الورقة الرابعة عشرة والأخيرة.
ثلاث هويات ليست من اختياري.
كان اللجوء إلى المنافي في بلدان الغرب، ومنذ 1970، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى النتائج الكارثية للغزو الإسرائيلي للبنان، واتفاق أوسلو، يعدُ ” تساقطاً” من ميادين النضال الوطني الفلسطيني، وتنصب على الذين لجأوا إلى الغرب أقسى الأوصاف. وكنتُ واحداً من الذين يرفضون الذهاب إلى أوروبا، ويدينون ذلك.
عندما انطلقت الثورة السورية العظيمة، وبفعل السحق الدموي للناس، والإرهاب الأمني متعدد الأشكال، وتدمير المدن والمخيمات، ووضع الثورة السورية بين خيارين: الاستسلام للسلطة والإذعان لإملاءاتها، وبين الدفاع عن النفس بالسلاح، تعقدت أوضاع سوريا، خاصة بظهور القوى الظلامية الإسلامية على واجهة الأحداث، اضطر الناس للنزوح عن أماكنهم، وحتى اللجوء إلى خارج سوريا، نحو البلدان المحيطة، ونحو الدول الأوروبية وسواها.
تداخلت أسباب عدة، لتجعل استمرار بقائي في سوريا، يعرضني لأكثر من خطر. حاورت نفسي في موضوع الرحيل، في صيف العام 2015 اتخذت القرار بعدم البقاء في بلد حوّلته العصابة الحاكمة إلى جحيم ومقبرة. كنت بعيداً عن الانخراط المباشر في ثورة السوريين من أجل الحرية وإسقاط الطاغية، لكنني لم أكن بعيداً عن فعالياتها المدنية الديمقراطية. وبعض المشاركات الاجتماعية والإنسانية.
منذ خريف 2012 أصبحت بلا منزل، الحي الذي كنت أعيش فيه،” حي المهايني” على مدخل مدينة داريا من اتجاه كفرسوسة، تم احتلاله من جيش السلطة. لم يكن في الحي أي نشاط سياسي أو عسكري مناهض للسلطة. مع اشتداد الهجوم على مدينة داريا، بدأت مدفعية السلطة ودباباتها والهيلوكبتر تقصف على أطراف الحي، لبث الرعب ودفع الناس للمغادرة. بذات الفترة مُنعت من الوصول إلى منحلي في سفوح جبل الشيخ. أكيد نحلاتي” عميلات للإمبريالية والصهيونية”، وينتمون “للعصابات المسلحة”. تركتهن لأقدارهن، والأكيد أنهن فارقن الحياة بغيابي عنهن.
في الشهر العاشر من العام 2012، اضطررت لمغادرة بيتي، ولم يبق في الحي إلا ثلاث أو أربع عائلات بعد مغادرتي. قتلت منهم عصابات الأسد رجلين من عائلة” الدالاتي” مع ابن لكل منهما، ورجلين آخرين بسطاء، مالبثت أجهزة إعلام السلطة أن صورتهما، وهما مقتولين، في تقرير أعدته محطة تلفزة روسية، وادعت أنهما إرهابيان. كان خروجي من بيتي في حي المهايني ضرورياً، وهو ماتبين لي حين علمت بالجرائم التي ارتكبتها المخابرات الجوية، والفرقة الرابعة، بعدد من الأبرياء، الذين لسبب أو آخر لم يغادروا بليوتهم . كانت لحظة من أقسى اللحظات على نفسي وروحي، عندما بدأت، على عجل، ألملم بعض الحاجات، لأحملها معي إلى ملجئي الذي قصدته في مدينة صحنايا. (حملت ثيابا شتوية قليلة، وحرامين، وعشرين كيلو عسل،وبعض المواد الغذائية الجافة، ونسخة من ماتبقى من كتبي). وحملت مفاتيح بيتي وأنا أجهل هل سأعود لاستخدامها لاحقا؟ حقيقة لم أكن أعرف ماتخبئه لي أيامي القادمة، غير أن آخر ماكنت أتوقعه أن تلك اللحظة عند المغادرة ستكون آخر لحظاتي في الحي، ونهاية بيتي إلى غير رجعة، فلقد قام “رجال الأسد الأشاوس” بعد مغادرتي بفترة، بتفجيره من أساساته. وتمنيت أن يكونوا قد فجروه، وأحرقوه، دون أن يقع بين أيديهم مبلغ 7000 دولار، كنت قد سحبتهم من المصرف وأغلقت الحساب، قبل شهر تقريباً، وأكثر المبلغ من بقية تعويض المرحومة آمنة عن وظيفتها في مكتب الإحصاء التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. لم أحمل المبلغ معي خشية أن يصادروه على الحواجز، مع احتمال توجيه تهمة “دعم العصابات المسلحة”. تركت باب البيت مفتوحاً، فأنا أعلم أنهم سيحطموه ليدخلوا من أجل التفتيش والتعفيش. أرسلت نظرة غامضة لباب البيت، ليست نظرة وداع، ربما هي في عقلي الباطن كانت نظرة وداع دون أن أدري.
كان لي في صحنايا أصدقاء كثر، وبيت أخي عبدالله أبو الطيب أيضاً. من حسن حظي أن بيتاً لصديقة عراقية (خ. د) مقيمة في أميركا قدّمته لي، فأقمت به حتى أواخر آب 2015، عندما غادرت سوريا نحو أوروبا. بعد يومين من نزوحي إلى صحنايا، تداولت مع صديقي أبو عامل ( يوسف جهماني) رحمه الله، موضوع المبلغ الذي تركته، وحاجتي لألبومات الصور الخاصة، الغالية علي، التي تركتها في البيت، فاقترح أن نذهب لنأتي بالمبلغ والألبومات، فالقادم مجهول. حاولنا الدخول إلى داريا من أشرفية صحنايا فرفض حاجز مسلحي السلطة عبورنا، واستوقفونا للتحقيق عن سبب توجهنا إلى داريا، فخدعتهم بأن والدتي بقيت بداريا وأريد إحضارها لتكون معي. وحاولنا من الطريق الأساسي، دمشق- كفرسوسة- داريا، قبل مئة متر من الحاجز وجه العسكري السلاح و” خرطش”، فاستدرنا راجعين إلى صحنايا. وعلى أهمية السبعة آلاف من الدولارات، لكن أسفي الكبير، ووجعي الروحي، جاء من خسارتي لألبومات الصور الشخصية والعائلية، خاصة الصور التي تجمعني مع آمنة، منذ العرس وحتى آخر الأيام في حياتها، وعدد من الأوراق المخطوطة، ورسائل لها مكانة في روحي ونفسي ،وملفاتي على جهاز الكمبيوتر.
حين غادرت كنت مطمئناً على أولادي ( نسرين ونورس ووسام). فنسرين مقيمة في الدنمارك، ونورس وصل إلى برلين بعد رحلة شاقة تعرض خلالها لخطر التشبيح على حاجز السعن شرقي حماة، وكتبت له النجاة بعد أن” شلَحوه” ألف دولار، ولم يبق معه إلا القليل مخبأً مع زوجته. عندما وصل إلى تركيا كنت مطمئناً بنسبة كبيرة على حياته، وما تبقى كان سهلاً عليّ. بقي شهراً على الطريق الذي سلكه بالبلم إلى اليونان، ثم مشياً على الأقدام بين مقدونيا وهنغاريا ثم النمسا فألمانيا. أما وسام فلقد غادر قبل نورس بقليل، وركب البحر من تركيا إلى إيطاليا ومن هناك استطاع، عبر المهربين، الوصول إلى هولندا. وبدوري حين اخترت اللجوء إلى ألمانيا فلأنها تقع في مكان وسط بين هولندا فيها وسام، والدنمارك فيها نسرين ، ونورس في برلين.
في وقت مغادرتي كانت أجهزة السلطة، قد شددت إجراءاتها بحق الفلسطينيين، على الطريق شمالاً من دمشق إلى حلب، أو إلى اللاذقية. السخرية والمهزلة، أن تلك الإجراءات التي تمنع الفلسطيني السوري من التوجه شمالاً، كان تبريرها “تعزيز الصمود الوطني”، بإبقاء الفلسطينيين في سوريا. غير أن الحقيقة من وراء تلك الإجراءات هي تشليح الفلسطينيين، المسافرين من دمشق شمالاً، مابحوزتهم من أموال، وكل المقتنيات الأخرى، وتوقيفهم لأيام ثم إطلاق سراحهم، بعد ضربهم وتعذيبهم وإهانتهم. كان لا بد لي من تأمين طريقة مضمونة للوصول إلى حلب أولاً، وتوفر لي ذلك، بجهود صديقة لي. غادرنا سوريا معاً، ودفع كل واحد منا، وكنا أربعة، مئة ألف ليرة على الشخص للوصول إلى حلب بأمان. أخطر حاجزين على الطريق في حينه كانا، حاجز القطيفة، وحاجز السعن، والثالث إتريّا لكنه أقل خطورة. عند حاجز القطيفة تأكدت أن “المهرب” يثق بنفسه، وله سلطة واضحة على حواجز السلطة، فكانوا يؤدون له التحية.
أمضينا في حلب أربعة أيام، بضيافة صديقة (أكرر توجيه شكري وامتناني لها هنا أيضاً)، ورحنا نبحث عن مهربين مضمونين ومجربين. ساعدنا عدد من الأصدقاء، فشلنا بأول محاولة، إلى أن عثرنا على” لواء القدس الفلسطيني” المنحاز إلى السلطة القاتلة. طلب “مقاتلو” لواء القدس “الأشاوس” مائتا ألف ليرة على الشخص لينقلونا إلى الأراضي التركية (حرَك يومها لواء القدس أربعة باصات من مخيم النيرب، بحمولة 160 راكباً، أي جمعوا مبلغ 32 مليون ليرة) بيوم واحد (وحصل أن حاولت امرأة مساومتهم على السعر المرتفع للرحلة، فأجابها “جابي الأموال”: والله ياخالتي مابتوفي!) لنكتشف أن نقطة انتهاء الرحلة في الباص هي مدينة الباب، بتنا ليلتنا في العراء. هناك جاء المهربون القادرون على نقلنا إلى عفرين، وإلى أقرب نقطة على حدود تركيا، وطلبوا خمسة وعشرين ألفاً على الشخص الواحد.
بين حلب والحدود التركية أوقفتنا ثلاثة حواجز، من انتماءات مختلفة، أولها كان حاجز لجيش السلطة، حاجز إتريّا في المحاولة الأولى، وأعادونا إلى حلب، بحجة “خوفهم علينا”، واكتشفنا لاحقا أنهم يطمعون بالمال سرقةً أو ابتزازاً. قال لنا العقيد، مسؤول الأمن على الحواجز في المنطقة، أنه سيستضيفنا للفجر في استراحة تابعة له، رفضت تلك الفكرة وتوقعت أن سوءاً سيلحق بنا إن بتنا في “مضافتهم” والصديقة “أم . ه” من شدة تعبها رغبت بالمبيت في المضافة فرفضت بحزم، وقبلتْ هي على مضض. وعدنا إلى حلب، لنرتب طريق العبور إلى تركيا.
في مدينة الباب التقينا بعائلات كانت معنا في المحاولة الأولى، من الذين قرروا المبيت “باستراحة الكولونيل”، فأخبرت إحدى النساء صديقتي التي “امتعضت” من العودة إلى حلب و لم يعجبها رفضي المبيت في استراحة إتريّا، أنهم شلحوها خمسين ألف ليرة سوريا، وشلحوا سواها أيضا. في الحقيقة لم يكن رفضي للبقاء في إتريّا عند “استراحة العقيد” خوفاً من التشليح فقط، فلم أكن أستبعد قيامهم بإلحاق أذى أشد بنا.
بين إتريا ومدينة الباب، بعد سفر شاق في الأرض الصخرية الجرداء، أطلقت عليها يومها “تورا بورا”، وصلنا عند حاجز لداعش في مفرق طرق ترابية يوصل إلى الرقة. لم أكن أخشاهم، إنما كنت أقرف من وجوههم وتصرفاتهم. أوقفونا ساعتين عند مركز الحاجز، واحتجزوا بطاقات الهوية والموبايلات. فتشوا على اللباس الشرعي للنساء، وأكثرهن ارتدينه خوفا من داعش. أحدهم ألقى خطبة بلهجة، قدّرتها أنها لهجة ليبية، وألقى اللوم علينا لأننا فلسطينيون ونؤيد بشار الأسد، ونساؤنا يخرجن سافرات في دمشق والمدن الأخرى. عندما استدعاني قائدهم للتحقيق، كان يطالب من شاب صغير أن يشرح له عن الوضوء، ولم يكن الشاب يعرف الإجابة، فطلب مني أن أشرح للشاب كيفية الوضوء، بلهجته التونسية، قائلاً: “فهمه ياحاج”، تجاهلت طلبه وبقيت صامتا، فسألني “تشرب عرق”؟ سألته الآن أم في الماضي؟ قال : يعني.. أجبته نعم. نظر إلي شذراً، ولم يعلق، ربما قرأ تاريخ ميلادي على بطاقة الهوية فشفع لي كبر سني.
الحاجز من النوع الثالث الذي عبرنا عنه كان لما يسمى “وحدات حماية الشعب الكردي” في منطقة عفرين. كان واضحاً تنظيمهم الدقيق، ولباسهم الموحد، وشعاراتهم. أخذوا من كل عابر خمس دولارات، وفيَشوا بطاقات هوياتنا، وسمحوا لنا بالعبور، وهم يعلمون وجهتنا للهروب نحو تركيا.
على سفوح ومنحدرات مزروعة بالزيتون ألقت بنا وسائل النقل، ورحنا ننتظر العبور إلى تركيا. قبالتنا كانت محارس الجندرمة التركية. أول تجربة للعبور، كما قررها “شيخ المهربين” كانت لمجموعة من الشباب الصغار. دقائق وشاهدنا الجندرمة تضربهم بالعصي وتعيدهم إلى حيث أتوا. وهكذا بعد أكثر من محاولة فاشلة، وبحلول الظلام، اقترب منا شاب من أبناء المنطقة الكرد، وعرض علينا خطته لخداع الجندرمة، مقابل خمسة آلاف على الشخص، وافقنا بعد تقليب الأمر. كانت خطته أن نتسلل لأسفل المحرس، محاذاة الجدار، من هناك لا يرانا الجنود الأتراك، امتثلنا للخطة. اقترحت عبور ثلاث صديقات وصديق قبلي، ثم أعبر بعدهم. عبروا قبلي وبعد خمس دقائق عبرت بتوجيه من المهرب، واجتزت السياج الشائك، وركضت لألحق بالأصدقاء، لكنني لم أشاهدهم أمامي، فاستلقيت على ظهري وعيني تجوبان السماء، أفكر ما الذي جرى لهم ،لأعرف لاحقاً أن الجندرمة أوقفتهم وأعادتهم إلى نقطة انطلاقهم. لقد تشتتنا في هذه المرحلة. أنا عبرت، ووصلت إلى غازي عنتاب، وثم وصلت صديقة وابنتها، أما الصديقة (أم ه) ومعها صديق آخر، جعلهم الإرهاق والخوف يقرران العودة، والتخلي حينها مؤقتا عن فكرة العبور. أمضيت ليلة في غازي عنتاب بضيافة الصديق أيمن أبو هاشم، وحينها اقترح علي الانتظار في تركيا، لمدة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر، على أمل ترتيب دعوة من إحدى الهيئات المدنية الأوروبية، للمشاركة بندوة أو اجتماع في برلين أو باريس، وأقدم اللجوء بعدها. شكرته وقررت المتابعة إلى ألمانيا كبقية اللاجئين. في اليوم التالي، توجهنا إلى إزمير و منها إلى ” بصمنة” مركز التهريب عبر البحر إلى اليونان.
أول محاولة لركوب البحر كانت فاشلة، حيث اعترضتنا عصابة تهريب وتشليح، قبل وصولنا إلى نقطة انطلاق البلم. عدنا إلى الفندق، وللأمانة فإن الشاب الذي يعمل بالتهريب (عراقي اسمه خالد) حين عرف ماحصل معنا سألنا إن كنا نريد استعادة المبالغ التي دفعناها له، أو ننتظر يومين لرحلة مضمونة. كانت صدمتنا من فشل المحاولة عن طريقه لها تأثير على نفوسنا، فأبلغناه أننا سنبحث عن طريق غيره للوصول إلى اليونان، فأعاد لنا ما دفعناه، وتكفل بدفع أجرة تلك الليلة بالفندق باعتباره المسؤول عن تأخرنا.
في المحاولة الثانية، انطلق “البلم” في التاسعة أو العاشرة مساءً، لكن المهربين لحقوا بنا، بمركبهم السريع، وطلبوا منا التوقف على طرف الماء عند أجمة من القصب الطويل والكثيف. في الثانية عشرة أمرونا بالتحرك، وأشاروا للشابين اللذين كلفا بالتناوب على قيادة البلم إلى نقطة ضوء بعيدة على أن لا يحيدان عن اتجاهها. كنَا محظوظين، فعددنا في البلم لم يتجاوز الثلاثين لاجئ، بينما في أحوال أخرى يصل العدد إلى الخمسين، فيكون ركاب البلم أكثر عرضة للخطر والأذى. استغرق إبحارنا ساعتين تقريباً، ونظراتنا مشجوبة على نقطة الضوء البعيدة التي وجهنا المهربون نحوها. كانت ليلة صافية، وأمواج البحر ليست عالية، وحمولة المركب لونها واحد “برتقالي” هو لون ستر النجاة. قبل نقطة الضوء المنشودة بمئات الأمتار، تبعنا مركب لدورية يونانية، وراح يرسل أضواءه باتجاه اليابسة، ظن سائق المركب أنهم يريدون إلقاء القبض علينا، فاستمر بتوجيه المركب إلى غير وجهة، واستمر المركب اليوناني تسليط الضوء إلى جهة مختلفة، تأكدت أنهم يرشدوننا إلى الوجهة الصحيحة، غير أن “قبطان البلم” لم يقتنع وصعًد سرعته، ليصدم البلم المطاطي بصخور تتصل بالماء، ثم تصعد إلى فوق، اعتقدنا أننا وصلنا الجزيرة المنشودة. قفزنا إلى الماء، والبلم تعطل محركه من صدمه بالصخور، وتنفسنا الصعداء لاعتقادنا أن ماظهر أمام ناظرينا هو البر اليوناني. تسلقنا على سفح ذلك “البر”، وبدا لون الفضاء برتقالياً، فالأجساد كلها ترتدي ستر النجاة.
مشيت صعودا لأستطلع المكان، مع عدد من اللاجئين، فبدأ مع الفجر، يتضح المكان، كقطعة محاطة بالمياه من الجهات كافة وبدت الجزيرة التي كنا نقصدها، تلك التي وجه المركب اليوناني أضواءه الساطعة إليها، بعيدة عن مكاننا. كان فجرا بارداً، والقطعة المعزولة بماء البحر من الجهات كافة، لا أثر فيها لحياة بشرية، فقط عثرنا على “بعر أرانب”. أنقذتنا ستر الإنقاذ التي أضاءت بنيرانها قطعة اليابسة المطوقة بالماء المالح، تدفأ اللاجئون بنارها قصيرة العمر،ولكننا نحتاج أيضاً ماء للشرب فمؤونتنا نفذت. اتصل شباب يعرفون استخدام تطبيق (GPS) على الموبايلات بالصليب الأحمر وخفر السواحل، وحضرت بالفعل طائرتان حومتا فوقنا على ارتفاع منخفض، وغابتا عن الفضاء.
دقائق وتحركت مراكب صيادين نحونا من الجزيرة المأهولة وحملتنا على دفعات نحو الجزيرة الحقيقية “جزيرة الحياة”. زودنا الصيادون بالمياه العذبة وأرشدونا إلى الطريق نحو مركز الجزيرة. مشينا على الأقدام، وحملت بعضنا وسائل نقل للفلاحين اليونانيين إلى الميناء الذي سننطلق منه إلى جزيرة ساموس.
ألذ مذاق لثمار التين تمتعت به يومذاك. فلاح يحمل سلتين مليئتين بالتين المتنوع، قدم لنا واحدة، وأشار لنا إلى كرم التين القريب، فهمنا أنه يدعونا لنأكل الكمية التي نريد. كانت نظرات الفلاحين والصيادين اليونانيين إلينا طافحة بالتضامن والحب، ممزوجان مع الحزن علينا، فهم يعرفون ما يجري في سوريا.
شرطي يوناني واحد في تلك الجزيرة، ولم يكن موجوداً في مكتب البوليس. حضر وبدأ إجراء معاملات التسجيل وتسليم كل لاجئ ورقة تعريف “خارطية”.
هناك تزودنا بالسندويشات والعصائر والبسكويتات بانتظار باخرة تنقلنا إلى” ساموس” إحدى أكبر الجزر اليونانية. وقد وصلنا إليها ليلاً. وبقينا هناك، مدة ليلتان قبل أن نمضي في طريقنا إلى أثينا. كنت مسحوراً بأثينا، من قراءاتي لأساطير الإغريق، غير أنني عبرت منها دون أن أراها، كان هاجس السرعة في الوصول إلى ألمانيا هو المسيطر. وخلال يومين، تقريباً، اجتزنا مقدونيا ثم صربيا ثم هنغاريا، وأخيراً، النمسا إلى ألمانيا. تارة نركب تكسي أو الباص، وتارة إخرى القطار، وأحياناً مشياً على الأقدام. كنت وأنا أمشي أنظر خلفي وأمامي حيث مئات الاجئين، عائلات وأطفال وكبار في السن، يحملون حقائبهم ويجرجرون أجسادهم بمواظبة رغم التعب. في تلك اللحظات أستعدت من ذاكرتي رائعة حاتم علي “التغريبة الفلسطينية”، ورواية أمي عن “هجيجها في العام 1948” ورحت أحاور نفسي كيف ستقارن الأجيال القادمة بين التغريبتين: “الفلسطينية والسورية”، سيفتخر الطفل الفلسطيني أن تغريبة أجداده ” أحلى”، فيعترض السوري ليرفع من شأن تغريبة آبائه في مناكفة للفلسطيني.
أربعة أيام استغرقت رحلة هروبنا من تركيا إلى ألمانيا. وسأبالغ قليلاً بالقول أنني لم أعرف النوم خلالها، إلا ماندر، وعلى مقعد الباص أو في القطار، مع ذلك لم أشعر بالتعب أو الإرهاق. على مايبدو أن الإنسان في الصعاب تظهر طاقته القصوى، بما يفوق عشرات المرات عن الأيام العادية.
كنت أتوقع، حين انطلقت من تركيا إلى اليونان، أنه سيلزمني مبالغ مالية كثيرة للمهربين حتى أصل إلى ألمانيا. احتطت بالاتصال بأصدقاء ليرسلوا لي حاجتي وقت الاضطرار. لحسن حظي أن الفترة منذ أول أيلول 2015 وحتى أشهر لاحقة كانت الحدود من مقدونيا وحتى أوروبا ميسرة جدا، فما اعتمدت على المهربين، والذي ساعد على ذلك هو المشي الجماعي 100 إلى 150 شخص.
محطتي الأولى، في ألمانيا، كانت ميونيخ، ومنها نقلتنا باصات معدَة مسبقاً إلى مخيم صغير بتنا فيه ليلة واحدة، ثم إلى كامب كبير في مدينة “برونشفايغ”، ومنه إلى كمب “أوربكي” في قرية “فالينغ بوستيل”، كان، بفترة سابقة، مقراً لقيادة قوات الحلف الأطلسي في ألمانيا، ومنه إلى هايم في بلدة “إشرز هاوزن”. أخيراً، وبعد “المحكمة” وتحصيل الإقامة حصلت على بيت في بلدة ” شتادت أولدن دورف”، التي مكثت فيها أكثر من ثلاث سنوات، لا يمكن أن أنساهم، رغم صغر البلدة، إلا أنَ سكانها وموظفي البلدية والأطباء وعاملي السوبر ماركت ومعلمات مدرسة اللغة، وقليل جدا من اللاجئين ( عرب وكرد وإيزيديين)، كانت العلاقة معهم مريحة بما يخفف عن النفس تأثيرات الغربة.
حين يصل اللاجئون إلى الكمبات، ويبدأون بالبحث عن تحسين ظروفهم ،والإسراع بالحصول على الإقامة والسكن، تنحسر تلك الألفة بينهم التي ظهرت واضحة خلال الرحيل. وبدا لي أن الهاربين إلى ملاجئ آمنة، وقبل وصولهم، تجمعهم هموم واحدة تقرب بينهم، يتعاونون مع بعضهم البعض، فتذكرت الشبه بينهم وبين السجناء الذين على اختلاف قضاياهم ومعتقداتهم تجمعهم الحاجة إلى الحرية، وهكذا اللاجئون قبل الوصول إلى بر الأمان. تداعت الأفكار في ذهني عندما صرت في ألمانيا، فتذكرت حوار الشخصيات في رواية السفينة لجبرا إبراهيم جبرا. أحد تلك الشخصيات يفصح عن حقيقة يعتقدها مؤداها: “أن المثقفين العرب والنخب الثقافية تهاجم الغرب كمصدر لبلاوي ومصائب بلادنا، لكنهم لا يجدون مكاناً ليعبروا فيه عن آرائهم في الحرية والديمقراطية، سوى في دول العالم الغربي”. لكن هجرتي، والغالبية العظمى من سوريا، كانت للحفاظ على الحياة، بمعناها الأولي البسيط. لم تقتصر الحاجة للجوء إلى الغرب على تحصيل حرية التعبير وإبداء الرأي.
لم أشعر بالاطمئنان والأمان، طوال حياتي كما شعرت بهما في إقامتي بألمانيا، زد عليهما الإحساس بالعدالة والمساواة. من لحظة وصولي أحلت إلى صندوق المساعدة الاجتماعية للمتقاعدين، كان عمري أكثر من 66 سنة. ولم يلزموني بكورس الاندماج، أنا طالبت به، وبعد أكثر من محاولة وافقت مديرة تعليم اللاجئين في المنطقة على السماح لي بكورس لغة، أنجزت منه مرحلتين، وانتقلت إلى برلين، وهاجمتنا “كورونا”. والآن انتظر بفارغ الصبر العودة لمتابعة دراسة اللغة. أعتقد أن ماتبقى من عمري سأمضيه في ألمانيا، ولا بد من تعلم اللغة بالمستوى المناسب للحياة في البلد. أما إن أتاحت الظروف السياسية في سوريا فرصة للعودة إلى دمشق وداريا ومخيم اليرموك، فهو شأن يدرس في حينه. مؤكد أنني أتمنى حصول ذلك حتى لو بقيت سنواتي التي سأعيشها ” مواطناً ألمانياً”. وأصير: ” فلسطيني سوري ألماني، ثلاث هويات”!