غاستون باشلار: حلم التحليق (2)

ترجمة: سعيد بوخليط

إنه إذن الإنسان/المنطاد، الإنسان/المنبعِث :سيغدو له صدر كبير، واسع وصلب، “هيكل سفينة هوائية”، محلِّقا وقد جعل :”الخلاء وفق مشيئته من خلال كتلته الرئوية الضخمة، ثم يضرب الأرض بقدمه، كما أن غريزة جهازه العضوي المتصاعدة ترشده نحو الإنسان خلال أحلامه”.

إن عقلنة تبدو لنا مفتعلة بكيفية فظَّة، بالتالي، مختصة جدا كي تظهر لنا ارتباط التجربة الحُلُميّة بالواقعية. يعقلن الإنسان إبان الحياة اليقِظة أحلامه وفق مفاهيم الحياة الاعتيادية. يتذكر بإبهام صور الحلم، بل يغيّر شكلها حينما يعبر عنها بلغة تلك الحياة. بحيث لا يدرك، بأن الحلم ضمن صيغته الخالصة، يهتدي بنا مطلقا نحو الخيال المادي وكذا الديناميكي، في المقابل، يفصلنا، عن الخيال الصوري. يمثل أساسا الحلم الأكثر عمقا ظاهرة للسكينة البَصَرية وكذا الشفهية.

يتجلى نوعان كبيران من الأرَقِ :الأرق البصري والشفوي. يحظى النوم برعاية مشتركة بين الليل والصمت؛ فلكي تنام يلزمكَ بالمطلق عدم التحدث أو المشاهدة. ينبغي الاستكانة إلى الحياة الأولية، بمعنى خيال العنصر الخاص بنا. تتخلص هذه الحياة من مقايضة الانطباعات التصويرية المتمثلة في اللغة. بالتأكيد، الصمت والليل مطلقان، لم يكشفا لنا عن كمالهما، حتى في غضون نوم عميق جدا. يلزمنا على الأقل، الإحساس بأن الحياة الحُلُميّة تعتبر بالأحرى أكثر صفاء بحيث تحررنا بامتياز من اضطهاد الأشكال، وتعيدنا إلى جوهر وكذا حياة العنصر الخاص بنا.

في خضم هذه الشروط، تجازف كل إضافة لشكل معين، مهما بدا ذلك طبيعيا جدا، بإخفاء حقيقة حُلُميّة، وكذا الانحراف بعمق الحياة الحُلُميّة. هكذا، وأمام حقيقة من هذا القبيل على قدر من الوضوح كما الشأن مع حلم التحليق، يلزم حسب اعتقادنا، كي نخترق ماهيته، تجنب حمولة الصور المرئية ثم الاقتراب إلى أقصى حد من التجربة الضرورية.

إذا كنّا على صواب فيما يتعلق بموضوع الدور التراتبي للخيال المادي قياسا للصوري، يمكننا صياغة التناقض التالي :بخصوص التجربة الديناميكية العميقة للتحليق الحُلُمِي، يمثل الجناح فعلا عقلانية. تحديدا وفيما يتعلق بأصله، قبل انصرافه وجهة عقلانيات خيالية، أشار شارل نوديي Nodier ،إلى هذه الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن التحليق الحُلُمِي لم يكن قط تحليقا ذا جَنَاح.

من ثمة ينبغي بحسبنا، حينما يظهر الجناح مع سرد حول حلم التحليق، الاشتباه في عقلنة لهذا السرد. يمكننا التيقن تقريبا على أنه سرد تلوَّث، سواء نتيجة صور الفكر اليقظ، أو جراء إيحاءات مصدرها الكتب.

طبيعة الجناح في مجملها لا تقدم شيئا للقضية. لا تمنع طبيعية الجناح الموضوعي، أن لا يكون الجناح عنصرا طبيعيا للتحليق الحُلُمِي. إجمالا، يمثل الجناح بالنسبة للأخير، عقلانية سَلَفية. شكَّلت فيما مضى صورة إيكاروس. بمعنى ثان، تلعب هذه الصورة، بالنسبة لشعرية القدامى، نفس الدور الذي يلعبه المنطاد ”الهيكل الهوائي” بين طيات الشعرية العابرة لشارل نوديي، أو الطائرة فيما يتعلق بشعرية غابرييل دانونزيو. لا يعرف الشعراء دائما سبيلا كي يظلوا أوفياء إلى أصل إلهامهم ذاته. يتخلون عن الحياة العميقة والبسيطة. يترجمون، الفعل الأصلي، دون قراءته جيدا. مادام الإنسان القديم افتقد إلى حقيقة عقلانية للغاية، بغية ترجمته التحليق الحُلُمِي، بمعنى حقيقة أرساها العقل مثل منطاد أو الطائرة، قوة تمده بإمكانية الالتجاء إلى حقيقة طبيعية. هكذا، بلور صورة الإنسان المحلِّق على نمط الطائر.

نطرح إذن كمبدأ، لا نحلِّق في عالم الحلم نتيجة امتلاكنا أجنحة، بل نعتقد امتلاكنا لأجنحة، لأننا حلَّقنا. فالأجنحة بمثابة نتائج. مبدأ التحليق الحُلُمِي أكثر عمقا. يجدر بالخيال الهوائي الديناميكي إبرازه ثانية.

وقد رفضنا الامتثال لأيِّ عقلانية، نعود إلى التجربة الأساسية للتحليق الحُلُمِي ثم ندرسها ضمن سرديات محض ديناميكية إلى أقصى حد.

سنتناول من خلال صفحات نفس كتاب شارل نوديي وثيقة خالصة جدا استحضرناها سابقا في دراستنا حول خيال الماء(1).سنلاحظ بأنه انطباع واضح جدا يحثَ الحالم كي يختبر التجربة حين يقظته :”حكى لي أحد الفلاسفة الأكثر حذقا وعمقا خلال عصرنا بكونه حلم طيلة ليالي عديدة خلال فترة شبابه(2)،بأنه اكتسب الخاصية الرائعة المتمثلة في قدرته على البقاء متماسكا ومتحركا في الهواء، ولا يمكنه أبدا التخلص من هذا الإحساس دون تكراره للمحاولة عند عبوره جدولا أو حفرة ”،أيضا يخبرنا :” هافيلوك إليس(عالَم الأحلام،ص165) بأن رفائيل، الرسام الفرنسي النابغة، شكَّل موضوعا للحلم فقد شعر كأنه يسبح في الهواء، ويعترف بأنه انطباع مقنع جدا، بحيث انتابه خلال اليقظة، القفز نحو أسفل سريره، متوخيا بالتالي اختبار التجربة”.

إنها إذن إحدى النماذج الواضحة جدا، بخصوص اعتقاد تجلى إبان الحياة الليلية، بين طيات حياة الحلم اللاواعية المتجانسة بكيفية مدهشة، يتطلع صوب تأكيدات خلال واضحة النهار. بالنسبة لبعض النفوس، المنتشية بالحُلُمِية، فقد تجلت الأيام بهدف تفسير الليالي.

بوسع تجارب ذوات من هذا القبيل، أن تطرح أمامنا علم نفس الخيال الديناميكي. لذلك نقترح، قصد إرساء علم نفس للخيال، الانطلاق منهجيا من الحلم ثم نكتشف، قبل أشكال الصور، عنصرها وحركتها الحقيقيتين. لذلك نلتمس من قارئنا بذل مجهود كي يرصد ثانية بين طيات تجاربه الليلية عن التحليق الحُلمي وفق مظهره الديناميكي الصرف.

سيكتشف حين امتلاكه هذه التجربة، بأن مصدر الانطباع الحُلُمي المهيمن خفَّة جوهرية حقيقية، تتعلق بمجمل الكائن، خفَّة في ذاتها لا يعرف الحالم سببها. تثير غالبا دهشة الحالم كما لو أنها جسّدت عطاء مباغتا. تتعبأ خفَّة الكائن مطلقا وفق اندفاع خفيف، سهل، وبسيط: ضربة كَعْب طفيفة على الأرض تثير لدينا الانطباع بحركة محرِّرة. يبدو أن هذه الحركة الجزئية تبعث فينا قوة على الحركة ظلت متوارية إلى أن استلهمناها من الرؤى.

يمدنا التحليق الحُلُمِي، مباشرة بعد عودتنا إلى الأرض، باندفاع جديد نستعيد معه حريتنا الهوائية. لا يساورنا بهذا الخصوص أيّ قلق. نشعر بذلك جيدا، تسكننا قوة اكتشفنا السر الذي أطلق عنانها. ليست العودة إلى الأرض سقوطا، ما دمنا على يقين بمسألة الليونة. معرفة يمتلكها كل حالم بالتحليق الحُلُمِي. أيضا، ذلك الإحساس الصرف بقفزة لا تتوخى بلوغ قصد أو هدف.

حين عودته إلى الأرض، يتبيّن ثانية الحالِم أو آنتي الجديدAntée،طاقة سهلة، مؤكَّدة، وساحرة. غير أنها لا تستمد حقا من الأرض وثوبها. إذا عملنا غالبا على تأويل أسطورة آنتي باعتبارها أسطورة للأرض الأمومية، فلأن خيال العنصر الأرضي يتسم بكونه قويا وعاما. في المقابل، يعتبر غالبا خيال العنصر الهوائي ضعيفا ومتقنِّعا.

ينبغي إذن على المختص النفسي في الخيال المادي والديناميكي، أن يبرز حقا السمات الأسطورية المستمرة في أحلامنا. يبدو، بأن التحليق يقدم لنا دليلا على أن أسطورة آنتي، تعكس بالأحرى أسطورة نوم بدل كونها أسطورة للحياة. تكفي فقط خلال النوم، ضربة قدم كي نستعيد طبيعتنا الأثيرية، وكذا حياتنا المتدفقة. حركة تمثل فعلا مثلما يقول شارل نوديي، أثرا لـ ”غريزة” ترنو نحو التحليق تبقى أو تحيا إبان حياتنا الليلية. نقول عن طيب خاطر بأنها أثر لغريزة الخِفة باعتبارها إحدى غرائز الحياة الأكثر عمقا. تتوخى الدراسة الحالية البحث عبر صفحات، عن ظواهر غريزة الخِفة. يمثل التحليق الحُلُمِي، حسب اعتقادنا، عند أقصى مستويات بساطته، حلما للحياة الغريزية. معطى يفسر سبب تميزه إلى حد ما.

أين يمكننا زرع الأجنحة، حين توخينا تبعا لهذه الشروط، وضمن نطاق الممكن، عقلنة ذكرياتنا الليلية عن السفر الهوائي؟ فلاشيء يسمح لنا إبان تجربتنا الليلية الحميمة كي ننبت أجنحة على أكتافنا. لا يمكن لحالم أن يختبر حلم الأجنحة الخفَّاقة، سوى في خضم حالة تلوث خاصة للخيال. غالبا ما يشكل حلم الأجنحة الخفَّاقة حلما للسقوط. نقاوم الشعور بالدوخة بتحريك السواعد، وقد تبعث هذه الديناميكية أجنحة على الكتف. لكن التحليق الحُلُمِي الطبيعي، الايجابي كما الشأن بالنسبة إلينا ليلا، ليس بتحليق إيقاعي، بل يجسد استمرارية وكذا تاريخ اندفاع، إنه الإبداع السريع للحظة ديناميكية. منذئذ، فالعقلانية الوحيدة، بناء على صورة الأجنحة، والتي بوسعها الاتفاق مع التجربة الديناميكية الأولية، كما تتجلى مع جناح الكَعْب، وكذا جنيحات الزئبق، ثم المسافر الليلي.

من ناحية أخرى، ليست جنيحات الزئبق شيئا ثانيا، سوى تجليا لكعب ديناميكي.

لن نتردد قط في جعل هذه الأجنحة الصغيرة – متموقعة ديناميكيا جيدا قصد الترميز عن الحلم الهوائي و بَصَريا دون دلالة واقعية – علامة على صدق الحالم. حينما يدرك شاعر، بواسطة صوره، كيفية الإيحاء بهذه الأجنحة الصغيرة، بوسعنا حينئذ التوفر على ضمانة معينة بأن قصيدته مرتبطة بصورة يعيشها ديناميكيا. إذن ليس نادرا أن نكتشف مع تلك الصور الشعرية زخما معيَّنا لا ينتمي قط إلى صور احتشدت نتيجة نزوة. لقد وُهِبت بأكبر الحقائق الشعرية :الحقيقة الحُلُمِية. إنها تثير أحلام يقظة طبيعية. لاشيء يثير الاستغراب بخصوص ما تضمنته الأساطير والحكايات، في كل البيئات، عن أجنحة الكَعْب.

أشار جولز دويم، في أطروحته حول تاريخ التحليق، إلى أنه في منطقة التبت :”يحلق رهبان بوذيون نحو الأعالي بفضل بعض الأحذية المسماة أقداما خفيفة”، ثم يحيل على حكاية الحذاء المحلِّق، المتداولة جدا بين صفحات نصوص الآداب الشعبية الأوروبية والآسيوية. لا يوجد أصل آخر(3) لأحذية الأمكنة السبعة (أو أحذية ألف مكان في اللغة الانجليزية). تُطرح المقاربة فطريا من طرف رجل الآداب. كتب فلوبير في عمله :”رغبة القديس أنطوان في نسختها الأولى” ما يلي :”ها هو الزئبق يا إلهي بقبعته الرِّجالية تحسبا للمطر وكذا أحذية السفر”. لنلاحظ بالمناسبة إلى أيّ حد أضعفت هنا نبرة الهزل حُلُمية الصورة، حُلُمية تجلت أكثر عبر فقرات أخرى من كتاب ”الرغبة”. تكمن عند قدمي الإنسان الحالم قواه المحلِّقة. عموما، وبكيفية مختصرة نسمح لأنفسنا في أبحاثنا عن الميتا-شعرية، كي نحدد هاته الأجنحة في الحذاء باسم أجنحة حُلُمية.

يبدو بأن تلك الخاصية الحُلُمية جدا لأجنحة الحذاء، تتخلص من علوم الآثار القديمة. بناء عليه، استنتج سريعا سالومون رايناخ عنصرا للعقلانية :”تستعيد دائما العقلانية الهيلينية حقوقها…هيرمس رغم كونه إلها :قبل الانطلاق في تحليقه صوب الأجواء، يعمل أولا على ربط كعبيه بأجنحة، يقول فيرجيل”(4).تأويل فيرجيل لا يحل محل علوم الآثار الحُلُمية التي تدرك الشعور الجوهري بالخِفَّة.

بالتأكيد، مثل باقي الصور، يمكن أن تضاف الأجنحة الحُلُمية بكيفية مصطنعة، باعتبارها مجرد طلاء، إلى سرد الأحلام المتنوعة جدا. يمكنها ضمن الأعمال الشعرية، التجلي نتيجة نسخة صورة مستقاة من الكتب؛ وقد تكون استعارة بلا جدوى، فقط عادة بلاغية. إذن، بما أنها خاملة، وغير مجدية، فلا يمكن لمختص نفساني يرغب في تأمل معطيات الخيال الديناميكي أن يخطئ هذا الأمر. سيدرك باستمرار مثلما ينبغي الكَعْب الديناميكي، في إطار أشكال لا واعية، تنساب خلسة بفضل لاوعي صادق، ومخلص للحُلُمية :هكذا في الفردوس المفقود(ترجمة شاتوبريان)،تحدث جون ميلتون عن مَلاَك من السماء بستِّ أجنحة :”يغطي الزوج الأخير أقدامه، وقد ربط كواعبه بريش مُبَقَّع، لون السماء”. يبدو بأن الأجنحة الكبيرة، لا تكفي من أجل التحليق المتخيَّل، بل ينبغي أيضا توفر مَلاَك السماء على أجنحة حالمة.

مقابل ذلك، يسمح لنا بحثنا في موضوع الأجنحة الحُلُمية كي ننتقد براءة بعض الوثائق. لنطرح فورا مثالا عن نقد انصب على سرد توارت خلاله الأجنحة الحُلُمية.

من بين ”الأحلام المنتقاة” لجان بول التي تماثل فعلا، مثلما أشار ألبير بيغان ”الأحلام الشعرية”، تتبدى أحلام للتحليق. جان بول، متمرِّنا على إنتاج وتوجيه أحلامه، يشكل أحلام التحليق بالنوم مرة أخرى صباحا. بالتالي، ليست بأحلام منتصف الليل. لقد وصفها بالمصطلحات التالية :”إذن تارة محلِّقا وتارة أخرى صاعدا وفق خط مستقيم، بحيث تضرب السواعد الهواء مثل المجاذيف، يعكس هذا الطيران بالنسبة للدماغ مَغْطسا أثيريا، شهوانيا ومريحا، اللهم في غضون ذلك قد يجعلني دوران سريع جدا لسواعد حلمي تجريب ترَنُّح معين وكذا الخوف من احتقان دماغي. سعيد فعليا، منتشيا بجسدي وفكري، فقد حدث معي الارتفاع بكيفية عمودية نحو السماء المرصَّعة بالنجوم، وأنا ألقي التحية على صرح الكون”.

“بين طيات يقين حلمي، أتسلق بمطلق قوتي، نتيجة خِفَّة جناح، أسوارا عالية مثل السماء، كي أتملى من الجانب الآخر منظرا فسيحا وهائلا، ظهر بكيفية مباغتة؛ لأنه(أخاطب نفسي إذن)،يلزم الخيال حسب قوانين الفكر ورغبات الحلم، أن يكتشف ثانية جبال ومراعي مختلف فضاء المحيط، ويقوم بذلك خلال كل مرة. أتسلق قمما، كي أندفع نحوها بسعادة”.

“في خضم هذه الأحلام المنتقاة، أو نصف/أحلام، يتجه تفكيري دائما صوب نظريتي عن الحلم. فقد بحثت هناك دائما، إلى جانب المناظر الجميلة (لكن محلِّقا دون توقف، كخاصية مؤكَّدة لحلم انتقائي)عن أشكال رائعة، بهدف معانقتها…لسوء الحظ !يستمر تحليقي طويلا للبحث عنها. ويحدث لي مخاطبة تلك الأشكال المتجلِّية: ”سأستيقظ، ثم تتلاشون”؛ كذلك سأجلس ذات يوم أمام مِرآة، وسأقول مفزوعا :أتوخى معرفة كيف أنا بعينين مغمضتين”(5).

ليس بالأمر العسير إثبات حمولة هذا النص الزائدة :ضمن نفس الخط، يتجاهل تآلف بين الأيادي الخفَّاقة وكذا المجاديف، وحدة حلم التحليق الديناميكية. بوسعنا، في إطار حلم أن نضمّ صيغتين، ولا يمكننا الجمع بين قوتين؛ يتكامل الخيال الديناميكي بكيفية مدهشة؛ بالتأكيد لا نخشى قط مع نفس التجربة الليلية ”انسدادا دماغيا” ونحن نعلم بأنها تشكل ”لهذا الدماغ حوض استحمام أثيري حقيقي، مثير ومريح”. فضلا عن ذلك، لا مكان لـ ”الدماغ” بالنسبة للحالم.

من جهة أخرى، تعتبر الغائية المرتبطة بالحلم بناء يوضع لحساب سرد الحلم. لا نحلِّق في الحلم، قصد الرحيل صوب السماوات، بل نصعد إليها لأننا نحلق. أخيرا، الوقائع عديدة جدا، ووسائل التحليق الواردة متنوعة للغاية. لقد طمس الوزن الزائد الأجنحة الحُلُمِية .سنقدم مثالا مغايرا يتضمن فقط الأجنحة الحُلُمِية.

مثال نستعيره من الحلم الحادي عشر لماريا ريلكه (6)،وثيقة نقية جدا بناء على وجهة نظر الخيال الديناميكي مادام أن مجموع السرد تبلور بالانطلاق من انطباع ديناميكي للخِفَّة :

“ثم لاحت طريق. ننزل نحوها معا، بنفس إيقاع ذات الخطى، خطوة تحذو حذو الثانية. تعانق ذراعها كتفي.

كان الشارع فسيحا، وفارغا فترة الصباح ؛ينحدر، ثم ينعطف، تحديدا كي ينزع عن خطوة طفل شيئا من ثقلها. ثم يغدو ماشيا كما لو امتلك تحت قدميه أجنحة صغيرة.

أتذكر…

إنها ذكرى، ذات عذوبة !وفق أشكال ساكنة حيث يكمن، يقين بالسعادة، جدّ أبديّ. ألا تمثل، ذكرى هائلة وبغير تاريخ عن الحالة الهوائية، حيث لاشيء يضغط، ثم المادة الكامنة فينا خفيفة على نحو فطري؟ كل شيء يتسامى بنا، ثم نرتفع معه، حتى إبان انحدارنا :”كي تتخلص خطوة طفل كفاية من ثِقلها”.

أليست فتوة الخفة هاته سمة عن القوة المؤتَمنة التي تمدنا بإمكانية مغادرة الأرض، وتمنحنا اعتقادا مفاده أننا نصعد طبيعيا مع الهواء وريح وجهة السماء، يجرفنا مباشرة إحساس بسعادة تفوق الوصف. إذا وجدتَ، بين طيات أحلامكَ الديناميكية، حدا أدنى من الانحدار، وتبيَّن لك سبيل طريق ينحدر قليلا، تلاحظ أمره الأنظار، لحظتها ستنبت عند قدميكَ أجنحة صغيرة؛ ويميز كعبكَ قوة محلِّقة، رشيقة، ناعمة، فيتغير بكيفية سريعة وفق حركة بسيطة الهبوط إلى الصعود، ثم السير بالتحليق. هكذا، تختبرُ تجربة : ”أول أطروحة عن الجمالية النيتشوية”: “كل ما هو جيد يعتبر خفيفا، ويركض كل إلهي على إيقاع أقدام ناعمة”(7).

حينما نعبر بالحلم المنحدرات الجميلة ندرك حقا بأن الأحلام تساعد على راحتنا. من أجل مداواة فؤاد مُتْعب، تقترح وصفة طبية علاجا بواسطة التضاريس الأرضية: لقد حددت مجال لائحة متدرجة حول نزهات صحية يجدر بها أن يستعيد معها نظام دورة دموية مضطربة تناغمه. اللاوعي، في تجربته الليلية، وقد صار أخيرا سيِّدا على وحدتنا، يرشدنا بدوره، تبعا لنوع من العلاج بفضل حقول متخيَّلة. فؤادنا، المنهك بمتاعب اليومي، يتعافى ليلا نتيجة حلاوة وعذوبة التحليق الحُلُمي. عندما يُضاف إيقاع خفيف لهذا التحليق، يهدأ إيقاع فؤادنا نفسه. بالتالي، ألا يشعرنا هذا الفؤاد بسعادة التحليق.

نقرأ هذا المقطع، ضمن الأشعار التي كتبها ريلكه إلى السيدة لو ألبير-لازار:

يعبر الإله، قلوبنا التي نبقيها مفتوحة، بأجنحة عند قدميه.

هل تلزم الإشارة بأنه لا يمكننا أن نتمثل حقا مقطعا شعريا من هذا القبيل دون المشاركة الهوائية التي نقترحها. أجنحة الزئبق بمثابة أجنحة للتحليق الإنساني. تميزها حميمة عميقة جدا، بوسعنا القول بصددها أنها توطد لدينا خلال ذات الآن التحليق والسماء. يبدو بأننا داخل فضاء محلِّق، أو يتحقق الكون المحلِّق في إطار حميمة كائننا. سنشعر بهذا التحليق المدهش إذا تأملنا القصيدة المأخوذة من مختارات ترجمتها السيدة لو-ألبير لازار :

أتملى، وأنا أعلم بوجودها

إنها، لم تتعلم قط، ذاك السير المشترك من طرف البشر.

بل الارتقاء صوب السماوات

فجأة تتفتح بدايتها

التحليق…

لا تسألْ قط

كم من الوقت يستمر إحساسها؛ وكم من الوقت سنعيشها مرة أخرى. إنها سماوات لا مرئية لا يمكن وصفها. سماوات فوق المشهد الداخلي.

مهما كانت الوقائع الحلُمِية قليلة جدا، بالنسبة لروح صادقة كما الشأن مع ريلكه،،فإنها تمسك بحياة جوهرنا؛ وقد اندرجت ضمن الماضي الديناميكي الطويل لكائننا. ألا تكمن وظيفة التحليق الحُلُمي في تعليمنا كيفية هزم خوفنا من السقوط؟ ألا تنطوي تلك السعادة، على دلالة بخصوص أولى انتصاراتنا ضد هذا الخوف المبدئي؟ أيضا ما الدور الذي لم يكن بوسعه القيام به حيال مواساة- فقيرة ونادرة- روح ريلكه !روح مرهفة الحس نحو سقوط يغدو مدويّا جدا لدبوس فوق أرضية البيت، ثم خشخشة مرعبة لتساقط أوراق الشجر حسب إيقاع السمفونية الحتمية لسقوط كل شيء، مع مفاجأة لطيفة كونه لم يستوعب ضمن أحلامه، كائنات امتلكت أجنحة صغيرة عند أقدامها؟ عندما نتمثَّل حقا إبان أحلامنا العلاقة المتكررة للسقوط خلال التحليق، ندرك كيف أن خوفا قد يصبح سعادة. هنا تكمن حقا نقلة لدى ريلكه.

خلاصة، تتأكد بوضوح مع مضمون حلم في غاية العذوبة، كما الشأن مع الحلم الحادي عشر: ”ألا تعلم بأن السعادة في حقيقتها بمثابة رعب لا يفزعنا خلاله أيّ شيء؟ نطوي رعبا من البداية إلى النهاية، وهذا تحديدا ما يُنعت بالسعادة. رعب لانعرف فقط أصله. رعب نثق فيه”.

إذن، يعكس التحليق الحُلُمي سقوطا بطيئا، لكننا ننهض بيسر ودون تحسر. إنه تآلف بين السقوط والصعود. وحدها روح تمتلك تركيبا مطلقا كما الشأن مع روح ريلكه تعرِف كيفية مراعاة بين طيات السعادة نفسها على رعب يهزمه الفرح. أرواح أكثر انقساما وانفكاكا، ليس لها سوى الذكرى بهدف تجميعها المتناقضات، ثم تعيش الواحدة خلف الثانية، أحدهما علّة للثانية، الحزن والسعادة. هكذا ندين أصلا بالفضل إلى نور كبير مبعثه الحلم يظهر لنا بأن الرعب قد ينتج السعادة.

إن شكَّل الفزع من السقوط أولى مخاوفنا، مثلما سنذكر ذلك فيما بعد؛ وجسَّدت مسؤولية أفقنا العمودي إحدى أكبر المسؤوليات الإنسانية- فيزيائيا ومعنويا- فكم يلزم الحلم الذي ينهض بنا، يضفي ديناميكية على استقامتنا، يمطِّط قوس جسدنا من القدمين غاية العنق، يخلِّصنا من ثِقلنا، ويعطينا تجربتنا الهوائية الأولى والوحيدة، أقول كيف لهذا الحلم أن يكون مفيدا، مريحا، رائعا، مؤثرا! ما الذكرى التي يلزمه أن يخلِّفها لدى روح تعرف كيفية ربط حياتها الليلية مع التأمل الشارد الشعري خلال النهار !

يكرر المحللون النفسانيون بأن حلم التحليق يرمز للذة، نتعقبه، مثلما يقول جان بول :”بهدف معانقة أشكال جميلة”. إذا اقتضى الأمر أن نحب قصد انتشال ذواتنا من الأحزان التي تخنقنا، نعم بوسع حلم التحليق خلال الليل التخفيف من وطأة حب شقي، ويمكنه التعويض عن عشق مستحيل بسعادة ليلية. لكن لحلم التحليق وظائف غير مباشرة بشكل أقل :إنه حقيقة مرتبطة بالليل، معطى ليلي مستقل.

حينما نتأمل انطلاقا من واقعية الليل، عشقا نهاريا يشفي غليله التحليق الحُلُمي، فسيتحدد كحالة خاصة للارتفاع نحو الأعالي. بالنسبة لبعض الذوات التي تعيش حياة ليلية قوية، فمعنى الحب لديها يعني أن تحلِّق؛ فالارتفاع الحُلُمي حقيقة نفسية أكثر عمقا، وجوهرية، وبساطة من الحب نفسه. تبدو الحاجة لأن تكون خفيفا، متحرِّرا، ثم تستلهم من الليل حريته الهائلة، مثل قَدَر نفسي، وكذا وظيفة للحياة الليلية العادية، الليل المريح.

لذلك، يلزم أن تحظى التجربة الليلية بخصوص التحليق الحُلُمي، باهتمام من طرف المختصين البيداغوجيين في النوم. لكن هل يتجه تفكيرهم فقط نحو تعليمنا كيفية أن ننام جيدا، وهل تجاوزت في هذا الإطار بعض ملاحظات ألدوس هاكسلي حول تعليم النائم (الهيبنوبيديا) مجرد نزوع حدوس خيالية لكاتب أنكلو- ساكسوني(8).

حسب تجربتنا الشخصية، كي ننام جيدا، ينبغي العثور من جديد على العنصر الأساسي المميز للاوعي. أكثر تحديدا، أن ننام بين أحضان العنصر الخاص بكل واحد منا. أفضل أنواع النوم تلك المهدهِدَة ثم التي تمضي بكَ ،بحيث يدرك الخيال جيدا أن مصدر الحالتين معا، شيء وليس شخص. نمثّل أثناء النوم، حضور العناصر الكونية؛ بحيث يهدهِدنا الماء، ويحملنا الهواء غاية الأجواء، لحظتها نتنفَّس، بانسجام مع إيقاع نَفَسِنا. نوم نستعيد معه لحظة الطفولة، أو على الأقل النوم الهادئ خلال فترة الشباب، وقد تلقت الحياة الليلية غالبا جدا دعوة وجهة سفر لانهائي.

كتب سيرانو دو بيرجِراك في مقدمة مؤَلَّفِه :”التاريخ الكوني لأمم وإمبراطوريات الشمس، الإشارة التالية: ”إبان أجمل حقبة عمري، أشعر وأنا نائم، بكوني غدوت خفيفا، فأرتفع صوب السحب”. على أساس اكتشافاته سيضع تحديدا تجربة نفسية إيجابية، لأنه ليس في متناولنا سوى الاستحضار الايجابي للتحليق الحُلُمي خلال فترة شبابنا المهووسة؟ أضحت مطروحة آليات المسافر نحو إمبراطوريات الشمس والقمر، عندما درس سيرانو الميكانيكا الديكارتية. مادامت تقدم بدورها ميكانيكا تغلِّف الكائن الحي. لذلك، انطوت كتابات سيرانو على تسلية دون تأثير. فقد سادها ما هو نَزَوِيّ، وبالتالي أضاعت سريعا جدا، جانبا كبيرا من الخيال.

يجدر إذن، بالممارسة الحقيقة لتعليم النائم (الهيبنوبيديا)،مساعدتنا كي نبرز للعلن قوة التحليق الحًلًمِي. ربما الحدوس الجوهرية، بل وبتعبير أكثر فظاظة الحدوس العنصرية المرتبطة بالعنصر، ستقدم لنا ضمن هذا المسار صورا مادية أكثر قوة من الصور حيث تتوافق الأجنحة، العَجَلات، وكذا الرافعات. من الذي لم يشرُد بذهنه طويلا حينما يتملى سماء صيفية فيلاحظ تحليقا مجنَّحا لأعشاب الطرخشقون وكذا القصوان؟ في هذا السياق روى جولز دوهيم، بأنه في بلد البيرو، وبهدف التحليق، يتم الالتجاء إلى تناول :”حبَّة خفيفة تطفو حين هبوب الرياح”. أيضا، حكى جوزيف مايستر في كتاب(أمسيات سانت بطرسبرغ، طبعة 1836،ص238)،بأن :”الرهبان المصريين يتوقفون عن تناول الطعام خلال فترة تطهيرهم الشرعية، إلا لحوم الدواجن، مادامت الطيور تميزت بكونها أكثر خِفَّة مقارنة مع جل الحيوانات”.

*هوامش :

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943.PP :35- 47.

(1) شارل نوديي : تأملات شاردة، ص165

(2)جول ميشليه (الطائر، ص 26) :”يمتلك الإنسان حظا وافرا إبان أفضل فترات عمره وكذا أحلام شبابه، كي ينسى ارتباطه بالأرض. ها هو يطير ويحلق”.

(3)تخلَّص أحد السورياليين من تحولات بطيئة، فكتب ما يلي :”فلتذهب أحذية الأمكنة السبعة الشفافة بغية اكتساح العالم”(ليو مالي : حياة وبقاء مصاص الدماء”، دفاتر الشعر، السوريالية مرة أخرى ودائما غشت 1943،ص 17).يسخر النقد الكلاسيكي بتأمله أحذية الدَّركي من الأحذية الشفافة”. بالتالي، يستخف من الخيال الديناميكي الأساسي : كل ما يعبر الأجواء، فإنه ديناميكي وهوائي من ناحية جوهره.

(4) سالومون رايناخ :طقوس أساطير وديانات، الجزء الثاني ص 50

(5) أودرها ألبير بيغان :جان بول، انتقاء أحلام، ص 40 .

(6)ماريا ريلكه : شذرات نثرية ص.191

(7)نيتشه : حالة فاغنر، ص 14 .

8))ألدوس هاكسلي :أفضل العوالم، ص 30 .

عن سعيد بوخليط

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *