إعداد محمود أبو حامد
كانت دير ياسين قرية فلسطينية تقع غربي القدس، دخلتها العصابات الصهيونية المسلحة يوم 30 جمادى الأولى 1367هـ ـ 9 نيسان\أبريل 1948م، وأقاموا فيها مذبحة بشعة بقيادة مناحيم بيغين- الذي اقتسم مع السادات جائزة نوبل للسلام- حيث ذبحوا من أهلها 107 أشخاص بين رجل وامرأة وشيخ وطفل ومثلوا بجثثهم بشكل بشع بقطع للآذان وتقطيع للأعضاء وبقر لبطون النساء وألقوا بالأطفال في الأفران المشتعلة وحصد الرصاص كل الرجال ثم ألقوا بالجميع في بئر القرية، واشتهرت بمذبحة دير ياسين. استوطن اليهود القرية وفي العام 1980 أعاد اليهود البناء في القرية فوق أنقاض المباني الأصلية وأسموا الشوارع بأسماء مقاتلي الإرغون الذين نفّذوا المذبحة.
وتقع قرية دير ياسين غربي القدس المحتلة، وبدأ الاستيطان اليهودي فيها منذ 1906، فيما حصنت القوات العثمانية مرتفعاتها للتصدي للقوات البريطانية المحتلة عام 1917، وتمتعت بنشاط اقتصادي لافت ونمو ديمغرافي ملحوظ، وبعد احتلال فلسطين في 1948 سماها المستوطنون اليهود “جفعات شاؤول”.
في صيف سنة 1949، استقرت عدة مئات من المهاجرين اليهود بالقرب من دير ياسين، وأطلق على المستعمرة الجديدة اسم غفعات شاؤول بت تيمنا بمستعمرة غفعات شاؤول القديمة التي أنشئت في سنة 1906. وقد كتب أربعة مفكرين إسرائيليين بارزين إلى بن- غوريون، قائلين إن ترك القرية خالية هو بمثابة (رمز فظيع ومأساوي). إلا إن مناشداتهم المتكررة ذهبت سدى، ولم يستجب لها. وقد حضر حفل افتتاح غفعات شاؤول بت عدة وزراء، والحاخامات الأكبران لإسرائيل ورئيس بلدية القدس الإسرائيلي. وقد انتشرت مستعمرة غفعات شاؤول اليهودية المجاورة في القطاع الشرقي من القرية. واليوم طغى على تل دير ياسين وموقعها، من الجهات كلها التوسع العمراني للقدس الغربية.
شهادات وتأريخ
يتفق المؤرخون على أن مجزرة دير ياسين لم تكن الأولى وليست الأخيرة لكنها الأكثر ذيوعاً وتناولا من قبل وسائل الإعلام وكتابات الباحثين بمختلف اللغات. ويؤرخ الجميع على أن
العصابات الصهيونية نفذت المجزرة قبل شهر فقط من إعلان قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين المحتلة، وشكلت المجزرة علامة فارقة في تثبيت المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وحازت على أكبر عدد من الكتابات والمؤلفات العربية والإسرائيلية، وحظيت باعترافات من كبار الجنرالات المتورطين فيها.
وقعت المجزرة فجر 9 نيسان\ أبريل 1948 واستمرت حتى الواحدة بعد الظهر، وذلك بعد يوم واحد على استشهاد القائد العسكري الفلسطيني عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، وتعرضت القرية لأبشع مذبحة على يد العصابات الصهيونية، حيث فوجئ أهلها بأصوات مكبرات تدعوهم لإخلائها بسرعة، فوجدوا أنفسهم محاطين من جميع الجهات، وقام القتلة بأعمال القتل والتمثيل بالجثث.
منفذو المجزرة
شارك قرابة 150 من العناصر اليهودية في تنفيذ المجزرة، قادهم مناحيم بيغن زعيم عصابة “الأرغون” رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقا الذي وقع اتفاق كامب ديفيد مع مصر في 1979 ونال جائزة نوبل للسلام مع السادات، وإسحق شامير زعيم عصابة “شتيرن” رئيس الحكومة الراحل، ورأيا في المجزرة أسلوبا لطرد الفلسطينيين وإبادتهم.
ووضعت قيادة العصابتين خطة لمهاجمة القرية بالتحرك على 4 محاور، يتقدم أولها من مستوطنة “جفعات شاؤول”، والثاني تتقدمه مصفحة عليها مكبر للصوت من الشرق إلى قلب القرية، أما المحور الثالث فينطلق من مستعمرة “بيت هكيرم” للاقتحام من الناحيتين الشرقية الجنوبية عند جامع الشيخ ياسين، ويتوجه المحور الرابع من “بيت هكيرم” ويهاجم بحركة التفافية من الغرب.
بدأت المجزرة فجرا عندما اقتحم الصهاينة القرية وباغتوا أهلها النائمين، لكن شبابها واجهوهم بمقاومة لم تصمد طويلا أمام إمطارهم بقذائف الهاون، مما مهد الطريق لاقتحامها، ففجر الصهاينة بيوت الفلسطينيين وقتلوا كل متحرك، وأوقفوا الأطفال والشيوخ والشباب على الجدران وطافوا بهم شوارع القدس، ثم أعدموهم رميا بالرصاص.
ووصف مراسل صحفي تفاصيل المذبحة بقوله إنه “شيء تأنف الوحوش نفسها ارتكابه، لقد أتى القتلة بفتاة فلسطينية واغتصبوها بحضور أهلها، ثم بدؤوا تعذيبها وألقوا بها في النار، كما شوهوا جثث الشهداء وبتروا أعضاءهم، وبقروا بطون الحوامل”.
الشهداء والجرحى
تتداول الروايات التاريخية الأكثر رواجا أن الصهاينة ذبحوا بين 250 و300 فلسطيني في هذه المجزرة ومثلوا بأجسادهم، وقطعوا الأوصال، وبقروا بطون 25 امرأة حاملا، وذبحوا 25 طفلا، وجمعوا من بقوا على قيد الحياة وجردوهم من ملابسهم ووضعوهم في سيارات مفتوحة وطافوا بهم في الشوارع اليهودية من القدس، حيث تعرضوا لسخرية المستوطنين اليهود وإهانتهم.
فيما يرى مؤرخون فلسطينيون أن ضحايا المجزرة لم يزيدوا على الـ100، وأن الإحصائيات اليهودية تعمدت تضخيمها، لبث الرعب في نفوس باقي الفلسطينيين في القرى المجاورة لإجبارهم على الهروب من منازلهم.
ومن تفاصيل المذبحة المتداولة أن “سيدة فلسطينية كانت على وشك الولادة، دخلوا إليها، فشقوا بطنها على هيئة صليب، وأخرجوا أحشاءها وطفلها وذبحوه”.
وقال كبير مندوبي الصليب الأحمر كريتش جونز إن “منفذي المجزرة ذبحوا 300 شخص بدون مبرر عسكري أو استفزاز من أي نوع، وكانوا رجالا متقدمين في السن، ونساء، وأطفالا رضعا”.
اعتراف مخاتل
اعترفت الوكالة اليهودية بأن منظمات يهودية “منشقة” مسؤولة عن المجزرة الوحشية التي كان لها الأثر الكافي لهجرة الكثير من الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، واستغلتها الدعاية الصهيونية في حربها النفسية ضدهم بتهديدهم بملاقاة مصير دير ياسين، نظرا لما بثته من رعب في قلوبهم.
وزعم مناحيم بيغن أن “المجزرة ساعدت في فتح الطريق للمزيد من التقدم على أرض المعركة، وصولا إلى طبريا وحيفا، حتى أن جميع المدن التي صدت هجمات “الهاغاناه” أخليت ليلا وسقطت دون قتال، وساعد سقوطها مع الاستيلاء على القسطل في فتح الطريق إلى القدس، وفي بقية نواحي الإقليم بدأ العرب يفرون خوفا قبل الاصطدام بالقوات اليهودية خشية مواجهة مصير دير ياسين”.
وأضاف أن “لهذه العملية نتائج كبيرة غير متوقعة، فقد أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي، فأخذوا يفرون مذعورين، لقد خلقنا الرعب بينهم وفي جميع القرى بالجوار، وبضربة واحدة غيرنا الوضع الاستراتيجي”.
بعد عام من ارتكاب المجزرة “احتفل” الإسرائيليون بذكرى احتلال القرية بحضور وزرائهم وحاخاماتهم، وفي 1980 أعادوا البناء في القرية فوق أنقاض المباني الأصلية، وأطلقوا على شوارعها أسماء منفذي المجزرة.
إخفاء الوثائق
تواصل المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إخفاء تفاصيل المجزرة رغم مطالبات منظمات حقوقية بنشر وثائقها وصورها الموجودة في أرشيف الجيش الإسرائيلي بزعم أن نشرها قد يضر بعلاقات إسرائيل الخارجية مع أن العرف الإسرائيلي المتبع يتضمن الكشف عن مثل تلك الوثائق بعد مرور 70 عاما على وقوع أحداثها.
لكن مائير باعيل -وهو أحد رجال الاستخبارات الصهيونية المكلفة بمراقبة المجزرة- اعترف بأن “عناصر الأرغون وشتيرن نفذوا مجزرة طالت جميع الفلسطينيين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، واقتادوا 25 رجلا وضعوا في شاحنة طافت بهم شوارع القدس “احتفالا بالنصر”، وبعد انتهاء العرض أطلقت عليهم النيران بأعصاب باردة”.
أما ممثل الصليب الأحمر الدولي في القدس جاك دو رينييه -وهو الشاهد الأبرز على المجزرة والأجنبي الوحيد الذي دخل القرية ووثق مشاهداته- فوصف ما رآه قائلا إن “جل أفراد العصابتين مدججون بالسلاح، حملوا المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة ومعظمها ملطخة بالدماء، وبدا واضحا أنه “فريق التطهير” المكلف بالإجهاز على الجرحى، واتضح ذلك من خلال الجثث المكدسة خارج المنازل وداخلها”.
مع العلم أن رواية المؤرخين الإسرائيليين الجدد حول المجزرة تؤكد الروايات الفلسطينية والعربية كما جاء في كتابات آفي شلايم، وتوم سيغف، وإيلان بابيه، وبيني موريس، وموتي غولان، وغيرهم.
وتؤرخ دراسة أعدتها مؤسسة إبداع الفلسطينية للأبحاث والنشر عن مذبحة دير ياسين، حيث اشتعلت الأحداث بين العرب واليهود بحلول ربيع العام 1948 عندما هاجم جيش التحرير العربي المؤلف من الفلسطينيين ومتطوعين عرب بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني الطرق الرابطة بين المستوطنات اليهودية وتمكن من قطع الطريق الرئيس بين مدينة تل أبيب وغرب القدس مما ترك 16% من اليهود في فلسطين في حالة حصار.
وإثر ذلك، قرر اليهود تشكيل هجوم مضاد، فهاجمت العصابات الصهيونية قرية دير ياسين آخذة بعين الاعتبار أن السيطرة عليها سترفع الروح المعنوية اليهودية بعد خيبة الأمل من التقدم العربي على الطرق الرئيسية، وارتكبت مذبحة لم تنس في التاريخ الفلسطيني.
نقطة في بحر
يتوافق الفلسطينيون والإسرائيليون على أن مجزرة دير ياسين لم تكن الأولى وليست الأخيرة، لكنها الأكثر ذيوعا وتناولا من قبل وسائل الإعلام وكتابات الباحثين بمختلف اللغات.
وأحصى المؤرخون الفلسطينيون تنفيذ العصابات الصهيونية 80 مجزرة ومذبحة خلال احتلالها 400 قرية وبلدة فلسطينية عام 1948، أي أنهم نفذوا مجزرة في واحدة من كل 5 قرى احتلوها، ولم تكن دير ياسين حدثا استثنائيا، لكنها الأخطر من بين عشرات المجازر، ومن أهمها بلدة الشيخ، وسعسع، والخصاص، والرامة، وعين زيتون، وأبو شوشة، ودهمش، وطيرة حيفا، والدوايمة، وعيلبون، والصفصاف.
وتمثلت جميع المجازر التي نفذتها مختلف العصابات الصهيونية -ومنها البالماخ والهاغاناه وإتسل- بإلقاء المتفجرات على الفلسطينيين وفتح النار في جميع الاتجاهات، فضلا عن استخدام الأسلحة البيضاء الحادة دون تمييز بين شباب أو مسنين أو أطفال ونساء، وتخلل بعضها شق رؤوس أطفال بالعصي، ولم يخل منزل من الجثث، ثم اقتادوا النساء والرجال وأبقوهم دون ماء أو طعام، وفجروا المنازل بمن فيها.
في ذاكرة أبنائها
في ذكرى مذبحة قريتها (دير ياسين)، تجتمع الفلسطينية التسعينية فاطمة حميد بأقاربها الذين ولدوا وكبروا في شتات قريب أو بعيد، وقد حملوا جميعا ذاكرة القتل الجماعي على يد العصابات الصهيونية، كما حملت هي مشهد قتل زوجها وعمها المقاومين، وهروبها ذات ليلة.
كانت فاطمة في مطلع الثلاثينيات من عمرها وقت المذبحة، وتعيش مع زوجها منصور عبد العزيز الذي التحق مع عمها محمد حميد بالمقاتلين إلى جانب قائد معركة القسطل عبد القادر الحسيني، عندما اشتد العداء مع الصهاينة قبيل النكبة بأيام.
وفي “ليلة المذبحة” -9 حزيران عام 1948-، تقول فاطمة، “سمعنا صوت قنابل وانفجارات، ثم صوت عمي محمد يصرخ بي من بيت مجاور وسط القرية “اهربي.. اهربي، راحت البلد.. تركت زوجي مصابا ينزف بدمه وزحفنا أطفالا ونساء حتى وصلنا منطقة عين كارم القريبة”.
بعد أيام قليلة، عرفت فاطمة أن زوجها استشهد، وكذلك أعمامها محمد وعبد الله حميد، وتقول “ولما أحضر الصليب الأحمر الجثث والأسرى إلى منطقة الدباغة بالقدس “عرفنا الحي من الميت، ومن يومها تفرقنا”.
وفي اجتماعها السنوي بأهالي القرية، ارتدت فاطمة ثوب نساء دير ياسين المطرز بقبة مربعة على الصدر، وإلى جانبها نجلاء ابنة شقيقها، التي روت رفض جدها خميس حميد حتى وفاته قبل سنوات قليلة، عروضا بملايين الدولارات من مستوطنين إسرائيليين مقابل بيعه لأرضه المصادرة في دير ياسين.
وفي إحياء الذكرى، أعاد الكبار رواة حكاية “المذبحة والبطولة” عن دير ياسين التي شكل ذبح سكانها بطرق بشعة على أيدي عصابات الأرغون والشتيرن والبالماخ الصهيونية عاملا هاما في تهجير المناطق الفلسطينية المجاورة هربا من القتل، تمهيدا لاحتلال القدس.
ويروي رئيس رابطة أهالي دير ياسين مصطفى محمد حميدة كيف هاجم اليهود قريتهم الساعة الثانية ليلا من كل الجهات ما عدا الغربية، التي تركت بابا لهرب الناجين من الموت باتجاه بلدة عين كارم المجاورة.
لكن حميدة -الذي كان في الثامنة من عمره وقتها- يقول “لم يرع اليهودي في أهالي القرية لا امرأة ولا صغيرا ولا كبيرا، وفاق عدد القتلى 300 غالبيتهم من الشيوخ والأطفال والنساء، بينهم أخواله”. ويضيف “في تلك الليلة حاولنا الاحتماء ببيوتنا، وأغلقت أمي على صغارها وراحت تشدنا قربها.. لكن اليهود كانوا يقتحمون المنازل ويقتلون السكان إما بالرشاشات أو القنابل، فهربنا ليلا زاحفين في التلال باتجاه القدس”.
وحسب الرجل، فإن من هرب هم كبار السن والنساء والأطفال فقط، وبقي الرجال والشبان يقاتلون، حتى إن اليهود فوجئوا عندما قتل منهم في بداية الهجوم أربعة وجرح 37 فاستعانوا بعصابة “الهاغاناه” التي مهدت لهم الطريق بالمدفعية، ثم استعانوا بالطائرة حتى تمكنوا من احتلال القرية.
وتذكر كثير من المصادر أن الأوامر كانت أن يقتلوا كل هدف يتحرك، لذلك كان معظم القتلى من النساء والشيوخ والأطفال الذين حاولوا الهرب أو أعدموا في منازلهم، بالإضافة للأسرى الذين قتلوا بدم بارد.
ويذكر حميدة اعترافا لضابط إسرائيلي أشرف على القتل يدعى مئير باعيل بعد 24 عاما على المجزرة، قال فيه إن أسرى دير ياسين أخذوا إلى منطقة محصورة بين مستعمرة “جفعات شاؤول” ومنطقة الكسارات، وقتلوها جميعا رميا بالرصاص ثم ألقوا جثثا هناك ولم يدفنوا في مقابر.
وفي عمر السبعين، لا يزال حميدة على قناعة بحتمية استعادة قريته وفلسطين الضائعة، “مهما طال الزمن سنعود إلى قرانا وليعودوا هم إلى حيث أتوا أيضا.. لم نخرج من بلادنا طوعا بل مقاومين، ولذلك سنعود”.
طافوا بهم وقتلوهم
أما الحاج سمير عبد العزيز (58 سنة)، فقد ولد في الجيل الثاني بعد المذبحة، لكنه وثق روايات والده وعائلته عنها، فبينما كان والده يقاتل بمعركة القسطل، أخذت والدته أسيرة مع خالاته ومجموعة من النسوة وطافوا بهن هائمات على وجوههن بين المستعمرات بعد أن قطعن عن أطفالهن إلى أن وصلن الصليب الأحمر.
وتتفق هذه الرواية مع ما ذكرته المصادر الرسمية حيث اقتيدت النساء، ومن ثم 25 من الرجال الأحياء في حافلات ليطوف عناصر العصابات الصهيونية بهم داخل القدس “طواف النصر على غرار الجيوش الرومانية القديمة”، قبل إعدامهم رميا بالرصاص وإلقاء الجثث في بئر القرية.
ولا ينسى عبد العزيز التذكير بأن دير ياسين لم تسقط بلا قتال، وقد سجل عن والده حقيقة عدد القتلى، ففي حين أعلن الاحتلال أن 353 من أبناء دير ياسين قتلوا، كان الأهالي يميزون 106 فقط من بينهم، والباقي من المستعربين اليهود.
ومع صغار كثر تجمعوا لإحياء الذكرى رافعين مقولة “دير ياسين بداية الوجع الفلسطيني”، يذكر الجميع هنا حكاية الحاجة أم صلاح التي فقدت كل عائلتها، وكذلك قصة حلوة زيدان التي كانت تسعف الجرحى وقتلت من قرب وهي ترتدي شارة الصليب الأحمر.
ويتناقل الأهالي بعد 65 عاما صور القرية، لكنهم جميعا لا يتمكنون من وصولها، حيث أقيم على أراضيهم مستشفى إسرائيلي للأمراض العقلية واستخدم ما تبقى من منازلهم مخازن للمستوطنين.
ورغم الألم الذي يحدثه اسم دير ياسين في الذاكرة الفلسطينية، يحلم الصبيان مصطفى وعلي الياسيني بالعودة إلى قرية “التلال الخضراء” وهما اللذان لم يشاهداها يوما إلا مرورا من طريق مجاور.
جرح لن يلتئم
لم تكن ليلة يوم الجمعة التاسع من نيسان\ أبريل 1948 ليلة هادئة في قرية دير ياسين المقدسية المهجرة، فرغم توجس الأهالي بعيد سقوط قرية القسطل واحتلالها على يد العصابات الصهيونية فإنه لم يخطر ببالهم أنهم لن يأووا إلى فراشهم بالقرية مرة أخرى، ولم يعلموا أن من بينهم أشخاصا لن يشهدوا غروب شمس اليوم التالي.
تفاصيل تلك الليلة لم تخبُ بين ثنايا ذاكرة المسن التسعيني محمد رضوان، الذي حرص على أرشفتها بدقة وواظب على مراجعة هذا الأرشيف في ذكرى المجزرة كل عام.
ففي تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، اقتحمت عصابتا الأرغون وشتيرن الصهيونيتان وقوات من البلماح والهاغاناه قرية دير ياسين، وكان رضوان ورفاقه يحرسون القرية من جهات متعددة.
شعر شبان القرية بالبرد أثناء الحراسة، وقرر رضوان الذهاب إلى منزله لإحضار الشاي ليشعروا بالدفء، ومع وصوله إلى المنزل شاهد الباب مفتوحا وأحس بالقلق لعدم وجود والدته بداخله بينما يغط أشقاؤه وشقيقاته في نوم عميق.
استذكر رضوان تلك اللحظات قائلا “القنابل المضيئة أطلقت بكثافة في سماء القرية وبدأ إطلاق الرصاص معها.. شعرت بالخوف فأيقظت أشقائي وأوصلتهم إلى أطراف قرية عين كارم المجاورة وعلمت منهم أن أمي حملت العجين وذهبت به إلى فرن القرية لتخبزه، ومع دخول العصابات للقرية استولوا على الفرن وكل النساء الموجودات هناك وذهبت أمي أسيرة معهن إلى خارج القرية”.
وفي تمام السابعة صباحا، اشتد الزحف على القرية وبدأ مسلحوها الذين بلغ عددهم نحو ثمانين رجلا بالرد بكل ما توفر لديهم من ذخيرة، ليدافعوا عن 750 نسمة من أهالي دير ياسين، الذين حاولوا طمأنة بعضهم قبيل الهجوم، وهدّأ الرجال من روع نسائهم وطلبوا منهن الخلود للنوم رغم قلقهم من ساعة الصفر التي أحسوا أنها قريبة.
حتى آخر رصاصة
ومع إشارة الساعة إلى الرابعة عصرا، استسلم العديد من المسلحين بعد نفاد ذخيرتهم، وبقي محمد رضوان ورجلان آخران يقاتلون حتى آخر رصاصة معهم، قبل انسحابهم باتجاه عين كارم، لأن العصابات سيطرت على القرية بشكل كامل قبيل حلول ظلام التاسع من أبريل/نيسان، مخلفة فيها 92 شهيدا بينهم ثلاثة أغراب عن القرية.
وعما رآه خلال ساعات استبساله في الدفاع عن دير ياسين، قال رضوان “استشهد أمامي العديد من شبان ورجال القرية، لم نفكر بمنازلنا أثناء المجزرة بل بنسائنا وأطفالنا الذين قتلوا بدم بارد”.
مثقلا بأوجاعه التي لم تُشف بعد، عاد رضوان لقريته المهجرة عشرات المرات بعد النكبة، فما زال رغم مرور 69 عاما على المجزرة يحلم يوميا بالعودة لدير ياسين ويدعو كل ليلة أن يغفو مجددا بين كرومها وأحجار منازلها العريقة.
وخلال عودته المؤقتة للقرية، حرص بزياراته على قطف ثمار اللوز من أشجارها وجفف منها ثمرتين كتب عليهما “قطفت من دير ياسين”.
وبعد تحويل منزل عائلته إلى منجرة وتثبيت نجمة داوود على إحدى نوافذه، زار المنزل والتقط صورة تذكارية، وعاد لبيته في البلدة القديمة بالقدس حاملاً معه بلاطة من منزله بدير ياسين، ولم ينس أن والده جدد بذلك البلاط المنزل عام 1936.
تجلس زوجته زهدية رضوان بجواره تحدثه بتفاصيل دقيقة عن تلك الليلة، فهي أيضا كان لها نصيب من رؤية العديد من الجثث المتراكمة فوق بعضها أثناء مغادرتها القرية.
وعن ساعاتها الأخيرة فيها، قالت “حملت صندوقا ذهبيا كان يحوي بعض النقود والذهب لأهرب به.. شاهدتني أمي وصرخت بي بقوة وقالت أعيدي كل شيء لمكانه سنختبئ بالمغارة لساعات ونعود للمنزل، وحملت معها الكثير من الرصاص والماء زودت بهما المقاومين وغادرنا.. ولم نعد لدير ياسين حتى اليوم”.
لم تحمل زهدية الذهب ولا النقود، لكنها حملت معها الأهازيج الشعبية الفلسطينية التي واظبت نساء القرية على ترديدها لشبان دير ياسين، وما زال صوتها يصدح بها حتى اليوم في الأفراح قائلة “شباب بلدنا كلهم ملاحي زي السفرجل نازل عالتفاحي.. وشباب بلدنا كلهم صقورة خوخ وسفرجل شابك عالبندورة”.
المصادر
فلسطين: تاريخ شخصي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر،. 2013.
حرب التطهير العرقي لفلسطين 1947–48
ويكيبيديا
الجزيرة نت
المعرفة