على الطريق

قصة قصيرة

رجل أربعيني يجول الساحة ويردد هذه الكلمات:
أنا أخطط
أنا فنان
أنا لا أبيع الأقلام
توقفت أنظر إليه، ملابسه رثة، غير نظيفة، يحمل بيده كرتونة كتبت عليها تلك الجمل التي يرددها، ويحمل باليد الثانية بعض أقلام التخطيط وبعض أقلام الحبر الأزرق الناشف “BIC”. قضيتُ مع هذه الأقلام أيام الطفولة والصبا المبكر؛ من الصف الرابع الابتدائي عندما بدأت الكتابة بالقلم الحبر وامتنعت عن الكتابة بالقلم الرصاص، ثم الإعدادية فالثانوية.. كل هذه السنوات قضيتها وأنا أكتب بهذا القلم.. “البك” هو فخر الصناعة الفرنسية.. تركتُ الأقلام وشأنها وعدت إلى ذلك الفنان الذي أصابته لوثة في عقله، والذي لابد وأنه يحن إلى أيام صباه ومراهقته وشبابه رفقة هذه الأقلام الفرنسية الحميمة قبل غزو تلك البضاعة الهندية والصينية القميئة لأسواق اليوم.. وفكرت وأنا أنظر إليه، كان يضحك حيناً ويبكي حيناً، يؤشر بيديه إلى الذين يمرّون من أمامه، كنت أقف على الرصيف المقابل له. هل ازداد عدد المعتوهين في العاصمة؟ أم أن عاطفتي هي التي تخدعني فتوميء لي بهذه الفكرة؟ هنا وهناك، في كل مكان، شحاذ ومعتوه.. يا رب السموات السبع ورب العرش العظيم اشملنا برحمتك الواسعة يا إلهيَ الكريم!
إنه مشواري الأسبوعي المعتاد إلى المدينة، كانت الأرصاد الجوية قد نبّأتنا ببعض الأمطار، أنظر إلى السماء، لماذا أنت بخيلة علينا هكذا؟ أين هو المطر؟ وأين هي الشمس؟ الشمس أهم ما في المسألة، ثم يأتي المطر بعدها.. واليوم، لا شمس ولا مطر! فلماذا أنت بخيلة علينا هكذا يا سماء؟ تذكرت عندما مازحتني صديقتي فقالت: لو رزقك الله بنتاً ثالثة لكنت قد أسميتها نجمة، فتحققين بذلك كلمات الأغنية: شمس وقمر ونجوم. قلت: بل كنت أسميتها “سما”..
تذكرت دفتر المطر، دفتر عمي محمد، في جزئه الأول من الكتاب استعمل كلمة “كرّاس”، أما في الجزء الثاني منه فقد استعمل له كلمة “دفتر”. نويت حينئذ، وأنا أقرأ في الكتاب أن أستفسر من الجوجل عن الفرق بين اللفظتين في المعنى (الكراس والدفتر) لكنني نسيت ذلك فقد انشغلت بتحضيرات الخروج من المنزل.. أمشي قريبا من ساحة المحافظة في قلب العاصمة، ها هو “يوسف العظمة” بجليل قدره يقف متوسطاً الساحة، هل يتوجب علينا أن نقول “بجلالة” أم “بجليل”؟ سأهتم بأمر الجواب لاحقاً.. فتذكرت الجليل الأعلى المحتل، بلادي الحبيبة، بلادي المسروقة، التراب المغتصب، المرأة الثكلى، العروس التي مهرها أنهار دماء تجري، بتعبير غسان كنفاني.. يوسف العظمة وما أدراك من يوسف العظمة؟ ميسلون والدماء.. الشهادة والكرامة والرجال والرجولة.. ارتبطت الفكرة في ذهني مع عبد القادر الحسيني، الشهيد المنسي، الثائر الصادق.. “ماكو مدافع يا عبد القادر”، اذهب وبَلّط البحر، اذهب ومُت بكرامة وحدك، دون عضد ولا سند، اذهب أنت وأصحابك فقاتلوا، إنّا هاهنا قاعدون.. فهم عبد القادر القصة كاملة، ذهب وأصحابه إلى ساحة المرجة، شربوا الشاي في المقهى في قلب العاصمة الرغيدة، وكتب كلماته الأخيرة هناك: “أحمّلكم مسؤولية ضياع فلسطين”.. وأرسلها في برقية إلى أمين عام جامعة الدول العربية، ثم عاد أدراجه إلى أرضه وأرض أجداده واستشهد في قرية القسطل في ضواحي القدس الشريف..

ما بال هذا الذهن الذي أملك يخلط الحابل بالنابل؟ الذهن والتذهن، القلب والتقلب، العاطفة والتعاطف.. لغتنا الجميلة، لعبة الكلمات، الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، وما خُلق الإنشاء إلا لقول الشِّعر..
صبية تقف في منتصف الشارع تقريبا، بداية شارع ٢٩ أيار في قلب العاصمة السورية، تشير بيدها إلى الباص ليتوقف إليها.. تقف غير عابئة بالسيارات التي تكاد أن تدهسها، أم أقول تدعسها؟ ما الفرق بين التعبيرين؟ كانت عينا الفتاة وذهنها متعلقين بالباص الذي يقترب، كل ما يشغلها الآن هو أن تجد لنفسها مداس قدم على جسم هذه المركبة الصينية.. مداس قدم واحدة منها تفي بالغرض، وأما الباقي من جسدها فيتعلق بالباب عبر يدٍ واحدة وذارع واحدة، والروح تبقى هائمة في مكان ما من هذا الكون الوسيع، فمن ذا الذي يعبأ بالأرواح اليوم؟! فالبلد له رب يحميه، وللشعب رب يتدبره!.
في ساحة “السبع بحرات”، حيث النافورة الساكنة التي تتوسط المكان، والمقابلة لبنك سوريا المركزي، الذي ينفث الدخان الأسود من مدخنته التي تعلو البناء فتلوث بذلك السماء الرمادية، يبدو أن المحرقة في الداخل تشتعل، النار تشتد أوارها، والأوراق النقدية القديمة المهترئة تحترق بسرعة والقلوب القديمة المهترئة تفعل ذلك أيضا..

 إلى البحرات السبع الساكنات، طفل يجلس على الرصيف، تخرج قدمه من نعل الحذاء، يبكي، يمتعض، يحاول الرفض، فتأتيه الصفعة على وجهه ورقبته، يتوجع ويتلمس قدمه المألومة، والأم الواقفة إليه قصيرة اليد إلّا عن صغيرها، ومعدومة الحيلة عن كل ما عداه.. الفقر مُهين والفقير مُهان والكرامة تكاد أن تُدعس، حالها حال الصبية التي تنتظر ركوب الباص في أول شارع ٢٩ أيار، عاصمة الياسمين العتيق هذه..
أم الفقراء سوريا، أية رواية وأية قصة وأي مقال يمكن له أن يستوعب المآسي الثقيلة هذه..
بقعة من كون اسمها دمشق، على هذه البقعة في شارع غير فقير طفل شريد يفترش متر رصيف، يتربع على كرتون قديم، قهر وبرد وظلمة.. ليل دامس يقبع في عينيه بالرغم من النهار الفاقع والشمس المحتجبة وراء الغيمة الرمادية.. غضب لئيم يفتك بجوانحه كلها..
واختتمت مشواري قرب جسر فيكتوريا، كان المساء قد حلّ، وكانت حفلة القربان المقدس على أشدّها، برميل حديدي مشتعل، النار غاضبة قوية وكبيرة، يتجمهر حولها شباب وصبايا، يتحدثون ويضحكون.. اقتربت منهم، وقفت بين الجمع، سألت اللا أحد منهم: أي طوطم هذا الذي تحتفلون به؟ ضحكت صبية وقالت: القربان المقدس السوري، الأضحية العظيمة! ضحك الشاب الواقف قربي وقال: نحتفل بإدراج قنينة زيت ثانية إلى مخصصات الأسرة السورية.. ضحكت صبية تحمل على ظهرها تشيللو كبير الحجم وقالت: بل سبب احتفالنا هو أن قسط المدرسة الثانوية نصف مليون ليرة سورية فقط للفصل الدراسي الواحد، في حين أن ثمن ليرة الذهب مليون وستمئة ألف ليرة سورية، فانظر واسمع و “رَ” و”عِ” يا رعاك الله! ورقعت ضحكة قوية ذكّرتني بالأفلام المصرية.. قال ثالث يقف مقابلاً النار المشتعلة بعد أن غذّاها بكرتونة صغيرة: بل لأنهم سيستبدلون البرتقال السوري بالموز اللبناني، والطماطم أم الألفين وخمسمئة ليرة ستذهب إلى الجحيم قريباً.. ضحكت صبية أخرى، كانت شعرها مقصوصاً كما يفعل الشباب، تضع خرزة صغيرة على أنفها وعدة حلقات في حلمة الأذن، بينما احتلّ وشم صغير الحجم على الرقبة أسفل الأذن، كانت ضحكتها ساخرة، ونظرتها ساحرة، بخطّ من الكحل الأسود الغامق الكثيف الذي يحيط عينيها الخضراوين، نظرتْ الفتاة في عيني مباشرة، أصابتني بالخوف للوهلة الأولى، قالت بصوت شديد النعومة: النشاط عظيم الجلل هذا الذي يصنعه شباب وصبايا دمشق الآن هو باختصار شديد أن عمّال النظافة لم يأتوا اليوم لتنظيف المكان وجمع القمامة، إذن، فهذا البرميل المشتعل يقوم بعملهم الآن، يقوم بعملهم بكامل أناقته ونشاطه وحيويته، ها هو قد جمَع القمامة وحرقها في قلب القلب منه، ها هنا، وأشارت إلى فوهة البرميل.. ورقعت ضحكة تزلزلت إثرها السماء والأرض وما بينهما..

هل تعلم كيف يمكن للمرء أن يعود سالما إلى بيته؟ أن يمنع الإحباط من أن يكبّل روحه قبل جسده؟

عدتُ إلى البيت، طرقت الباب، وفتح زوجيَ مبتسماً ومرحباً، مددت ذراعيّ إليه، شعرت أني مرهقة، رآني فأخذني في حضنه، أرحت رأسيَ المثقل على كتفه، سمعت صوت نبضات قلبه في شريانه السباتي القريب من وجهي، قبّلته واستشعرت الدفء في اللحم.. دفء الروح ودفء الجسد ودفء القلب، هو جلّ ما يحتاجه الإنسان المتعب.. استشعرت جمال العودة إلى البيت، من مرادفات كلمة البيت، المسكن.. المسكَن الساكن والمُسكن، الشريك الساكن المُسكن، والسكينة أهم ما في المسألة، فدعوت في داخلي أدِمها علينا يا رب!

 

 

عن ربا شاويش

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *