ّيرسم الحلم بأنامله الذهبية، فيتوهج القمر بأغنية حب… يتراقص معها الصباح، يغادر سريره، ويرتشف قهوته السمراء. تصحو ذاكرته على ليالٍ أشبه بوطن.. مر بها.. أو منها عبَرَ.
يسبقه ظله وعلى مقعد خشبي يرمي بتعبه، على الناحية الأخرى شجرة حور تتقاطع مع بيت صغير! يقفز فجأة ويسرع إليه، أسلاك تحيط به من كل مكان، وجدرانه تكاد تقع، سقفه الطيني مبتل ونبتت عليه أزهار البابونج بكثرة، يبدو أنه مهجور منذ زمن.
توغلت نظراته في سقيفة البيت المهترئة، أمعن فيها بخوف شديد، امتطى أحلامه السابقة، هزَّ الباب الخشبي الصدئ، هزه بقوة وعيناه ترتجفان، أحس بصدره صفيرا، لهث من كثرة التعب. ركن جانبا وهو يمسح عرقه الشديد:” يا الله! اشتقت لهذا المكان.. مضى وقت على الغياب، أين كنت”، نظر إلى يديه بتعجب بالغ ” كبرتما عشرين عاما، والمكان معكما شاخ”.
استعاد قوته ووقف على قدميه بصعوبة، هرول إلى بيته عائداً، دخل غرفته وأخذ يبحث في خزانته عن صندوقٍ خشبيّ. وجده تحت “منشفة” زرقاء بالية، سحبه بقوة، رمى محتوياته أرضاً محركا إياها يميناً ويساراً، وجده أخيراً، مفتاحاً متوسط الحجم، أمسكه بقوة، إنه مفتاحه الذي حافظ عليه سنوات طوال، حمله وكأنه وجد به ضالته، تحسّسه بحبٍ وشوقٍ كبيرين، ووقف فجأة ودون تفكير أسرع إلى ذلك البيت الصغير..
المسافة ما بين بيته وما بين البيت الصغير لا تتجاوز الدقيقتين، ولكنه شعر أنها سنة ” كنت زمان وأنا عمري 10 سنين، أجي هون عند ستي الله يرحمها، ستي صابرة إمو لأبوي، كانت حنونه وقلبها طيب كانت تحكيلي عن بلدنا بفلسطين يا الله شو مشتاق أفوت عالبيت اشوفها”.
أمسك مفتاحه أدخله في القفل الصدئ.. تحرك بصعوبة بالغة، ها هو ينتصر على الصدأ والأيام الزاحفة نحو الزمن، يحركه بيدين ترتجفان يفتح القفل، يطير فوق أحلامه الماضية، يشعر أن الشمس تشرق بقوة تلفحه بنورها الذهبي فيدخل عالمه الماضي من جديد.
جدته لأبيه عاشت في هذا المنزل الصغير أو في هذه “الخرابة” كما يطيب لأهل الحي أن ينعتوها، قرابة عشرين عاما قبل أن تموت بحادث سير وهي تقطع الشارع ظنّاً منها أنها في كرم الزيتون في صفد. قبل وفاتها بعام كامل أو أكثر، فقدت ذاكرتها الجديدة، وعادت إلى ذاكرة أقوى، عادت شابة في فلسطين، تزرع الأرض وتحصد القمح، وتربي أولادها، كأي امرأة في ذلك الزمن.
صابرة أم حسن، عندما خرجت من وطنها في تشرين أول 1948، أي بعد النكبة بأشهر قليلة، لم تذق طعم النوم أبداً، ولم تعرف الراحة طوالها، كانت تنتظر كل يوم مثلها مثل كل اللاجئين العودة إلى الوطن. أولادها الثمانية يكبرون حولها، أما بكرها حسن فقد تزوج قبل النكبة بعام واحد وولدت زوجته محمداً، حفيدها الأول الذي لازمها طول فترة مرضها كما قال الجميع ” خرفت راحت ذاكرتها الله يعينها”، إلّا هو كان يقول جدتي الآن عادت سليمة.
بعد عامين من النكبة وبوساطة تصريح ذهبت صابرة لزيارة وطنها وقريتها، وعادت منها بغرسة زيتون أخضر وأوراق مريميّة، وحفنة تراب، هالتها أمام منزلها الصغير في المخيم وزرعت فيها زيتونتها.
كبرت الزيتونة أمامها ومعها كان يكبر محمد، هو أكبر منها بثلاث سنوات، لكن جدته من شدة تعلقها به كانت تجلسه كل يوم بالقرب منها تسقيها وتحدثه عن بلدته في فلسطين، وتغني له أغانٍ قديمة حفظها عنها وما يزال يحفظها حتى الآن.
تعلم منها معنى الكفاح، وكيف أن الوطن لا يسترد إلّا ببندقية وغنّى معها لحن الثوّار وعزفه عند استشهاد والده في جنوب لبنان بعد أعوام قليلة من النكبة أثناء تسلله إلى فلسطين مع مجموعة من الشبان.
اقترب من زيتونته التي كبرت معه، ورافقته في شبابه، وحملت همّه وفرحت لفرحه، تحسّسها بأنامله ” أديه بعدك قوية وصابرة زي ستي صابرة، سنين طويلة تركتك وأنت لحالك، يا ريحة الوطن!”.
سمع صوتا يأتي من بعيد، التفت خلفه، إنها ابنته صابرة التي أسماها تيمنا بجدته، نظر إليها بشوق كببر ولهفة، اقتربت منه قبلت يده قائلة ” الحمد لله على سلامتك يابا، وأخيراً رجعتلك ذاكرتك ورجعت متل أيام زمان”.
- يابا إيش صار أنا مش متذكر اشي؟
- يابا احنا ما بنعرفش إشي، بس قالو لنا إنه استشهد قدامك رفيقك صلاح، واتصاوبت أنت بإجرك، وضلّيتك تسحب فيه وتمشي بين الوديان لوصلت للبنان، ولما صحيت بالمستشفى، صحيت مش متذكر إشي.
- صابرة يابا، وين امك واخواتك مش شايف منهم حدا بالبيت؟
- لما ولدت إمي علي أخوي الأخير، وضلّينا فترة ما نعرف عنك وأنت بالمستشفى، تعبت كتير المرحومة وتوفت من تلاتين سنة، وعلي عمره شهر.
- أخ يابا ماتت وأنا ما عارف إنها ماتت،.الله يرحمك يا آمنة.
- أما اخواتي كلهم اتزوجوا وسافروا، وعلي بكمّل دراسات عليا في لندن، وأنا يابا اتزوجت وبقيت بالمخيم، وهياني باجي عندك كل يوم، لأنك أنت رغم إنك فاقدة ذاكرتك بس ما رضيت تترك البيت.
- أخ يا صابرة أخ، لإيمتى أرواحنا بدها اتضلها صابرة.
- طول ما هالزتونة لاجئة زينا وناطرة ترجع معنا، حنضل صابرين، ما تخاف بكرا حنرجع البلد عم تستنانا مش هيك علمتنا واحنا صغار.
- يعني انت كنت تهتمي بالزتونة؟
- آه يابا وكنت أخبي المفتاح مكانه، وبالصندوق ذاته وتحت منشفة إمي الزرقا الله يرحمها.
وتغيب العيون بالدموع، يضمها إلى قلبه وتضمه بحنان، وتبحر بهما الحياة من جديد في مخيم لا تشرق عليه الشمس كل يوم إلا وهي تحمل في بريقها أحلام العودة والوطن واللاجئين. وتودعهم على أمل لقاء جديد ونصر قريب.