طوبى للطفولة التي تسكن رحم البراءة ولا تغادر إلى محطات الرعب، لو أعود إليها على سلالم من غبار لتقيأت غيمك ورعدت في وجهك غضبي، حيث لم أستطع أن أمطرك وابلاً من الشتائم حين كان أبي يشدك من ذيل ثوبك المزعوم كي يلعق صمغ رغبته، وكنت تلتفتين إليه بساقك وأصابع يديك الملونة تتعرق بين سطور توراتك المقدسة وكل الصفحات أرض ميعاد، وأصابعي ترسم في الفراغ أنفك، كل ساحرات قصص الأطفال لهن أنفك، وعلى الجدار سبع أشبار، ست شموع ووجهك ويسافر ظلك مع أسفارك.
محطة الذاكرة:
كل ملائكة التلوين يقدسون ريشتي، وأنت أمّاه يساورك شكك في أن الرقص للخصر، ورقص الرعشة في أصابعي لن يجعل من خوفي سارقاً للوحاتي من باريس ديجول أو معابد اليبوسيين في أورسليم.
أسفار التكوين لعبة التلوين، وكنت أرسم على الجدار ظلك دون طباشير، وكل الساحرات لهن أنفك تشمين رائحة انحرافي عن مسار خلقك فتنزلين كتبك السماوية من رفوفك السبعة، وتهجين حقك الإلهي إصبعاً إصبعاً في لحم أكتافي، وتشدين دون أن تستريحي على رفك السابع ترانيم مزاميرك: طوبى لبريق الذهب! ألمعْ منذ طفولتك يا ابن أبيك، أرض ميعادك حلم أجدادك.. أحلامك يا بني لن تطعمك برتقالاً، وريشتك لن تنزّ مالاً، اضرب جدول الضرب يا بني، ضاعف مخزونك اللامع من وميض البرق، من رائحة المضاجع، ضاجع كل المواسم، تسلق الربا وازرع الربا، احصد كل الفرص في الصبا، اكذب ثم اكذب من أجل حقيقتنا المقدسة، اكذب وأخيراً لا بد أن يصدقك الآخرون.
الوصايا الألف، الوصايا العشر، الأظافر العشر، لحم أكتافي يعوَّد مداعبة القطط وأذناي متابعة المواء، وألواني تضاعف التصفيق في صفوف المصلين ولوحاتي تزين شرفات حيّنا وتدغدغ أحلام الأطفال بينما مدرّس الرسم الأعور الذي تزورينه من أجلي يضاجع أنفك في أحلامي بعدما شاهدته على رصيف آخر يطبع وجوه المارة مقابل نصف روبل أعرج يهرب من لوحاته.
وأنت تهربين من ذاكرتي كلما حاولت الإمساك بك قبل بدء الرعشة، وتدخلين كالدخان لوحاتي قبل بدء ضباب تأملاتي.
لا الضباب رمز النقاء، ولا الدم لون الزهر، ولا الظل والضوء بعد ثالث لبريق الذهب.. من قال لك من شرفات الجيتو وحده تشرق الشمس؟ ارسم شخير أمك علها تفتح لك جيوبها الأنفية وتمخط ألواناً للوحاتك..
ويعلو صراخهم أمّاه، تضيق الحلقة، تخنقني والرؤوس حليقة منتوفة الزغب، والأعناق طويلة، واللقالق تعشش على الشماعات، واللوحات تتساقط أبعادها وتسيل ألوانها، وعرقي يسيل أمّاه. أمّاه بريئة لوحاتي التي اتهموها بتهويد الفن ونبذوني من أجل ألوانها: لون الدم، لون النبيذ، لون السماد الآزوتي لزراعة الأسماك في حوض الخزر، يا حيض الحوض يا لون سائلك أمّاه.
كلهن طارت نهودهن نوارس جارحة! إلا هي (فالا) نقاء الثلج، زبد الموج، ضمتني إلى لطافتها فأبحرت بشراعها في اغتراب التراتيل وأشعلت في خصرها قناديل غياب القمر في زمن تمزيق الصور. أماه عيناها ضوء في الماء وشيء كالخنجر..
محطة فالا:
عيناكِ ضوء في الماء وشيء كالخنجر، برعم للحلم ولون للزعتر المفروش هضاباً في جنات عدن حيث النبيذ رائحة عسل الأنهار والبرتقال أمطار الليل الموسمية والصحراء البكر المنتظرة تعاليم الآلهة وضلوع أحفاد يشوع التي ستحرث رمال بكارتها وتبذر الخصوبة عصافير من أزهار.
عيناكَ ساحة الغموض الجميلة، لوحاتكَ الضبابية سحر الشرق إلى نعنع الروح السماوية وأقحوانتي البيضاء التي تسكن نقاء الثلج قلبك، ضمني إلى صدرك ولنشتعل معاً نجمة حمراء، على شجرة جذورها من فضة وفروعها من مطر، ثمارها لكل الناس وكل الناس لنسغها، ضمني ودع ضوءنا يطارد الظلال والعيون تلمع دفئاً غاضباً..
ورائحة الفودكا كرائحة الخصوبة مددت يدي أمّاه كي أحمل نهديها فشبكت أصابعها بأصابعي ولبت دعوتي للرقص.. صار الرقص أرجوحة والليل فجراً، الغرفة فراغاً، والفراغ بحراً، الحلم مركباً للطفل، والمجاذيف أيادي متشابكة، وفالا زبد اللجة، جف حليبها وسائل ربيعها، وطحلب صقيعها وما زلتِ أمّاه تطعمينها أقراص العرافة المجهضة، وأصابعك تطرز قطعك الذهبية وتقلب صفحات توراتك المقدسة؟ ستصغر كل تعاليمك أمام هذا الصغير الذي دخل كهف الرسم من أوسع أبوابه تاركاً النوافذ للريح كي تحمل رائحة الخطيئة إلى أنفك، يا أنف الساحرات أنفك.
فالا البريئة تنضج أحلاماً لطفلها، وتدر شغفاً.. آلهة الإلهام فالا النجمة الحمراء، رونقها المتبرعم يبحث في غبش الضباب عن ولادة سرية لمستقبل زاهر، وأنت تنتظرين موسم إجهاضها على دخان محرقتك، روح الجنين ستحوم على قبرك أطيافاً من شوك الصبار أماه. روح الجنين ستحوم على قبرك أطيافاً من دمار أماه.
محطة العتاب:
روح الجنين ستحوم على قبري يا ابن أبيك، لن تلد حفيدي إلا امرأة أكلت من عفن التوراة المقدس وشربت روحه واكتست ذهباً من تعاليمه، شجرة عائلتك – وحظك السيئ أنك من فرعها الأصلي – بين فخذيك يا رائحة الشتيمة، لا أصل لك، لو كان سائلك المنوي من فضة لما كتبت حروف عذابي.
يا عذاب العذاب أنت، لماذا تجرح قلبي الطاهر من جديد؟ نسغ النسل أنتم، ضلوعكم صدورنا، وسوسنكم زهورنا، محراث الخصوبة أنتم وحقل موسى رحمنا.
هيا يا بني لا تلوث أعمدة الدخان الصاعدة من مبخرتي برماد خيبتك كلما رجعت من أسواق العزاء في المساءات القطبية حاملاً لوحاتك على أكتافك إشارات استفهامك. ليتها شمعدان، ليتها أيقونة دعاء، ليتها صليب معقوف، هيا يا بني أبونا وايزمن رسم أحلامنا باللغة اليديشية، وأنت هل ستفعل قبل أن يأكلك عفن لوحاتك؟ هل سترسم باللغة الروسية غيمك وتهطل مع ثلج موسكو الأبيض على متاحفها الحمراء؟
هيا يا بني هيا، بوابات الرحيل فتحت لك كما تفتح سماء ليلة قدر المسلمين بعد صيامهم آلاف السنين.. لم لا تصغي إلى مزامير أمك الرؤوم؟ تأبط دفاتر العداء للسامية، وادهن جلدك بدماء ضحايا القيصر، دهن مهراق كي يحببنك بنات أورشليم، وارتد قناع النازية في ليلة التنكر البلورية. هذا زمن التلوث: الإيدز يغزو العالم من بوابات البيت الأبيض يا بني وجدار برلين نزَّ خبز الشعب السائل وتناثر ميداليات ذهبية، مدينة قسمتها بدايات الحرب المشتعلة فوحدتها نهايات الحرب الباردة يا بني.
ثلج موسكو براد البلادة الضخم والشوارع سلسلة البشرية اللامتناهية، هلا سافرت في طوابيرها عبر رائحة الخضرة الندية والأزهار الشذية وحبات الكرز المهربة لتصل في الشهر نفسه من السنة المقبلة إلى معلبات البطاطا ولحم الخنزير المخزون من بداية الطابور الخامس، جعبة أوجاع الجيش الأحمر والحدود المتداخلة، خبط تقسيم وتباشير صباح ضيع بوصلة ضوئه. والثلج ضيع لونه وغداً لناظره بعيد، وابني العنيد سيضيع حلمنا الوحيد، يا عصير الفودكا، يا سادة الأحلام الخاملة، يا صقيع الصقيع، ابني الرضيع يكبر في الاتجاهات المعاكسة، جده السابع عشر تسلق جدار برمودا قبل أن يفتحوا بمؤتمرها بوابات الهجرة! جد جدك يا بني رحل ليعمل دمعة على حائط المبكى حين كانت جوازات السفر من جلد بكاراتنا، من شرائح دمائنا المجففة على حبال القيصر، وأنت يا حفيد وايزمن سيرسمون لك خطوطاً جوية من هيكل الكرملين إلى هيكل سليمان كي تعبر على متنها بجناحين من صوان باركهما يشوعنا، وما زلت يا بني تزحف على شاطئ الخزر باكياً، عند مصب فخذي فالتك جنينك المطروح، بينما كل وصيفاتها رحلن إلى الشرق عبر موجات الرقيق الأبيض المقوننة بتشيع السياحة وشبق التحرر وثمالة المتعة..
آه يا بني لم تهدم أحلامنا العتيقة؟ ها هم أعادوا بناء البناء، الأفكار المكدسة تبللت بماء الحرية المستوردة والمدينة التي سيردمها البحر وصل الماء حتى سرتها، مجرى الأنهار التي اختلفوا على تغييرها اتفقوا على تغيير أسماء مصباتها، يا بني خنصر مجنون يغير معالم الكرة الأرضية، أربعاً وعشرين مرة، هيا يا مجنون فالا، ارحل قبل أن تغلق بوابات الرحيل إلى الخلود.. هناك ستخلدك المعارض، هناك ستصور لوحاتك بعدسات من صدف اللؤلؤ وستحمل فرشاتك على زنابق من عاج، سترى الشمس يا بني من مصباح يدور حول قمر المد والجزر وأنت تموج على سريرك المحشو بماء الورد. ها.. هيا يا بني اركض، الأرض ستغلي في مرجلنا وسنعيد صياغة الخرائط من جديد، هيا يا صغيري، ارحم أمك المسكينة، وارحل. لا وقت للنحيب، لا وقت لجني الفرص، لا وقت للسخافة ولا للنظافة، هناك يا بني يزرعون الإلكترون ويحصدون الخرافة، هناك يا ابن أمك اللوبي يصعد إلى بنوك الفضاء وأنت تتسلق قلبي المشطور بين رئتين!! هيا يا بني لا وقت للعتاب، لا مكان للخراب (..المملكة التي لا تخدمك تبيد وخراباً تخرب الأمم..) اركض يا خليفة النبي ساخاروف، لا وقت للصلاة.
محطة الوداع:
لا متسع للعتاب، ولا وقت للبكاء ، جمعوا دموعكم في جعبتي، سأرشها لكم على شقوق حائطنا ولتكن صمغاً مباركاً، وألواناً لفرشاتي رغب العصافير التي سأرسمك بها فالا .. فالا: (دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع، سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن..) فالا لا تكتئبي ستثمرين من جديد، سأنثر في رحمك بذور نسلي المستقرة بعدما تعبرين على حصان من قوس قزح إلى بيت (الزانية راحاب) حيث تتهودين وتمتدين إلى خرائط تمتص أبعاد انتماءاتنا.
آه يا نجمتي الحمراء، أين لعبة الألوان الآن؟ ها هي ألوان رعاة البقر – كما تقولين – سالت إلى المروج السندسية منجلاً من شيكولاة ورائحة الحصاد رائحة الشكلس لطخت نجومكم ومحقت بدركم في الليل وفي الليل كان الرعد سنابك خيل..
فالا هناك سنمتطي أكحل الخيول العربية الأصيلة، أقصد العبرية الأصيلة.
هيا يا بني امتط صهوة طائرتك وحلق كالشعاع في سماء إسرائيل، هيا يا بن أمك دع والدك الجشع في كل شيء ما عدا الثمالة، دعه لبكائه ولأحلامه البروسترويكية، وانقل قبلاتي العطرة لحبيبي ديفيد: (شفتاه سوسن تقطران مراً مائعاً، طلعته كلبنان، فتى كالأرز). وقل له: أمي لن تنسى مزامير الليالي الكستنائية حيث أنفاسه كانت تعلو.. وتعلو..
وعلت الطائرة إلى السماء السابعة، وهبطت موسكو سبع درجات تحت الصفر. تجمدت دموع فالا، تقلص أنف أمي، وراح أنفي يشم روائح ناردينية تهب من أودية نهود المضيفات، تلفح سفوح رغباتي.. ألهث، تتعرق النوافذ المطلة على طرقات الغيم القطنية المؤدية إلى محطات التبديل حيث النفق المحايد بجدرانه الزجاجية السوداء، وأنابيب التخدير ببواباتها الهلامية التي يحرسها رجال من فخار يعلقون على أكتافهم أجهزة غريبة، تشغلها فقاعات سحرية، ترشدنا أضواؤها النابضة بالأسهم إلى أجهزة التفتيش اللامرئية ومرايا الغضب التي تمزق ثيابنا الداخلية قبل أن نجلس على كراسي المراجيح ويصبح رأسنا مكان أحذيتنا لتسقط كل القطع النقدية والشيفرات والمعلومات التي بلعناها من أيام شهر الصوم القسري.
أماه حملتنا المناطيد المغناطيسية من طائراتنا التي حمّلوها برتقالاً يافاوياً إلى طائرة جديدة تحرك مراوحها النفاثة آلات بخارية تعمل بالفحم الحجري، أوصلتنا بعد زعيقها المفجوع إلى الأجواء الخليجية حيث رحب بنا (نورمان، قورش الثاني) شاكراً داعي السلام (خربطشوف) الذي خربط اتجاهات الحرب الباردة ونال جائزة نوبل. وراح يتحدث عن كلب هتلر وعظام ستالين، وعن هرتزل مملحاً حروفه اليديشية، وعن حكماء صهيون متبلاً بروتوكولاتهم، وراح يتحدث ويبهّر، يتحدث ويتبل إلى أن تعب العمال الفلاشيون من نقص البهارات في عروقهم، مما أدى إلى انخفاض مستوى الفحم الحجري في المراجل البخارية. وتجمدت الأبعاد الهلامية وانفجرت الأصوات النحاسية فهب الركاب للمساعدة، ولأن خبراتهم متواضعة، أربكوا عمال المناجم في القواقع الفولاذية وانتشرت الفوضى في المعابر واختلط الحابل بالنابل.
انتفض القبطان وسارع إلى ركل المضيفة بحذاء أمريكي الصنع حين علم أن الحجر السري الأسود المجلوب لتحديد حجر الكعبة قد اختلط مع الفحم الحجري ووضع في النار!! وخلع قورش الثاني نعله وراح يتصل بكل المحطات الأرضية والجهات العلنية والسرية والأرصاد الجوية والأقمار الصناعية، إلى أن فتحت حدود السماء وسمح لهجرة جبال الجليد إلى الصحراء فاتسعت المنخفضات وتداخل السحاب بتكثيف الضباب وتخلخلت زوايا الرؤية، فعلقت الطائرة بالغيم.
صرخ أطفال تشيرنوبيل فرحين لسقوط الثلج على النوافذ، وبكى الشيوخ خوفاً من هطولهم مع الأمطار الموسمية. أنشد الجميع التراتيل، وزعت المطارق والأزاميل وبدأ العمل والتهليل، لم أشاركهم كثيراً في عملية فصل الغيم عن الطائرة لانشغالي في مراقبة رجل وامرأة يجربان ممارسة الجنس على سرير السحاب الطري. ولأكون أكثر جدية في العمل ضغط مساعد القبطان على ما بين فخذي، فاستيقظت على أيدي المضيفة تداعبني وتربط لي حزام الأمان.
أهلاً بكم، وبعودتكم المقدسة، يا أبناء إسرائيل.
محطة اللقاء:
أهلاً بكم في أرض الميعاد، وبعودتكم المقدسة إلى بلد أجدادكم يا أبناء إسرائيل الكبرى…الهتافات تعلو والتحيات صرير، ووفود رسمية وعائلات تشبه عائلاتنا، وجنود يحملون ميداليات رشاشة، داروا بنا بسيارات مكشوفة سقفها طائرات مروحية، أنحاء المدن والقرى، داروا بنا أماه وغرقت الأحلام! الشوارع أنهار سوداء والأرصفة سفن أمريكية تموج، ترسو المحطات، وتأتي الأماكن.
هذه متاحفنا: نماذج من أثواب سبايا بابل مطرزة بنجوم داود وبريش طيور سيدنا سليمان، تاج قورش ملك فارس محرر نسائنا، أوعية سداسية الإطار كانوا يجمدون بها دماءنا الجارية من مذابح القيصر، سلسلة كلب هتلر، نماذج مصغرة عن أفران الغاز النازية، أيقونات من نهود العذارى مطلية بدمائنا السامية، تحتها ريش أزرق من صقور حمائمنا، قطعة نادرة من صليب سيدهم المسيح عليها تواشيح هيرودوس طعمتها القوة الخفية بصكوك الغفران وبقطرات براءتنا من دمه. مخطوطات مجففة من آياتنا القرآنية الخيبرية، سكاكين ختان من حجر الصوان، نموذج عن عصا موسى وعظم حوض ستالين.
هذه حروبنا: هذا تموزنا، حزيراننا، أيلولنا، تشريننا. هذه أشجار الأقمار الصناعية، ثمرة التجسس الناضجة تفاحة حواء، جذع الذرة وفروع الرؤوس النووية. هذا هو برج أواكس الفلكي ومذنب داود السداسي، الشهب الذي أحرق المفاعل النووي العراقي. وهذه خوذة الطيار الذي دمر حمامات الشط التونسية..هذه شظايانا الصخرية التاريخية في هضبة الجولان، وهذه خزعات من خلايا السادات الجذعية، هذا ترياق الختيار السري، وهذه صور أبطالنا في ملاهي الحمرا، وسواحنا في البتراء..
هذه بحارنا: سنصل البحر بالبحر.. والنهر بالنهر، نبع الحضارة ماء الخير نحن. في مرجل صهيون سينصهر العالم المحيط بنا ويصاغ من جديد إسرائيل كبرى. هذه أرضنا نزرعها سبع مرات نحرثها سبع طبقات…
وعلى الجدار سبعة أشبار، ست شموع، ووجهك، ويسافر ظلك مع أسفارك: هيا يا بني الجيتو الجديد هناك، بيوت من كرتون فولاذي، جدرانها لوحات جاهزة للرسم، أبوابها من خشب السنط، نوافذها منبع الشمس المتجددة كل يوم، أزهار حدائقها الذهبية ترقص على موسيقا الله الصاعدة من مسامات الصندل. هيا يا بني اركض.. اركض لا وقت للعتاب..
أي عتاب أماه؟ هيا تعالي واقرئي طالع أكتافي، هلا تلمست ندب أظافرك؟ اتسعت مدرجات ندبك أماه وحطت الخشونة أوزارها، تشققت نعومة بشرتي وتصلبت أصابعي.. ولأني لا أستطيع تجديل شعر أحلامي المتطايرة، نتفت شعرك بسكين يشوعك حين حاولت رسمك على جدار مخيلتي..
الجدران من متراس، البيوت من قلاع، والقلاع من حدود، السرير نعش متنقل، الحدائق أزهارها رادارية، العصافير أجراس كنائس، والبحر يقذف على شواطئ عراتنا إشارات تعجب! المآذن والقباب رمز ذكورية صارخ، والنخيل يهزأ من أبراجنا، أماه، الأعشاب من شوك والشوك شعر البشرة والفطريات مساماتها، والتعب وسادة دائمة، لا يدوم إلا الحظ أماه.
ثلاث سنوات سأجدل الأسلاك الشائكة وأتسلق حبال أبراج المراقبة، أو أصطاد الحجارة، وأي فراشات؟ أو أطارد المشاغبين، وأي أطفال؟ طوبى للطفولة المهجرة قبل بدء تبرعم الزغب.
ثلاث سنوات ودورة تلحق دورة.. اركض يا بني قبل أن يفوتك سرب الخلود، اعبر حدود السماء بجناحين من صوان على خطوط من فضة.. الخطوط خضراء أماه والحدود جهنم الحمراء، النعوش بلا جثث والخيول بلا أصالة، الخرائط تمتص صراخنا إلى ثقب الأرض، بئر الصحراء والحلم سراب أخرس..
ثلاث سنوات سأعمل كل النهار وأتسلق جدار الخوف في الليل، وعلى الجدار سبعة أحجار، ستة أطفال وظلك، وأنفك يلاحقني مع رائحة أسفارك، ودورة عسكرية تلاحق دورة شهرية وتلاحقني، واركض يا بني. ركضت أماه ركضت إلى ديفيدك فوجدته يمتص شفته السفلى ويكتب مذكرات امرأة عاقر. سألته الرحيل إلى البيت الأبيض، فقادني إلى دورة جديدة، هناك التقيت بها أماه.. وهناك فاحت رائحة الماسونية المنقوعة بحرير ذكرياتنا.. المتفسخة بخوفنا من الآتي ..
محطة سارة:
هناك التقيت بها أماه، كان المساء ينحدر من الصخور السندسية، حين اختالت كأيائل الحقول يتبعها عطرها، سارة: (نرجس شارون، سوسنة الأودية). أنت أجمل من فالا بكثير! كانت تعرف ذلك أماه، وتعرف اللغة الروسية، واليديشية، وأشياء لا أعرفها، كانت توزع ظلها على ساعتها الرملية، ترتدي لكل فصل زهرة، ولكل طريق حذاء، ولكل نسيم رائحة. أماه، ضوء عينيها شبق حذر، خوفاً يخجل الناظر إليها، تريد كل شيء ولا تريد شيئاً. خلسة تجتاح عالم أحلامي وتهز نقطة فراغي، فأكبر ويصغر ديفيدك، يتشقق جدار القلعة ويمتد إلي بصيص الضوء، ألفح خاصرتها فيطير رهيف ثوبها، تودعني بعدما تتصفح حسرتي ودفاتر مواعيدها، تتركني كل يوم لأمنياتي التي أقرأها في طالع عينيها، في رجفة كفيها.. اركض يا بني هناك ستعلن ختانك للجميع. سأركض أماه سأعلن الرحيل عن سارة أو الرحيل إلى رغباتها المنومة مغناطيسياً، سأدخل مدارات (بنات بريت) وإلى معابد التدجين أطياف التلوين، دفاتر التكوين.. هناك يا بني يزرعون الإلكترون ويحصدون الخرافة، يعلبون العواطف، يبرمجون المشاعر، يعمرون السحاب، لا وقت للعتاب.
لا وقت للعتاب، سارة.. كان ديفيد وكان القرار. ما أجمل أن ننتظر أحداً أماه!! السرير من ذهب، والنار والحطب وأعمدة الدخان معطرة بكل أذرّة الناجر والمرر. (أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء). ما أجمل الانتظار أماه، والسرير محشو بماء الورد والوسادة بريش النعام.
كان المساء وكانت سارة: ثيابها الشفافة تموج من خصرها النحيل، شفافة أعمدة الدخان الصاعدة إلى حلمتيك العنابيتين والثوب الزهري غبش صباحي يتلاشى مع بداية لمعان نجمتك السداسية التي تزين عنقك، سارة شفتاك المرسومتان…
لا وقت للنثر، لا وقت للشعر، ضمني إلى ضلوعك، قبّل شفتي المرسومتين بريقك، كم انتظرت احتساء مسكه؟ كم أشتهيكم يا أحفاد وايزمن يا امتداد الحلم في سحايا هرتزل.. شدني إليك، شدني أكثر وفجر بذورك في رحمي، أدلف سوائل الإنعاش، شتت حزني، بدد سقمي، شرد عصافير رغبتي، لا وقت للعتاب.
لا وقت للعتاب، ولا وقت لنزع الثياب، مزقت ثيابها وثيابي أماه، شربت كل لعابي، عضت أسناني، خرمشت الوسادة، وأكلت أرنبتي.. ارتعشت، ارتجفت، وارتجفت معها، علا نحيبها، شلخت شعرها جرحت عنقها، تقلصت عضلاتها، سال لعابها، ازرقت أوردتها تحت جلدها وتحولت عيناها العسليتان إلى عتمة مميتة!!
كانت سارة أماه، وكان الليل والرعب سنابك خيل، من أين جاؤوا والأبواب موصدة؟ مع الصدى جاؤوا أماه. حملوها على سرير من شعاع إلى منابع البرق إلى مصانع الغيم، ورعد ديفيد في أذني: لا تخف يا بني إنه مجرد إرهاق عصبي صيفي سيزول في سباتها الشتوي.
من أين جاؤوا أماه والأبواب موصدة؟ إنهم يعرفون كل شيء، يشاهدون كل شيء، إننا على مرمى رؤيتهم أماه.. على مرمى الرؤية أعلنت عن ختاني، وعلى مرمى الرؤية سأتبرز جدائل من قش وسيعرفون صلاحيتها للتخزين وقابليتها للحرق. الجيتو حوض سمك كبير، كبير نسبح في هوائه غباراً حديدياً من كل العصور، والأمواج المغناطيسية تولج بنا حيث يريدون، أماه نتنفس حين يشاؤون، وهل نشاء والضباب على المرايا أسئلة مكرر من بخار الماء..؟
اركض يا بني لا الضباب بخار ماء ولا الهواء فقاعات مغناطيسية ولا الطرقات رادارية.. من قال إن خطواتك مسبقة الصنع؟ اركض يا بني، أركض ..
ركضتُ أماه، بحثتُ عنها في ملاجئ التوليد لأن صراخها مزق رحمها، فوجدتها في معهد البحوث تأكل أظافرها وتقرأ فنجانها: ولأن والدي ذهب مع حملة تابوت العهد إلى مناجم الذهب في جنوب أفريقيا، وعاد قبل أن يتغير لونه مصاباً بداء (الكاوبوي) أغلقوا في وجهه الغابات الملونة فارتاد الحدائق العامة، أغلقوا الحدائق العامة فارتاد الشرفات مصراً على اصطياد العصافير السوداء. ولأن أمي تكره الخزريين وتخاف الرحيل إلى بابل الجديدة طلقت والدي الذي كان يدخل غرفة نومها بمهمازيه ويربط السرير بالحبال.. طلقته قبل رحيله المقدس.
ولأن الخادم المخصي المطعون بلونه فض بكارتي وطفولتي، صرت حين كبرت أمزق ثيابي في ليالي الكوكائين الخريفية بعدما فشلت في الحصول على شهادة أنوثة مفرطة من معاهد الهرمونات.
أماه، والد سارة هجروه لأنه يصطاد الزنوج في لعبة الأسلحة وهوس الخيول ويتابع مسلسلات الثمالة في ليالي مصارعة الثيران، وأمها تخاف الرحيل إلى بابل الجديدة.. بابل الجديدة أماه؟ وسارة المسبية للسبات الشتوي تقرأ الفنجان وتضاجع خيط دخان تتنفسه من جلدها.
ولأني تنفست معها، وزررت لها قميص غيمتها طارت بجناحين خرافيين فوق المداخن القرميدية فتكسرت مياه العرافات في الودعات الرملية، وانقلبت وجوههن إلى أحذية تدوس على شعورهن حين أخبرتني بأن الخادم اللامخصي الذي اغتصبها وهو يرتدي بشرة سوداء، هو نفسه الضابط الأشقر، الرجل الثالث في (الشين بيت).
يا عذاب العذاب، تريث، يا نسغ النسل تريث، ضلوع إسرائيل صدورنا، وحقل موسى رحمنا، لا تلوث رماد الفجيعة بإعلان الفضيحة.
لم أعد أعرفها أماه، غيروا ملامحها لأن أجراس جنونها تدق كلما حاولت هز حبال رغبتها، ولأن عصافير زقزقتها تسلقت سلالم الله الموسيقية وأنذرت بقدوم سحابة أناشيد عهر أسود ستهطل أبابيل على ملحقات البيت الأبيض حيث نماذج المدن اللئيمة التي لوثت جسد سارة النحيل الذي لا يصلح إلا للطفولة.
جسدك النحيل يا صغيرتي لا يصلح للإغراء، لا يصلح للرقص، طقطقة عظامك ستزعج راقصي الديسكو في ليالي الصخب الهادئة، هناك في غرفتي المعزولة بالفلين ستدلكين جسدي، ستجدلين شعر عانتي، وسأطعمك الهمبرغر يا دجاجتي في مطاعم القش حيث ترقد الرغبة الرخيصة.
نهداك الصغيران لا يصلحان لمسح زجاج سيارات (المارسيدس) في مغاسل (المال بورو) التابعة للمستر لوبي. هيا يا صغيرتي، هناك في صيدلية سريري، في مطابخ نومي، قرب حمام مرحاض جيراننا الجراذين الهاربين من جوعنا، هناك في الطابق الألف تحت المجارير سأمنحك حقن الهرمونات الأنثوية، هيا يا حبيبتي ستملكين بعد أيام الهذيان المنعشة أكبر نهدين في أمريكا، وستحلبين فقاعات الصابون على مرايا السيارات وتجنين آلاف الدولارات.
ولأن والد سارة مغرم بالمسلسلات البوليسية حلّق بصحن الهمبرغر الطائر في سماء الشيكولاة وهبط على مدرجات النجاسة في ولاية الجراذين حيث استقبله النمر البشري مكشراً عن أنوثة حسنائه التي تعلق بشعرها طرزاناً من ديدان حين راح يبحث عن سارة في غابات العفن والخمرة والإيدز. وبعد دقائق ضوئية حطم الأرجاس وكسر حقن الكوكائين، مسح زحار الإيدز، رمى بمرطبات الموت البطيء في سلة البوليس وأعاد الابنة الضالة لتسافر مع أسفار والدها وتكبر في مشافي الموساد المخصصة لغسيل الأدمغة وتلقيح الدماء بالسي آي أيه المضادة لل ك ج ب.. هناك التقيت بها من جديد أماه، سارة: (نرجس شارون، سوسنة الأودية).
محطة الرحيل:
سارة نرجس شارون تقرأ طالع التوراة وتتبارك بالتلمود المترجم وتدعو الله كي لا أرحل وليستجب الرب لدعائها تزوجت الرجل الثالث في الشين بيت وأنجبت منه طفلة أنابيب أسمتها دعاء.
سارة سوسنة الأودية التي اغتصبها السيد اللامخصي المطعون بشرفه، هي نفسها عارضة الأزياء الفرنسية ممرضة معسكرات صناعة الألوان المائية الخاصة بمعارض فناني الهجرة الحمراء.
وهي نفسها ريتا التي تترجم أشعار الفلسطينيين وتدرس في معهد الموساد للموسيقا التهذيبية المخصص للصم والبكم وللفلاشا المهربين من أفريقيا، وتتابع سباق الخيول في المجر، وبورصة الموز اللاتيني في اليابان، والذهب الأسود في هوليوود..و .. وتتابعني كي لا أرحل.
وريتا التي تترجم الأشعار أماه، هي نفسها روزا المغنية الإنجليزية الشهيرة زوجة الراقص الإسباني المعروف، والتي تشرف على حضانة أطفال تشيرنوبيل أثناء زيارتهم لمشافي تدريبنا على عدم الرحيل.. وروزا زوجة الراقص هي نفسها محامية الدفاع عن غابات الأرز، والمعاصرة للخرائط الجديدة والمتابعة لرحلاتنا إلى هضبة الجولان عبر شاشات التلفزة التابعة لحاملة الطائرات الأمريكية الراسية قبالة الشواطئ الليبية.
وهي نفسها سارة التي غيروا ملامحها، وأصوات أجراسها، وصارت تعمل صحفية في تونس وتواكب مسلسلات الاغتيال والأفلام المصرية عبر محطات الأواكس، وتتابعني كي لا أرحل.
هيا يا مجنون فالا اركض قبل أن تغلق بوابات الرحيل إلى الخلود..
فالا، الجيتو الجديد متحف بشري أدراجه من حطب ولهب، من فضة وصندل، من عاج وذهب، تتوزع لوحاته اللاإنسانية تبعاً للون والعرق، للجهة والاتجاه، ولما قبل الطاعون ولما بعد الوفاق.
هناك جثة سوريالية للفلاشي الصبور معلقة على حبال اللون مشمعة بملاقط الرائحة في الجهة الشرقية المقابلة لرقائق الذهب الغربية حيث لوحة الجثث الشقراء للعباقرة والمبدعين قرب لوحة المزامير الزرقاء والتلمود القرمزي للحاخام الفذ، معلقة على ذراع فلاح كسول معوله زجاجة فودكا!!
أما على الجهة العبرية أقصى الزخارف العربية فلوحة يهوه إطارها من حطب وألوانها من لهب تتأرجح بين عواصم الضيق وشواطئ الرخاء حيث المراكب الخزرية بثقوبها التي ستغرقها، لا تنز ملحاً ولا تنضح قيحاً، أشرعتها إشارات استفهام تعصف بها الريح الغربية تبعاً لتقلبات اللوبي فأما تستقيم لتصبح إشارات تعجب! أو تتكور لتصبح ثقباً لمنظار يفتش عن سفينة نوح حين تنحني كي تتلو صلاتها.. اركض يا بني لا وقت للصلاة.. ركضت أماه وعلى الجدار سبع أشجار، ستة أشباح وأنفك وتسافر رائحتك مع أسفارك.. وكنت أرسم على الجدار أنفك دون طباشير، كل الأبراج أنفك، متى ستشمين رائحة موتي فتنزلين كتبك الأرضية من رفوفك السبعة وتهجين حقك الإلهي طلقة، طلقة، في لحم أكتافي، وتنشدين دون أن تستريحي في نعشك السابع مراثي توراتك:
(.. أنا اليوم ابن مئة وعشرين سنة لا أستطيع الخروج والدخول بعد، والرب قد قال لي لا تعبر هذا الأردن..).
هيا يا بني بوابات الرحيل فتحت لك كما تفتح سماء ليلة قدر السلمين بعد صيام السنين. هناك ستصور لوحاتك.. هناك ستخلدك المعارض، هناك.. أرض ميعادك.. بلد.. أي بلد.. وأي رحيل، وأنا الذي كنت أستطيع العودة إلى طفولتي على حصان من ثلج حاولت الرحيل إلى القطب الشمالي فتجمدت أحلامي. ولأن حصان فالا من قوس قزح امتطيت ألوان الطيف لأرحل إلى خط الاستواء، فتبلورت مرآة موشورية تعكس الغابات البشرية المزروعة منذ آلاف السنين حيث الأكتاف سفوح جبال والتجاعيد أودية والمسامات خنادق، والأصابع مقاليع، والأظافر حجارة نارية.. وتعكس خطوط شارون الخضراء وأسلاكها الشائكة حدود جهنم الحمراء، وغبار حطام وحمام سلام، سماء بيضاء وشمس سوداء، مدن وقرى ووجوه كنعانية، جذوع زيتون وتجاعيد ملامح، زخارف فلسطينية مخضلة بعفن السنين وبلد أمين، وعالم يمتد إلى ما بعد لغتي، إلى ما بعد مرآتي، إلى ما بعد لوحاتي..
كسروا مرآتي أماه، خزقوا لوحاتي فالا، وصاحوا:
الأزرق لون السلام، النقطة السوداء عدسة الرب الشمسية التي تطل على حدودنا الخضراء، على امتداد حضارتنا إلى الأرض البكر.. حاصروني أماه، والأصوات تعلو وتقترب من الزعيق: من قال لك إن هناك شعباً بلا أرض وأن الصباح يروج من غير إسرائيل الكبرى؟ نحن الامتداد والامتداد نحن. هلا تباركت بأماكننا المقدسة لتعرف ما هو الفرق بين تجاعيد كنعاني وجذع زيتونة رومانية؟
يعلو الزعيق والحلقة تضيق، القبعات سوداء والذقون شعورها طويلة، طويلة وكثيفة، أماه، كثيفة ومخيفة.. لفظوني أماه إلى معابد جديدة، إلى دورات مقدسة وهياكل مستحدثة، إلى حائط المبكى حيث كان جدي يشتغل دمعة عليه. لم أجده أماه، ولم أجد جدي، لم أجد السور الغربي للمسجد الأقصى، حيث قبة الصخرة، وألف صخرة سقطت على رأسي وصراخ الأطفال هدير، وأزيز حجارة وصفير. اركض يا بني.. رجموني أماه.. رجموني أماه.. لم أكن أعلم أننا زناة، زناة شعب الله المختار أماه، أم شعب الله المرجوم؟
اركض يا بني.. ركضت إلى هذياني المحموم، إلى لعبة التكوين حيث الوطن والدين، ركضت أماه إلى أسفار التلوين حيث عنونة العنوان ودمج الألوان.. الآن فقط عرفت الآن كيف الأخضر الأساسي يغزوه الأزرق والأصفر، وشتان فالا شتان ما بين الجذع والفرع والداخل والدخيل، وما بين البقاء والرحيل والقادش والتراتيل..
يا ثلج موسكو النقي، يا دروب الليل القطنية، يا قنديل فالا الأخضر، يا شوارع الفودكا، يا أرصفة الفرح، يا لوحات الطفولة الضبابية، يا فطائر التفاح الزكية.. لم أعد أستطيع رسمكم على جدار مخيلتي! كيف سأرسمك فالا والريشة من رشاش والألوان من طلقات؟
لهفي على أطفال الانتفاضة المرسومين. لهفي على أطفال الانتفاضة الذين رسمتهم أماه.
أماه، يا سقم المناورة الميتة، يا عقم التراتيل البائدة يا مزامير رعاة الثلج، ارعي سمومك السكرية في ممراتك الوريدية ولا تنسي القلب في الأطراف والندب في لحم الأكتاف، انزحي ماء عودتك، امتحي ألوان بشرتك وتحولي إلى لوحة قطبية كي تتجمد كل ألوان أحلامي الذائبة على جدران الندم.
وعلى الجدار سبعة أطيار، ستة نوارس وغرابك، وفي المطار يهبط القطار، ست عربات وسبع محطات.
ولأني لا أستطيع العودة إلى طفولتي على دخان سيجارتي سأتقيأ سوائل الرغبة على دفاتر الحيرة الإسفنجية وأسبح في فضائي الإهليلجي بجناحي ذبابة داخل مشافي الإدمان العنكبوتية.
ولأني أكرهك أماه، وأخاف بابل الجديدة أدمنت الرحيل.