سهرة مع إلياس خوري وروايته ” رجل يشبهني ” -القسم الثاني-

V

جوليانو خميس وسؤال الهوية: من أنت؟

لا يوجه سؤال: من أنت؟ إلى آدم دنون الذي عثر عليه على صدر أمه تحت شجرة الزيتون والتقطه مأمون الأعمى وسماه آدم وربته منال فصارت أمه، لا يوجه إلى آدم وحسب؟ إنه يوجه إلى أشخاص آخرين أيضا ومنهم جوليانو خميس ابن العربي الفلسطيني صليبا خميس واليهودية القادم أبوها من لاتفيا (آرنا).

ما هي هوية الفلسطيني الذي يولد من زواج مختلط ينتمي الزوجان فيه إلى قوميتين مختلفتين متصارعتين؟

ثمة روايات فلسطينية قاربت هذا الموضوع كنت توقفت أمامها منها رواية الأسير كميل أبو حنيش “مريام.. مريام” (2020) ورواية راوية بربارة “شواطئ الترحال” (2015). {هنا يمكن التذكير برواية سلمان ناطور “أنت القاتل يا شيخ” التي كتبها في 70 القرن20 عن قتل الدرزي للدرزي لانتماء كل منهما إلى طرف من أطراف الصراع. يخدم الدرزي الفلسطيني في الجيش الإسرائيلي ويخدم الدرزي السوري في جيش بلاده وفي الحرب يتواجهان عدوين}.

ولعل من الصفحات الجميلة في رواية “رجل يشبهني” تلك الصفحات التي تأتي على قصة جوليانو خميس وأمه آرنا وحياتها وتحولاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. من قيادتها سيارة القائد (غاندي) في (البالماح) إلى زواجها من الشيوعي صليبا خميس الذي أنجبت منه ثلاثة أبناء، وكان إلياس خوري كتب عنها مقالاً طويلاً في مجلة الدراسات الفلسطينية نشره في عدد خريف 2011*، وما ورد في الرواية يطابق ما ورد في المقال .

كيف ينظر إلى جوليانو؟ هل هو فلسطيني بحكم الأب أم أنه يهودي بحكم الأم والديانة اليهودية؟

يخدم جوليانو في الجيش الإسرائيلي، فهو حسب الديانة اليهودية يهودي، وذات نهار توقف الدورية التي يخدم فيها عمه القادم من الناصرة إلى جنين ليعالج أسنانه.

يخجل جوليانو من الموقف ومن تفتيش عمه وسؤاله عن هويته، فيدير وجهه ويتهرب من مسؤوليته، وحين يأمره الضابط (داني) أن ينفذ التعليمات يضربه جوليانو فيسجن.

كان آدم دنون قرأ قصة صليبا خميس وزوجته وأبنائه الثلاثة في رواية الكاتب العراقي كمال صلاح / سمير مارد / سامي ميخائيل “ملجأ” ، ولكنه لم يلتق بجوليانو، وتم اللقاء لاحقاً في نيويورك حين ذهب جوليانو ليعرض فيلمه “أولاد آرنا” عن أطفال مسرح الحرية في جنين؛ المسرح الذي أسسته أمه. وهناك يتحاوران ويقود الحوار إلى سؤال هوية جوليانو الذي يجيب آدم حين يسأله “وهلق إنت إيش؟” يجيبه بالآتي: “أنا عربي فلسطيني مئة بالمئة ويهودي مئة بالمئة”. وفي صفحات لاحقة يواصل جوليانو سرد مأساته: “أمي كانت اليهودية المضطهدة [اسم مفعول] التي شعرت بأن عقدة المضطهد [اسم مفعول] التي تعانيها كيهودية امتزجت بعقدة المضطهد [اسم فاعل] التي تعانيها كإسرائيلية .

والله يا أخي تعبت من صفة العربي التي لاحقتني وجعلتني أشعر بأنني غريب في بلادي، فقررت أنني يهودي لأن أمي يهودية، وتطوعت كمجند في جيش الدفاع الإسرائيلي، والتحقت بإحدى فرق النخبة، أي المظليين”.

يسجن جوليانو إذن لأنه خجل من سؤال عمه على الحاجز عن هويته ثم يخرج ويقول حول تجربته: “دخلت إلى السجن يهودياً وخرجت منه عربياً”.

