استهلال:
كل يوم اقف أمام المرآة مردداً: لقد تحولت إلى شبح إلكتروني. لا أصدقاء لي، إلا عشرات من الأصدقاء الافتراضيين. لا ذكريات لي عن أشخاص أو أماكن، إلا التي أطالعها عبر صور الإنترنت. لا أحد يعرفني في الحيـ إلا كلاب الشارع الضالة، وبضع مومسات يبحثن عن فتات النقود لدفع الجوع عنهن. لا عمل مريح لي، فأنا رغم بلوغي الخامسة والستين، أركض لاهثاً من الصباح للرباح والعشاء خبيزة كما يقال.
أنا شبح في المنزل وفي الشارع وفي كل مكان. كل ما بتُّ أخشاه الآن أن تكتشف الدولة بأني بتُّ شبحاً قبل بلوغي سن التقاعد، فتمتنع عن دفع تقاعدي. الدولة لا تعيل الأشباح الإلكترونيين.
في شهادة ميلادي اسم لا أعرفه
في المنزل.. رجل لا أشبهه
في العمل.. إنسان أجهله
في كل مكان.. وجوه لا أنتمي اليها
لعله أنت/ أنتم.. أو، لعله هؤلاء.. لكنه لم يكن يوماً أنا.
سامر عبد الله:
سامر عبدالله الاسم الذي رافقني خمسة وثلاثين عاماً ليحل محل عماد أبو حطب الاسم الذي لم أعرفه إلا في شهادة الميلاد وفي أفرع المخابرات.
أربعون عاماً كان سامر عبدالله يقف أمامي، في المرآة، مادّاً لسانه، ساخراً ومتحدياً أن أجرؤ على الخروج من جلبابه والعودة إلى عماد.
مرّت الأعوام، وأنا صامتٌ لا أتململ إلى أن قررت الزواج. وهنا كان لا بد من طبع دعوات المعازيم. اسم العروس لا جدال عليه، أما اسم العريس فهنا الطامة الكبرى. كل من حولي يعرفني باسم سامر، ولكنه زواج وإشهار ولا بد من الاسم الحقيقي، على الأقل إرضاءً للوالد الذي اختفى اسمه طويلاً تحت حجج أمنية واهية، اكتشفت لاحقاً أن الأصدقاء من جهلوا أسمائنا لكن كل أجهزة الأمن كانت تعرف تفاصيل كنا نجهلها نحن.
تفتق ذهني عن حل ظننته عبقرياً، وضعت اسم الوالد بين سامر وعبدالله، أصبحت سامر سعيد عبدالله، ظننت إني، بذلك، نلت رضا الوالد ولم اكشف هويتي. طبعاً كان حلي الساذج لم يرض الوالد فلقب العائلة ليس موجوداً بل حتى أن هذا الاسم لا علاقة لابنه به.
هكذا تزوج سامر في ذلك اليوم، وسخر مني مجدداً إلى أن قتلته عن سابق إصرار وتصميم.
هروب:
هل يمكن أن تهرب من نفسك؟
سافرت، في العام 1979، من بغداد إلى بيروت لمهمة ما، وفي بيروت أحضرت معي العديد من المنشورات الممنوعة لحزب لم أكن عضواً فيه أو حتى صديقاً له وإنما نوعاً من المساعدة لصديق لي، ذلك الوقت كان أيام حزب البعث وصدام حسين. فتحت جوانب الحقيبة وخبأت المنشورات بها ثم أعدت إلصاقها. كنت يومها قد سافرت باسم عماد، لأول مرة، بعد أن تعودت على اسم سامر سنوات عدة. في مطار بغداد كان القلق ينتابني من اكتشاف المنشورات. سلّمت جواز السفر، وأخذه الموظف مع عشرات الجوازات إلى غرفة التشبيه والأرشيف. أيامها لم تكن الأتمتة قد وصلت إلى الحدود والمطارات. وقفت أنتظر وسط البشر، كانت جوازات السفر تتطاير من فوق الرأس، ينادى على الاسم ويطير الجواز من بعيد. انتظرت النداء على سامر لكن لا حياة لمن تنادي. بعد وقت طويل اقترب موظف الأمن مني وبيده جواز سفر ونهرني صارخاً: اسمك، فتحت فمي من الدهشة وقبل أن أقول سامر شتمني وقال: اصمخ أنت! ثم رمى جواز السفر بوجهي وبصق على الأرض، فتحت الجواز فإذ بصورتي مع اسم عماد. ركضت صوب مكان الشنط لأجد حقيبتي ملقاة بعيداً ولا أحد قربها. حملتها وهرعت خارجاً دون أن يعترض طريقي أحد. خارج المطار لم أستعد توازني إلا بعد السيجارة الخامسة. أحمد الله إني لم أنكر اسم عماد وإلا لأصبحت في خبر كان.
في شهادة ميلادي دُوّن اسم عماد، ولكني منذ أن التحقت بالمقاومة، ولدت من جديد حاملاً اسم سامر عبدالله الأمر، الذي جعلني أنسى اسمي الأول .سارت الأمور على ما يرام إلى أن حط بي المقام في بيروت وهنالك تعرفت على سامر عبدالله الحقيقي الذي بادرني بالقول: “هوه انته اللي مبهدلني كل ما نزلت على عمان؟”. ومنه عرفت أن سامراً هذا كان يُستدعى إلى مقر المخابرات للتحقيق معه، كلما وطأت قدماه أراضي المملكة حول ما كان يكتب باسم سامر عبدالله. وفي الوقت ذاته تعرفت على الصديق السوري د. عماد أبو حطب، والذي كلما غادر دمشق، أو عاد اليها كان مطالباً من قبل المخابرات بتفسير كيفية دخوله للقطر بعد طرده من أراضيها منذ العام 1976. وإلى أن يتم التأكد من تشابه الأسماء كان عماد ينال نصيبه من الإهانات حتى يعرف أن الله حق.
معرفتي بما يعاني منه سامر وعماد أوقعتني في تأنيب للضمير، وعليه أصبحت حينما أكتب ما يضر بسامر المسافر الى عمان أوقع باسم عماد وحينما أكتب ما يضر بعماد الموجود في دمشق أوقع باسم سامر، معتقداً بهذا أنني حللت المشكلة، إلى أن ساقتني الأقدار إلى دمشق، وبعيد أشهر الى عمان، وهنالك وجدت دفتر السيئات الضخم ينتظرني للحساب وفي رأس الملف عنوان واحد: المدعو سامر عبدالله أو الملقب بعماد أبو حطب. والعكس صحيح. يومها عرفت مدى معاناة سامر وعماد أعانهما الله علي كل البلاوي التي سببتها لهما وعرفت أيضاً مدى حجم كذبة الأسماء الحركية في تنظيمات مخترقة حتى النخاع والأهم إني عرفت وبالملموس أن الله حق.
الضياع:
حين عدت من النبطية باتجاه بيروت، لم أحمل اي رسالة تفيد بتسريحي، لم يكترث أحد إن كنت ما زلت في المعسكر، الذي علمت لاحقاً انه أصبح مقر كتيبة باسم الشهيد الذي حملت له رسالتي الأولى، ابن صيدا القائد الشهيد بهيج مجذوب/مراد، الذي لم التق به إلا ذلك اللقاء العابر، في يومي الأول، من الأسبوع الوحيد الذي قضيته كمتطوع. لن أفتعل بطولات وهمية، أو انتصارات في معارك لم أخضها، ربما لحسن حظي. عودتي كانت عبر المصنع، وهي كانت بدء ميلاد شخصية سامر عبدالله، الفلسطيني، وبدء موت عماد أبو حطب / اللبناني، الذي اكتشف فلسطينيته الحقيقية أثناء رحلة العودة.
هنا قفزة كبيرة للوراء يتداخل فيها الشخصي مع العام، وقد يتضمن بوحاً شخصياً لم أجرؤ طيلة 65 عاماً أن أتطرق إليه حول سنواتي الأولى، والتشظي الذي عشته بفعل عوامل متعددة. وعليّ أن اعتذر لعائلتي عن ذكر بعض مما يعتقد البعض أن لا داعي لذكره.
نظرياً، أنا ابن جمهورية الفاكهاني، فعائلتي تتوزع من شارع أبو سهل، وهو ممتد شمالاً ليصل محيط المدينة الرياضية مروراً بكراج درويش والجامعة العربية ومحطة الدنا، وهو أول مداخل مخيم صبرا الذي يمتد طولاً إلى سوق الخضرة، الذي بقي جدّي حارسه الليلي حتى رحيله في العام1983، (ولعلّي ورثت منه، أو أسير على دربه بعملي العضلي الليلي الآن وأنا في سن الخامسة والستين)، وسوق الخضرة يقع في ساحة صبرا، ملاصقا للبناية، التي تكدست فيها العائلة بعد لجوئها، في شقة صغيرة غرفتين ومطبخ وسقيفة، حَوَت جدي وجدتي في غرفة، ووالدي وأعمامي الأربعة وعمتي في الغرفة الثانية والكوريدور، إضافة إلى جدي وجدتي وأمي المقيمين في السقيفة، والمطبخ هو المكان الذي ولدت فيه لكني لم أعش في صبرا فعلاً. ولمجرد إني ولدت في هذا المكان، فقد حملت تشظي الشخصية معي منذ لحظة ولادتي، لم يبدأ التشظي مع سامر وإنما كانت جذوره الأولى في عماد ذاته.
لفهم هذا التشظي علي أن أشير إلى أن والدة أمي هي قبرصية، عرفت يافا وهي عروس حينما تزوجها جدي في إحدى سفراته. جدتي كانت تجيد التركية والإنجليزية حديثاً وكتابةً وتعلمتْ العربية بعد زواجها. كانت عروسا سمراء وحيدة، في بلد غريبة، لا تعرف لغته، وسط عائلة اعتبرتها غريبة عنها، فتعلمتْ الصمت، ولاحقا علمته لابنتها، وما زاد من وحدتها وجعل صمتها مزمناً أنها لم تنجب إلا والدتي، التي جاءت إلى الدنيا وحيدة لوالدة تنخر روحها الغربة والحنين إلى وطنها، فورثت والدتي الصمت عن أمها، وفاقم من صمت جدتي النزوح من يافا واللجوء إلى مخيم صبرا وشظف العيش في سنوات اللجوء الأولى. ولعل عمل جدي الليلي زاد الطين بلة، وجعلها تحادث ظلها وذكرياتها، ومنها ومن والدتي، التي عاشت وحيدة دون أخوة أو أخوات، ولاحقاً حتى من والدي تعلمت الصمت ومحادثة الظلال. وليت التشظي كان هنا فقط، فقد كان التشظي مزدوجاً، فحين كانت عائلة أبي في يافا كانت تكنى بالغرابلي، وفجأةً تحول اسم العائلة إلى أبو حطب، لأسباب لم أستطع الوصول إليها، والغريب أن كلتا عائلتي الغرابلي وأبو حطب سكنتا يافا قبيل النكبة أحدها في المنشية والأخرى في العجمي وفي حي النزهة…
تغيير الاسم من غرابلي إلى أبو حطب تم عند إصدار شهادة ميلاد، ثم لاحقاً جواز سفر فلسطيني لجدي والد والدتي باسم أبو حطب، بينما أوراق وجواز سفر جدي والد والدي كانت كلها باسم غرابلي. وهذا عنى أن أسم أبو حطب عاد أو استجد مع الحكم الانجليزي وبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. ولم يستطع أحد معرفة السبب ولماذا بدّل الإنجليز الاسم على أوراق أحد الأخوين دون الآخر، وهكذا وصل بيروت أخوان أحدهما غرابلي والأخر أبو حطب. والأغرب أن من حمل اسم الغرابلي نال الجنسية اللبنانية، وحملها أولاده وأحفاده من بعده ولكن تحت اسم أبو حطب واختفى الغرابلي من الوجود. أو تم اعدامه، بينما من وصل بيروت باسم أبو حطب بقي بهوية اللاجئين الفلسطينيين. وحملها هو وزوجته وابنته الوحيدة.
هذه احدى نتائج النكبة تفرق الأسر وتمزقها وغربة وانقطاع لصلات الرحم.
هكذا ضعت أنا بين الغرابلي الفلسطيني الذي تحول لأبي حطب اللبناني، وبين أبو حطب الذي لم يتغير اسمه والذي بقي فلسطينياً.
فهل حملت جينات ازدواجية الاسم هذه وانعكاساتها على ما تهيئه الأيام لنا؟..
تكملة الضياع:
كانت طفولتي على بعد آلاف الكيلومترات، من مكان ولادتي، حيث انتقلت وأنا ابن ما يقارب السنتين، بحكم عمل والدي كمدرّس في دولة الكويت إلى مدينة الكويت. هناك كنت موزعاً بين كوني لبناني الجنسية، ولد لأبوين فلسطينيين، وتشرب فلسطينيته عبرهما، لكنه في القيود الرسمية لبناني، وفي رحلة البحث عن الذات، لأي طالب أنهى دراسة الثانوية العامة، بدأ التشظي في حياتي. وبدأت رحلة المتاعب لوالدي والتي لن تنتهي إلا برحيلي، كما يبدو. في تلك السنوات الممتدة من أواخر العام 1959 وهو دخولي إلى الكويت، حتى العام 1974 عام التحاقي في الجامعة ،كان للمجتمع الفلسطيني في الكويت سمات خاصة.
حينما وصل والدي الكويت، قادماً من السعودية، التي عمل فيها بضعة أعوام في شركة النفط الإنجليزية، وعبر الإمارات، التي لم يلبث فيها إلا أشهراً قليلة، غادر بعدها إلى الكويت بعد حصوله على عقد عمل للتدريس فيها. كان قد حصل على الماتريك الفلسطيني قبل النكبة بعام واحد، في يافا، ليغادر يافا إثر النكبة إلى غزة ثم بيروت مع عائلته. وكانت الماتريك من الشهادات التي يتحصل القلة عليها حينذاك. في السعودية، التي وطأ أرضها عازبًا، كان يفكر في تركها والعودة إلى بيروت، فقد أكله الحنين إلى العائلة، خاصة في ظل صعوبة المعيشة أيام عصر خليج ما قبل النفط، وحلمه بالعمل مستفيداً من شهادة الماتريك، لهذا ما أن حظي بعقد عمل كمدرس في الكويت ،حتى شد الرحال إليها سنة 1952، عمل لفترة العام، وما أن تم تثبيته في الوظيفة، حتى غادر سريعاً إلى بيروت سنة 1953 ليتزوج من ابنة عمه، ويبدأ رحلة الذهاب والإياب بين الكويت وبيروت، إلى أن نقل زوجته وأطفاله إلى الكويت في العام 1959.
ففي السنوات الأولى كان الجسم الرئيسي للمجتمع الفلسطيني في الكويت من فلسطيني لبنان والأردن، وكان مجتمعاً محدود العدد، أغلبه من عائلات المدرسين، وبعض المهندسين والأطباء والمتخصصين في مجالات محددة معظمهم توظف في وزارتي الأشغال أو المعارف، الذين شكلوا لبنة رئيسية في وضع المنهاج التعليمي في الكويت وفي مأسسة بعض الوزارات، ولم يكن لهم تجمعات سكنية خاصة بهم، كما هو حال مخيمات لبنان أو سوريا أو الأردن. وهو ما تطور وتغير لاحقاً بعد حرب حزيران، تحديداً. كانت السمة المميزة للحالات المتناثرة والتي لم تشكل مجتمعاً متماسكاً أن الأغلبية منها كانت متعلمة، ومعظمهم له تجارب على الصعيد الوطني وإن كان بشكل فردي، عبر النشاط في حركة القوميين العرب أو حزب البعث أو الإخوان المسلمين أو عبر التأثر بالزعيم عبد الناصر وتجربة الشعب الجزائري للخلاص من الاستعمار الفرنسي.
ما زالت رائحة ذكرى البيت الأول في الكويت تعبق في ذاكرتي. كان البيت في منطقة جليب الشيوخ، حيث عمل والدي بادئ الأمر في مدرسة نعيم بن مسعود، ثم انتقلنا إلى منطقة الفروانية في بيت عربي لا زلت أذكره، مع تسلم أبي لعمله في مدرسة المثنى الابتدائية، التي أصبح لاحقاً مديرها سواء في دوامها الحكومي أو في دوام مدارس المنظمة لاحقاً حتى تقاعده.