشعوب والممالك التوراتية، والتنقيبات الأثرية التي أعلنت عجزها عن اكتشاف أثري واحد، وإن وجد في نصوص من سوريا والاردن ولبنان ما يسعف الرواية التوراتية من السقوط بشكل نهائي، فقد جرى ذلك بهذا المنهج الخاطئ..
________________________________
هوامش:
(1) : د. فوزي رشيد، قواعد اللغة السومرية، صفحات للدراسات والنشر، دمشق/سوريا، الطبعة الأولى، الصفحة 10 .
(2) : د. يحيى عبابنة، اللغة الكعانية، دار مجدلاوي عمان-/الاردن، الطبعة الأولى 2003، الصفحة 497.
(3) : د.فاروق اسماعيل، اللغة الآراميّة القديمة، منشورات جامعة حلب، الطبعة الأولى 2001، الصفحة 206.
(4) : د. فاروق اسماعيل، اللغة الآرامية القديمة، منشورات جامعة حلب، الطبعة الأولى2001، الصفحة 286.
(5) : د. اسماعيل، المرجع السابق، الصفحة 265 .
الأعزاء في مركز الجرمق الاكارم بعد التحية. قرأت الفسم الرابع للرائع خالد ايوب وحاولت ان اجد الاقسام من واحد الى ثلاث لم اجدها لا اعرف هل هي عدم معرفتي باتكنيك ام ماذا اقترح ان تكون السلسلة متوالية اي الواحدة بعد الاخرى لسهولة تناولها هذا واحد ثنين اقترح عند كتابة النقش ان يكتب التاريخ اللذي يعود لهذا النقش وان يتم التوضيح للنقش بشكل افضل مما هو عليه الان يعني لا يكفي توضيح الحروف بالشكل لغويا فقط بل كيف فسره المؤرخين وما هو المدلول الحقيقي له بتبسط اكثر لان النقوش في ملحمة جلجامش والاناليتي ايش اي الملحمة اللتي قبلها هي نقوش قلية جدا وتم كنابت مجلدات عليها فارجو من الاخ خالد ان يدع لنفسه الوقت للشرح المفصل لهكذا نقوش لانها في الحقيقة تستحق ذلك واكثر هذا ما استطعت التنويه له مع حرصي على ان هذا العمل والذي اراه ديدا بكل المقاييس يجب تعميمه ونحن في موزايك فلسطين جاهزين للدعم الكامل مع خالص المحبة والإحترام. خليل محمد
الاخ العزيز خليل محود
أقسام البحث المطلوبة موجود كافة .. لم تنشر بالترتيب والتوالي لأنها لم تكن معدة مسبقا بل مانت تصلنا من الباحث عل فترات
يمكنك البحث عنها في فئة التاريخ
دمت بخير وعذرا للتأخير في الرد