يحكي آدم عن الفرق بينه وبين جوليانو الآتي: “جوليانو عكسي تماماً، فهو فلسطيني حقيقي ويهودي حقيقي، أما أنا فاخترت أن اجعل من حيرتي هويتي. ادعيت أنني يهودي كما ادعيت أنني فلسطيني، وفي الحالين كنت في اللامكان. أما هو فكان في المكانين، سجن وأدخل إلى مستشفى للأمراض العقلية العصبية، لأن الفلسطيني الذي فيه ضرب ضابطاً إسرائيلياً بكعب بندقيته”.

وربما كان الكاتب الإسرائيلي (يورام كانيوك) في روايته “عربي جيد” أول من ناقش هذه الإشكالية، وقد توقفت أمامها في كتابي “أسئلة الرواية العربية” 2018.

جوليانو ابن الفلسطيني سجنه قوم أمه اليهودية -أي الدولة الإسرائيلية، وقتله قوم أبيه الفلسطيني في مخيم جنين، هذا إن كان القاتل فلسطينياً!!.

….

*لفتت الدارسة نوال الستيتي نظري إلى ما كتبه إلياس خوري (في مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 88. خريف العام 2011 صفحة 133 وما بعدها ) عن جوليانو خميس. وكنت في السهرة الأولى مع الرواية كتبت إن إلياس خوري يدرس وفق مقولة المنهج الوضعي التي لا تفصل بين الأديب وأدبه. إن ما أورده آدم دنون عن علاقته بجوليانو يتطابق تماماً وما كتبه إلياس في مقالته. وكنت من قبل كتبت إن إلياس مثل جبرا إبراهيم جبرا يوزع أفكاره ورؤاه على بعض شخوص روايته، ففي شخصياته شيء منه).

VI

من أنت ؟ من أنا ؟ من أنتم ؟

في مدخل الرواية لاحظنا أن الروائي أتبع كلمة “مدخل” بالسؤال: “من أنت؟”. وسنلحظ أنه بعد العنوان “المرايا المتقاطعة” في صفحة 121 يبدأ الكتابة بالسؤال “من أنتم؟”. هل تبادر الـ “أنت” بسؤال من سألوها، فترد على السؤال بسؤال؟. هل لما سبق علاقة بإنكار الـ “أنتم” وجود الـ “أنت”؟.

لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني. هذا ما قاله بعض المسؤولين الإسرائيليين. إنهم لا يعترفون بوجود شعب على أرض فلسطين؛ لأن اعترافهم ينقض الفكرة التي بنوا مشروعهم عليها “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”. ربما فيما سبق بعض شطط لا تقوله الرواية، وربما هو إسقاط القارئ لكثرة ما قرأ في الموضوع. غير أن الضمائر في الرواية تتكرر بكثرة: الأنا ولأنا المنشطرة عنها والأنا وشيطانها= المثنى، والهم “الآخرون هم الجحيم” والأنا المتكلم الذكر والأنت المتكلم الأنثى والنحن والأنتم .

في الصفحة 50 استحضار لمقولة (جان بول سارتر) “الجحيم هم الآخرون” ونقض لها. يكره آدم تعبير سارتر ويرى الفيلسوف مخطئاً، فالجحيم هو غياب الآخرين، والحياة هي الآخرون ويتجادلان حول الـ “هم” الذين يختلفون عن بعضهم والذين هم وجوهنا الأخرى وقد يكونون مرآتنا التي لا نريد أن نراها. وسيكتشف آدم بمرور الأيام “أن الآخرين الأقرب إلى قلبي وحياتي صاروا جحيمي” (51). هل آباؤه الثلاثة الذين اخترعهم صاروا جحيمه؟.

في حواره مع دالية عن عذابات الفلسطينيين التي سببها لهم المشروع الصهيوني تتحدث عن العذابات التي يعاني منها الشباب الإسرائيليون الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي. كان آدم ودالية ظنا أن الحب وحّدهما فصارا أنا واحدة لا شخصين اثنين، ولما أتيا على سيرة داني الجندي الذي قتل وانتحار صديقه الجندي عساف / آساف يحتد الجدل بينهما وتصرخ في وجهه: “توقف عن هذا الهراء، هذا انتحار سياسي!”. فيسأل آدم دالية: “- شو يعني؟”. فترد: “يعني هذا احتجاج . أنت لا تعرف شيئا عن معاناة جنودنا بسببكم؟”

وهنا يسألها: “من أنتم ومن نحن؟”. فترد: “هؤلاء الشبان الصغار يؤخذون إلى الموت من دون أن يعرفوا لماذا يموتون”.

-“المعاناة ليست بسببنا إذا، بل بسببكم أنتم”.

فتسأله: “شو هالحكي؟ من نحن ومن أنتم؟”

فيجيب: “سألتك هذا السؤال ولم تجاوبي، فأنت استعملت هذه الضمائر أولاً، وهذا ما أذهلني. كنت أعتقد أننا -أي أنت وأنا- كسرنا هذا التقسيم ودخلنا في مكان آخر”.

ثمة حديث متواصل بين آدم ودالية يظل لضمائر نحن أنتم أنتم هم حضور فيه، وحين يتأزم الحديث وتغضب يعتذر ويتظاهر بأنه كان يمزح وأن مزاحه لم يكن في مكانه. ومع ذلك يظل الحديث عن الإسرائيليين والفلسطينيين كطرفين.

إن مرايا آدم المتعددة التي يظهرها لدالية: إسرائيلي يهودي يتعاطف مع عساف / آساف لأنه إنسان وليس جندياً إسرائيلياً، وكونه أيضاً فلسطينياً تفرض عليه في النهاية الافتراق عنها، واللقاء الذي يتخيله معها في نيويورك في نهاية الرواية لا يتحقق. (في الجزء الثاني “نجمة البحر” يزور آدم غيتو وارسو ويتخيل نفسه صار يهودياً ليفهم معاناة اليهود).

إن الضمائر في الرواية وإشكالاتها ليست بأقل تعقيداً من تعقيدات سؤال الهوية، وكلا الأمرين يشكل محوراً يظل يتكرر في الجزء الثالث تكراراً لافتاً. إن الضمائر شكلت مفاتيح لأجزاء من الرواية حضرت في المتن، وقد يذكرنا هذا بقصائد محمود درويش “سجل أنا عربي” – أنا أنت و”عابرون في كلام عابر” -نحن أنتم- و”قال المسافر للمسافر” -أأنا أنا؟ .. في كل “أنت ” أنا، أنا أنت المخاطب، ليس منفى أن أكونك. ليس منفى أن تكون أناي أنت.. وهلم جرا.

وعموماً فإن الكتابة -اللعب فكرة تكمن عميقاً في وعي إلياس خوري وتتطلب من يتابعها ويقتفي أثرها في أعماله ابتداءً من “باب الشمس” ومرورا بـ “يالو” وانتهاءً بـ “رجل يشبهني”.

VII

دفاتر آدم … دفاتر إلياس

آدم دنون ابن شجرة الزيتون، إذ لا يعرف من هو أبوه ولا تعرف أيضا أمه الحقيقية؛ لأنها ماتت في يوم تهجير أهل اللد وطردهم في عام النكبة 1948، آدم الذي التقطه مأمون الأعمى وربته منال يدرس كما لاحظنا في “نجمة البحر” في جامعة حيفا ويغدو كاتب مقال أسبوعي، حول الموسيقى، في صحيفة إسرائيلية عبرية، ويقيم فترة في تل أبيب فيثقف نفسه ويقرأ، وحين يهاجر إلى نيويورك ويعمل في مطعم (بالم تري) مع شريكه الإسرائيلي ناحوم هيشرمان، يبدأ يكتب عن تجربته التي عاش بها، ويظل سؤال الهوية والأدب يلازمه، يكتب في دفاتر خاصة ستصل، بعد موته، كما لاحظنا مراراً، إلى إلياس خوري عن طريق طالبته الكورية (سارانغ لي) التي تكتمل شخصيتها الروائية وتتضح أكثر في “رجل يشبهني”. لقد ظهرت (سارانغ لي) في “اسمي آدم” ثم سافرت إلى لندن لتكمل دراستها وتعود إلى نيويورك وتزور أستاذها اللبناني وتعلمه عن مشروعها في الزواج ومآل علاقتها بآدم الذي مات في نهاية “رجل يشبهني” وآلت دفاتره إليها فسلمتها بدورها إلى إلياس خوري، وعليها بنى ثلاثيته. (يرد ذكر تسليم سارانغ لي الدفاتر لإلياس خوري في مقدمة الجزء الأول “أسمي آدم”(صفحة 13) وتتكرر الكتابة عن الدفاتر وعلاقة سارانغ لي بها في الصفحة الأخيرة من “رجل يشبهني” (صفحة 500)، )

ما سبق يعيد القارئ إلى المقولة النقدية التي تميز بين الكاتب والمؤلف الضمني والشخصية؛ وكنت كتبت عنها في “أسئلة الرواية العربية: الياس خوري في روايته “أولاد الغيتو: اسمي آدم”. نحن إذن أمام دفاتر آدم وقد غدت بين يدي الروائي والناقد والأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي إلياس خوري.

في الجزء الأول “أخبر إلياس قراءه عما قام به. كأنه أعاد نشر الدفاتر مع تغييرات طفيفة، وعليه كأننا نقرأ نحن دفاتر آدم، فنقرأ عنه وكأن لا صلة لإلياس بآدم إلا إن كان آدم نموذجا لأشخاص تشابهت تجربته مع تجربتهم أو تقاطعت معها. هنا يصبح آدم نموذجاً لكل أولئك الذين يشبهونه أو تتقاطع تجربتهم مع تجربته: سعيد .س في رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” 1969 والطفل الذي كتب عنه عودة الرنتيسي في كتابه عن تجربة الخروج من اللد وكان هو نفسه أحد ضحاياها، إذ كان يومها في الثانية عشرة من عمره، ومن المؤكد أن هناك تقاطعات أيضاً بين تجربة آدم وتجربة الشاعر راشد حسين الذي مات في نيويورك في شباط 1977.

“كانت إيما بوفاري تمثل نفسها وتمثل في الوقت نفسه كل امرأة تتطلع إلى ما تطلعت إليه إيما. إن إيما نموذج لها ولطبقتها ” يقول النقد الماركسي. وهكذا يمكن أن يكون آدم نموذجاً للأطفال الفلسطينيين الذين عاشوا النكبة وتقاطعت تجربته مع تجربتهم.

كيف إذن يمكن أن نرى في دفاتر آدم دفاتر إلياس ونوحد بين الاثنين والياس ولد في بيروت؟

إن التقاطعات بين الاثنين تكمن في أنهما من جيل واحد، فهما من مواليد العام نفسه، وهو العام 1948، وتكمن في أنهما مثقفان وأنهما أقاما في نيويورك ولهما اهتمامات بالقضية الفلسطينية والأدب والفن ويؤرقهما سؤال الهوية وأسئلة أخرى عديدة، وقد انعكس ما سبق في دفاتر آدم وكتابات إلياس خوري في مقالاته ودراساته ورواياته السابقة .

في “رجل يشبهني” كتابة ومناقشة لفكرة العرب عن شياطين الشعراء الذين يوحون لهم بما يكتبون، كأن الشيطان هو آخر الشاعر، وكأن آدم هنا آخر إلياس أو العكس -أعني أن إلياس هو آخر آدم. وبما أن الرواية تحفل بمناقشة دور الخيال في الأدب، فيمكن القول إن إلياس خوري هو من اخترع شخصية آدم من خلال قراءاته لروايات كثيرة ولكتب مذكرات فلسطينيين كتبوا عن اللجوء، وقد أقر إلياس بأن روايته ما كان لها أن تنجز لولا ذلك ولولا مساعدات عشرات الشخوص له.

يستطيع قارئ إلياس خوري أن يعود إلى كتاباته قبل صدور الرواية ليقرأها من جديد وليجري موازنة بين ما ورد فيها وما ورد في الرواية، وقد أشرت إلى هذا في قراءة سابقة حين أتيت على قصة جوليانو خميس.

إن إجراء موازنة بين ما ورد في دفاتر آدم وما ورد في إحدى افتتاحيات إلياس لمجلة الدراسات الفلسطينية في العام2011 تقول لنا إن افتتاحية إلياس هي إحدى دفاتر آدم التي شكلت مادة كتابة ثلاثية “أولاد الغيتو”.

وكما ذكرت سابقاً، كان الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا يوزع أفكاره على شخصياته. هل يمكن القول إن إلياس فعل هذا أيضاً؟ مازال الموضوع يحتاج إلى متابعة.

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *