قص لصق

سنوات مضت وأنا هنا في شقة صغيرة محشوة بقلب مبنى طويل، يمتد من شجرة عملاقة تعرشت مثل الوحش فوق دكان التركي، كسرت الشباك وتسللت إلى سقف المحل، الرجل التركي

احترم غرام الهولنديين بالشجر، وعلق بعضا من بضائعه على الغصن المعتدي..

في آخر بنايتي مقبرة “هيلفرسوم” التي تطل بأناقتها الفائقة على بحيرة تتشمس على ضفتها بطة وزوجها، ووزة رشيقة تناسب على الماء، ومالك حزين يقف على قدم واحدة ينظر منذ شهرين نحو السماء.. . ظننته حجراً إلى أن أنزل قدمه وأدار ذنبه..

الوقت هنا طويل للسير ساعات في تلك الشوارع الفارغة، والدخول إلى المقبرة وقراءة الفاتحة على أرواح هؤلاء النائمين بسلام تحت ظلال التوت البري، أعجبتني هذه المقبرة اللطيفة لا تنسم منها الوحشة، ولا الرهبة، تدخلها كأنها حديقة، مشيت بها نحو فوانيس حمراء معلقة فوق القبور اللامعة، فأيقنت أن المقيمين هنا يسهرون الليالي لنكش الذكريات والتندر على

أحزان الأحياء. ترجمت جملاً كتبت بماء الذهب على الشواهد، رسائل غريبة فيها حب وشوق وزعل وعتب، وقائمة بطلبات كي يجلبها العائدون من السماء، وكأن النائمين هنا سيعودون محملين بالأمل والهدايا ويجددون إقامتهم في هيلفرسوم.. أحدهم كتب لزوجته الشابة ..”حبيبتي مايكا سلمي لي على أمي ولا تتشجاري معها لقد كانت تحبك”

فأيقنت أن حكاية الحماية والكنة في الدنيا والآخرة.

لكنني حزنت على قبر صغير خمنت أن يكون في حضنه طفلة، فقد وضعت على الرخامة السوداء دمية تلبس فستاناً وردياً، وكل خمس دقائق تفتح عينيها وتقول من فم ساكت “ماما”.

مرت قربي قطة حول رقبتها ربطة عنق سوداء، نظراتها الآدمية أخافتني، ابتعدتُ لكنها مشت معي وهي ترفع رأسها وكأنها تريد أن تقول لي شيئاُ، أسرعت وغادرت باب المقبرة، لكن القطة لم تخرج وعادت تموء بحزن بين الورود الكثيفة..

هيلفرسوم بلدة غارقة بالآجر الأحمر من قدميها حتى رؤوس بيوتها، تمر من نصفها كل قطارات العالم لا أعرف إلى أين تذهب تلك القطارات المسرعة لكنها ما زالت تثير دهشتي، ويعجبني أشباح الركاب الذاهبين إلى آخر المزارع اللانهائية. لم يكن أحد يلتفت إلى امرأة شاردة يبلل المطر شعرها الأسود.. تجلس في محطة نائية وتنظر بالفراغ، لم يكن هناك ذرة فضول واحدة تمر قرب أنفي، شيء مؤلم أن لا يثير وجودك فضول أحدٍ.

يوم أتى حظي إلى تلك البلدة قالت لي موظفة الكامب، والبهجة تغمر وجهها المشرق؛

– مبروك بيتك في هيلفرسوم.. إنها مدينة الأثرياء والفنانين والإعلامين!!

لم أفرح ولم أحزن، ولم يرتسم على وجهي أي تعبير يدل على الميزات العظيمة التي جلبها الحظ لي، فأنا لا أعرف هنا الثري من الفقير ولا الفنان من سائق الباص ولا حتى اقتربت شبراً من البرج الزجاجي المكتوب عليه “ميديا بارك” ولا دست حديقة الإعلام. حفظت شارع مدرسة اللغة ويمكنني أن أذهب إليها مغمضة العينين، حفظت شكل البيوت ونوع النباتات التي يحبونها، ولون زهور الدوار وسط السوق.. والجامع المغربي الصغير الذي لا يرسل من مأذنته الصامتة صوتاً.. المؤمنون يتعبدون هنا دون جلبة.

عرفت وجوه راكبي الدراجات الذين يقفون معي كل صباح على إشارة المرور، حفظت أشكال العجائز الذين يتمشون مستندين على أذرع المتطوعين… حفظت شكل كلابهم الصغيرة تهرول ورائهم، اتفرج على التحف التي يضعها الهولنديون على نوافذ بيوتهم، واستغربت من ورودهم التي تعج بها حدائقهم وتعرش على جدرانهم، وتملأ شرفاتهم، وباقات يحملونها لرفاقهم، ورود بأنواع لم تمر بي، تفيض عن حاجة الشعب كله ..

كل يوم أمر من هناك وكل يوم يدهشني بوذا المتربع في حديقة منزل رجل سبعيني، رأيته مرة يغسل بوذا بالليفة والصابون، يقحط عن بطنه طحالب الشتاء.. وظل التمثال السمين متربعاً مبتسماً قابلاً لمصيره في حديقة بعيدة آلاف الكيلومترات عن موطنه، تساوينا أيها الرجل الطيب، سأقرأ عنك أكثر وأعرف سر صبرك. اشتريت دراجة بثلاث عجلات وصرت أقودها كل يوم على طريق مدرستي، تشجعت مرة وجبت المدينة كلها وكان المطر يقصف رأسي… تأملت البيوت التي لا تضع ستائراً على نوافذها ورأيت الهولنديين تحت الضوء الخافت يطهون، عشاءهم أو يجلسون أمام الشاشات مع كلابهم التي كانت تتناوم قربهم، ورأيت وجههم الزرقاء تنوس وراء “اللابتوب” ثم بعد الغروب تطفئ الكهارب وتنام المدينة، تغلق المحلات وتبات الدراجات وتتوارى السيارات، كل هيلفرسوم تغفو مثل معسكر جيش سيستيقظ لمعركة الصباح، فقط بيوت العرب تشتعل بالأضواء الساطعة كأنه رهاب العتمة..

بعد سنتين تجرأت ورفعت رأسي إلى الأعلى ورأيت ما جعلني أشهق، أرض هذه المدينة لا تشبه سقفها.. كانت أوراق الشجر المضطربة تغطي السماء وتهتز وتبرق بعنف ليس له صلة بالريح، السقف الأخضر يتظاهر فوق رأسي كأنه يرسل المكاتيب للغرباء، تبادلنا أنا وهيلفرسوم النفور، لكني سكنتها دون شكوى، كل يوم أقول للصمت حولي ماذا أفعل هنا؟!

لو اجتمع قراء البخت وقالوا لي ستقضين ما تبقى من حياتك في بلدة مجهولة اسمها لم يرد على خلية من دماغي، سيقذفك الزمن على حدود بحر الشمال بعيدة عن مدار الأرض قريبة من ثلج القطب الشمالي، لو نزل ملائكة الغيب وحكماء الأبراج.. وقالوا لي في كورال جماعي سيكون لك بلد اسمها هولندا.. أو ينادونني بأصواتهم المخيفة:

— والله يا جنية الوجد ستموتين من البرد وأنت تتوسلين الشمس لتلقي لك حزمة ضوء تنير دربك… لو بصم منجمو العالم على تلك النبوءة البعيدة سوف أسخر من كلامهم وأقول لهم العبوا غيرها ..على فكرة أنا أحب قراء البخت وأخذ منهم أوهام الوقت. لكنني وبدون تفكير ولا تخطيط ولا حتى أملك في زمن الوطن المفقود وقتا لفتح الأطلس والبحث عن عواصم لم تكن تعني لي شيئاُ…

كنت أعدو في دمشق كمن يركب عربة يجرها عشرون أرنباً كنت أركض في دمشق من شرقها لغربها… دفعني ضيق الحال لأعمل بالتجميل وعلقت لقمة العيش مع شلة النساء المجنونات المهوسات بالشد والنفخ.. أنا هنا الآن تركت ورائي العاقلين والمجانين والمتحاربين والمتصالحين… وأتيت لأقيم في هولندا

الآن لست حزينة ولا مستغربة ولا أحن لشيء لقد عبأت الخزائن بشولات من الحنين واليأس… وحين آن أوان العودة، وجدت حالي مثل زهاد الهند استلقي على لوح من المسامير…وعلي أن اضرب كل صباح موال الامتنان لدقاقي البراغي في اللوح المحفوظ ..

صدقت النبوءة لكن نسي قراء الغيب أن يقولوا لي:

– لن تعودي لبيتك الذي تركته تنهشه عفونة القطيعة..

جلست قبل ست سنوات أمام القاضية الشابة التي ابتسمت دون تكلف وسألتني بود ماذا تعرفين عن هولندا؟ ارتبكت وخجلت، فأنا لا أعرف عن هولندا شيئاً، اسمع أن لها عاصمة اسمها أمستردام وبها مدينة اسمها “لاهي” تعرفت عليها من أخبار القتلى العالمين، وأن الفريق الهولندي سيء الحظ يلبس كنزة برتقالية ويهزم بآخر شوط في كؤوس العالم. حين أدركت أن معلوماتي الغبية لا تكفي فنجان قهوة أشربها في هولندا.

سألتني القاضية الشابة ذات الثلاثين عاماً سؤال آخر كي تخفف عني اللبكة التي علقت في حلقي. رفعت وجهها عن اللاب توب، تأملتُ هذا الوجه المرتاح الذي لم تخدشه نوائب الوطن ولا المصائب ولا التعتير التاريخي، ولا هي خائفة، لم تفقد أحداً ولا تنتظر غائباً وليس لها حبيباً في ظلام السجون. ساكنة كالبلور مرتاحة، كل شيء في حياتها دقيق ومرسوم بالمنقلة، من رنين موبايلها الذي ولفته على موعد الباصات والقطارات إلى رتابة شعرها الذي ينهدل نصفه على عنقها الشامخ… كانت قاضية مخطوبة تضع خاتماً رفيعاً أبيض في إصبعها وسلسلة علقت بها قلباُ بحجم حبة العدس، تلبس بلوزة حريرية وجاكيت قطني صغير، رغم أن الثلج على أبواب البناء الحكومي في مدينة “دونبش”.

ثم أومئ لي المترجم، بلطافة كي أكف عن التحديق بيد القاضية، وقال لي:

السيدة أريكا ستسألك بضع أسئلة لا تجزعي..

خمنت أن يكون المترجم إفريقيا أو إرتيريا. أو صوماليا لكنه ابتسم وأنهى حيرتي وقال لي:

— أنا محي الدين من أم درمان، فرحت بالمترجم أكثر من القاضية، لأنني أحب أهل السودان، كل صديقاتي السودانيات اللواتي جمعتنا مدرسة واحدة وصداقة ضاربة في أعماق الخليج، أتين أمامي إلى مكتب القاضية، فشلت في اقناع مخي في تلك اللحظة أن يكف عن استدعاء الذكريات البعيدة، لم أكن عندي المقدرة على الضبط والربط فسرحت ذكرياتي مثل قطيع ماعز فوق جبل.

قالت القاضية:

— ماذا ستقولين لو عدت إلى سوريا!؟

لن أقول شيئا أيتها القاضية الجميلة. فقط لن أحضر عرسك… وأرى بهاءك في الثوب الأبيض في حديقة القصر..

قلت لها لا أستطيع العودة..

وهي دون كلام صدقتني وسألتني ما رأيك بما يحدث في بلدك؟

قلت لها: هي الحرب وهذا يكفي، ثم حدثتها عن السلام والحب وعن حالنا ..

فتحت مع القاضية سيرة لها أول وليس لها آخر… هي كانت تسألني وأنا نسيت حالي وسرحت ونسيت (دنبوش) نسيت ماذا أفعل هنا في ذلك المكتب المختصر، نسيت المترجم الصبور..

وتحدثنا كأننا صديقتان قديمتان فرق بيننا سور برلين العظيم، حطمنا الجدار وتكلمنا كامرأتين عن الحب والأمنيات وعدد الأولاد، ثم سألتني هل هناك حب في بلدك؟! علقت القاضية مع عناكب فلسفتي. وضعتْ القلم على الطاولة وبدأت تسمعني وكانت قاضية فاضية البال غير مستعجلة، ويمكن أن تكون ندمت بعد ذلك السؤال، لأنني غردت خارج سرب اللاجئين، وكان الشاب المترجم يلهث وراء الترجمة، وأنا أقول لهذه الآنسة وكيف لا نعرف الحب، ماذا نعرف إذاً؟! الحقيقة لم أكن متأكدة من هذا الحب بالذات فما جرى جعلني غاضبة نادمة مشتتة. خرجت إلى باحة المدخنين تحت ندف الثلج في المركز الحكومي، كان هناك خمس نساء يثرثرن حول فصل الملفات، وخمسة رجال ينظرون من وراء الزجاج إلى المثرثرات، يطير الشرر من عيونهم ويغبش غضبهم زجاج الشبابيك في يوم بارد من أيام الشتاء الهولندي، لم يكن عندي أدنى فكرة عن فصل الملفات ولا فصل القوات، كنت أدخن وأرجف من البرد والحزن وأسلم وجهي لدبابيس الثلج…

عن مي جليلي

شاهد أيضاً

الشخصية الفلسطينية المرحة في الرواية

هل ظهرت الشخصية الشعبية الفلسطينية المرحة صاحبة الدعابة والفكاهة في نصنا الروائي؟ التفت دارسون عرب …