الورقة التاسعة
كتب الأرصفة ودروب السينما ومحاكاة الممثلين والممثلات.
دخلت عالم الكتاب غير المدرسي في الصف الخامس الابتدائي. أول كتاب استعرته من مكتبة المدرسة كان عن رحلات السندباد، وبعده كتابين لمصطفى لطفي المنفلوطي، عبارة عن مقتطفات من” العبرات والنظرات”. أما مجدولين، فلم يكن موجودا للإعارة، لعل السبب أنه كتاب يحكي قصة حب رومنسية تنتهي بموت العاشقين، ولست متأكدا إن كنت قرأت كتاب” الأجنحة المتكسرة” لجبران من بين كتب المكتبة المدرسية، أو من كتب ” بسطات الشارع”.
لقد كانت أرصفة الطريق الممتد من ساحة الحجاز في دمشق وحتى بوابة الصالحية، وصولا إلى البرلمان وشارع العابد، وفي الشوارع الفرعية، في تلك المنطقة، ومن ساحة الحجاز حتى مدخل سوق الحميدية، مكاناً تنتشر على أطرافه و زواياه بسطات للكتب القديمة، وبأسعار رخيصة. كان لا بد أن تلفت انتباهنا حيث طريقنا إلى دور السينما الجيدة(سينما دمشق والأهرام وبلقيس”الكندي حالياً” ودنيا والفردوس والأمير)، قبل دور سينما العباسية والزهراء والحمراء والسفراء.
تأثرت جداً بكتاب يحكي قصة طفلة” بائعة الكبريت”، وكانت الكتب على البسطات في الشوارع، عبارة عن ملخصات موجزة، فالناشر كان يتحكم بحجم الكتيب، ولم نكن نعلم أن بعض تلك الكتب لها “أمهات” موسعة جدا، مع ذلك كنا نجد فيها مصدرا للمعرفة المتوفرة. وحول قصة بائعة الكبريت، التي هي رواية أجنبية مترجمة عن الدانمركية، اختلفت علي حين شاهدتها على شاشة السينما، ونهايتها المأساوية في الكتيِب، لم تكن هي ذاتها على شاشة السينما.
مصدرنا المجاني الثاني للكتاب، بعد المدرسة، كان الاستعارة من نادي ” رواد الفكر” في كفرسوسة. الإدارة في النادي كانت من أبناء البلدة المتعلمين، وكم كانوا ودودين وأخلاقهم رفيعة. ورغم فقر رفوف المكتبة بالمؤلفات الكبرى، لكن بعض موجوداتها كانت تجذبنا، مثل ( شجرة الدر، وصلاح الدين الأيوبي، ومؤلفات جرجي زيدان عن روايات تاريخ الإسلام، وماريا القبطية آخر زوجات النبي محمد…). نشاط آخر لنادي رواد الفكر قام على دعوة شعراء وكتاب لعقد أمسيات، كنت أحضر بعضها. ولا زلت أذكر بيتان من قصيدة ألقاها الشاعر سعد صائب، قال فيهما:
تلد الماسة فحمة،
تلد الفحمة كاسة،
نسج الكرسي بالخزِ لتهواه الرئاسة….
حصل ذلك في العام 1962. لماذا سكن هذان البيتان عقلي ولم يفارقا ذاكرتي؟ لا أعلم.
مع الأسف في حملة سلطة البعث لمصادرة الحياة باسم “التأميم” الاشتراكي في منتصف الستينيات تم إغلاق النادي، فالثقافة صارت مؤممة مثل معامل النسيج وشركة”الكونسروة” وسواهم من المصانع والمعامل.
شوقنا للمتعة، جعل السينما ملاذنا وليس الكتاب الذي بقي ثانويا. أصبح ارتيادنا لدور السينما ” الراقية” يملأ جزءا من شغف المراهقة لاكتشاف العالم. عالم المغامرات والحب والبطولة وأسرار الحياة.
دور السينما في دمشق كان لها اختصاصاتها في عرض الأفلام. فالفيلم العربي كان من اختصاص سينما دمشق وسينما الأهرام. أما الأفلام الأوروبية والأميركية فتوزعت على دور سينما ( بلقيس والفردوس والدنيا والأمير، قبل افتتاح الزهراء والحمراء والسفراء). أما سينما الشرق، في أول شارع رامي، فكانت متوسطة المستوى، لا هي هابطة ولا هي راقية، وتعرض الفيلم العربي والهندي والأوروبي أيضاً.
إعجابنا بالممثلات والممثلين، حبنا لهم، كان هو المحفز لمشاهدة هذا الفيلم وتفضيله عن آخر، إلا ماندر، كفيلم بين القصرين الذي أدى دور البطولة فيه الممثل الفاتر” يحيى شاهين”، وكم هو مختلف عن الرائع محمود مرسي، الذي أعاد لعب دور أحمد عبد الجواد في مسلسل تلفزيوني بعد فيلم يحيى شاهين بوقت طويل.
من الممثلات والممثلين العرب، كانت الكفة راجحة عندي للأفلام التي تظهر فيها فاتن حمامة وهند رستم وسامية جمال ومريم فخر الدين ولبنى عبد العزيز وزبيدة ثروت، ومع ظهور نادية لطفي ثم سعاد حسني، صار لهما الأولوية. ولا أنسى الممثلة العظيمة أمينة رزق سيدة دور الأم في السينما. ومن الرجال، كان المفضلون لدي، عمر الشريف وأحمد رمزي و رشدي أباظة، إضافة إلى محمود المليجي وفريد شوقي وتوفيق الدقن وعماد حمدي. ولولا أن شكري سرحان قام بتمثيل شخصية” سعيد مهران” في فيلم اللص والكلاب، لبقي غريبا عن إعجابي به كممثل.
في السينما الأجنبية، الأميركية والأوروبية، كان يستهويني من الممثلات صوفيا لورين وجين مانسفيلد وميلين ديمنجو وجينا لولو بريجيدا وكلوديا كاردينالي، وعندما ظهرت بريجيت باردو احتلت مكانا مميزا، وذلك على الأغلب لأنها جميلة ومغرية ومثيرة، فالميول الجنسية الجسدية كان لها دور حاسم في ذوقي السينمائي في تلك الفترة، فترة المراهقة.
لم تكن ملكة الإغراء العالمية، المغنية والراقصة والممثلة، مارلين مونرو، ذائعة الصيت في حينه، تروق لي كثيراً، كانت هند رستم لها الأفضلية عندي. ومن الرجال، في السينما العالمية، كنت أفضِل روبيرت ميتشوم وكلارك جيبل وبرت لانكستر وايدي مورفي وكيرك دوغلاس وجون واين ومارلون براندو وروك هيدسون قبل أن أتعرف على أنتوني كوين . وكانت أفلام شارلي شابلن تحتل الاهتمام الأول عندي، وبعده لويس دي فونيس ولوريل وهاردي، فالكوميديا الراقية كانت تجذبني وأتعلم منها الكثير، خاصة أفلام شارلي شابلن.
كانت أفلام طرزان لاتفارق دور السينما، ينتهي عرض الفيلم في هذه الداار، لينتقل إلى أخرى، وكانت مغرية وجذابة. الأكثر قربا من ذائقتي كانت أفلام روبن هود، أما السوبرمان فلم تجذبني على أهمية مافيها من خيال وتقنيات تثير الدهشة للوهلة الأولى. لقد جذبني سبارتاكوس، ذلك الفيلم الذي أداه أكثر من ممثل، لكنني فضلت تمثيل برت لانكستر لدور سبارتاكوس.
ذلك كله في زمن الأسود والأبيض، ولأن الفيلم الملون في السينما العالمية سبق السينما العربية، فكان هذا عاملا إضافيا لتفضيل السينما العالمية.
وكنت ألاحظ أن البنات من جيلنا كنَ يفضلن أفلام المغني العالمي الشهير، في الستينيات، الفيس برسلي، والممثل لأدوار الحب والتفوق والدهاء والبوليسية، آلان ديلون، لأنه رجل وسيم جداً. لكن أبطالهن على الشاشة العربية كانوا أكثر يسرا، لأن سينما دمشق والأهرام كانتا تخصصان حفلات أيام السبت صباحا للنساء. واحتل عبد الحليم حافظ، المكانة الأولى عندهن، إلى جانب عمر الشريف وأحمد رمزي ورشدي أباظة.
السينما العالمية سبقت كثيرا السينما العربية في انتاج الأفلام الملونة، ولم تكن تفرق معنا كثيرا هذه المسألة. وكانت الدعاية للأفلام تتضمن الإشارة إلى أن الفيلم” سكوب وبالألوان”، لتجذب الزبائن. وكان ما يشدني هو اسم الممثلين ولو كان الفيلم بالأبيض والأسود. وتبعتها السينما العربية في انتاج الألوان على الشاشة في بعض الأفلام، لكن إعادة طباعة الفيلم الأسود والأبيض، بإدخال النسخة الملونة كانت الخطوة الأولى في السينما العربية نحو صناعة السينما الحديثة، قبل أن تكون الألوان أساسية في كميرات التصوير والطباعة.
في عصر دخول التلفزيون” الشاشة الصغيرة” إلى سوريا، مطلع الستينيات، كان بالأبيض والأسود أيضا. (وأتذكر كم كان غريباً علينا، وأنا في الصف الثالث الإبتدائي، عندما مرر لنا الأستاذ فكرة وجود جهاز نسمع فيه الأصوات ونرى صور المتحدثين أو المغنين).
مدة البث أول مادخل التلفزيون إلى سوريا، كانت قصيرة جدا، بين السادسة أو السابعة مساء والحادية عشرة، وبرامجه كانت فقيرة، ولم تكن البرامج تعرض الأفلام السينمائية على شاشة التلفزيون. زد على ذلك أن نسبة قليلة من الناس كانت تقتنيه في المنازل بوقت مبكر، وحين ظهر جهاز التلفزيون كنا بالكاد قد اقتنينا جهاز الراديو في المنزل (1960) لذلك كانت أكثر المقاهي هي المكان الذي يذهب اليه الرجال لمشاهدة البرامج على شاشته. حتى أن الأطفال الصغار كانوا يرتادون المقاهي في فترة بث التمثيليات المحلية، ويدفعون لصاحب المقهى عشرة قروش، ويصير المقهى مثل” حمام مقطوعة ميته”. لم يكن صاحب المقهى يتركهم جالسين عندما تنتهي حلقة المسلسل الكوميدي غالبا، فيصرخ بهم” يلا خلصوا الفرنكين”.
كان للسينما العربية، المصرية تحديدا، دور في توجيه اهتمامنا ببعض كتب الروايات، فدرجت العادة في الدعاية للفليم الإشارة إلى مصدر قصة الفيلم. وكان الأبرز تلك الأفلام المأخوذة عن قصص إحسان عبد القدوس ورواياته مثل( في بيتنا رجل، النظارة السوداء، أنا حرة، أبي فوق الشجرة، الطريق المسدود…الخ). وتميزت أفلامه بالجرأة في تناول القضايا الاجتماعية والإنسانية.( الحب والخيانة الزوجية والعلاقة العاطفية الجنسية قبل الزواج أو بدونه والحمل غير الشرعي ومشكلة اللقطاء). ثم جاء زمن الاهتمام بتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ بتأثير السينما المصرية في الستينيات.
درجت العادة، في تلك المرحلة، محاكاة الشباب والصبايا للممثلين والممثلات، في تسريحة الشعر أو قصته، وفي ارتداء الملابس التي تشبه ملابس الممثلين. لقد استطاع الحلاقون تقليد تسريحة عبد الحليم حافظ للشباب أو قصة شعر الفيس بريسلي، ومثلهم الخياطون، حين درجت قبة القميص الكبيرة جدا والمسترسلة فوق الصدر، قبل أن تجتاح قمصان الفيس بريسلي أجساد الشباب، وكان قميصه دون قبة كاملة. وبتأثير من أفلام الكاوبوي الأميركية درج بنطال الكاوبوي التقليدي المستورد من الخارج، والحزام الجلدي العريض على الوسط وتراجع ” الشيال” الذي يشد البنطال للأعلى ويلتف على الكتفين لينزل من الخلف على الظهر، تشده أزرار داخلية على” كمر البنطال” من الأمام والخلف. لقد انتشر أيضا في تلك المرحلة( الستينيات ) تقليد الكاوبوي . وثمة عدد قليل من الشباب، بتأثر شديد بالممثل الهندي المشهور” شامي كابور”، راحوا يحاكون طاقيته الهندية الباكستانية التي تشبه القارب الصغير والمصنوعة من صوف أسود غالباً.
شخصيا، لم أقلد الممثلين في اللباس، ولا في تسريحة الشعر أو قصته، فقط راق لي البنطال الكاوبوي، فاشتريت واحدا،( وعلي الإشارة هنا إلى مقاومة وممانعة لبس الكاوبوي عند المناضلين والأحزاب المناضلة في تلك الفترة الربع الأول من الستينيات)، وبعده صارت محلات البالة المستوردة أفضل مكان لي لاختيار الملابس، ولازمتني تلك العادة في السنوات اللاحقة، وحتى الآن أفضل بالات الثياب وفاءً لنشأتي.
تقليد آخر للممثلين الأميركيين جذب الفتيان، وأسرع ربما في دخولهم إلى عالم السجائر، فتلك الحركة، التي كان الممثلون يقومون بها عندما يريدون إشعال عود الثقاب، كانت غريبة ومدهشة. كانوا يمررون عود الثقاب بحركة سريعة على كعب الحذاء الجلدي، أو على جلد الحزام العريض، فيشتعل العود ومنه يشعلون سجائرهم، فصارت فكرة طلي كعب الحذاء أو الحزام بطعم كبريتي، وبعد جفافه يصير صالحا لمرور عود الكبريت عليه بحركة سريعة ليشتعل، وكانت تجربة فيها دهشة ممتعة، وإحساس بالإبتكار، وإقبال على التدخين بوقت مبكر.
فرصة الفتيات لمحاكاة أزياءالممثلات، الأجنبيات خاصة، كانت أقل. لم يكنَ يجرؤن على ارتداء القميص الذي يشبه ،بصدره المفتوح والمحمول من الأسفل بقوس معدني، قميص صوفيا لورين أو جينا لولو بريجيدا وسواهما. كان المتاح لهن تقليد الممثلات العربيات في أدوار الطالبات، بارتدائهن القميص الأبيض والتنورة الكحلية، وبطريقة تقافزهن في المشي ، واحتضان كتبهم ودفاترهن المدرسية وضمها على صدورهن، لتقليد ممثلات السينما العربيات ،وبعضهن وجد طريقة لربط شعر رؤوسهن كذنب الفرس، أو لقص الشعر ” جرسون”، تشبهاً بشادية في أحد أفلامها. في تلك المرحلة لم يكن غطاء الرأس للشابات منتشرا، وإن استخدمنه فلم يكن يغطي كامل الشعر، تبقى الغرة المسترخية على الجبين طليقة، وكذلك عادة نزع ” الإيشارب” عن الرأس وهن بعيدات عن أحيائهن السكنية.
مواعيد العروض السينمائية يوميا كانت أربعة. وأحياناً تضيف إدارة السينما عرضاً خامسا( بين 12 ونصف وحتى الثالثة) فيصبح الوقت متاحاً لدخول الطلاب والطالبات بعد انتهاء دوامهم المدرسي، لكن الهروب من الدوام لحضور حفلة الساعة العاشرة والنصف كان أمرا عادياً، خاصة للذكور. وفي زمن لاحق، حين صرنا أكثر حرية في الغياب عن البيت حتى وقت متأخر، كنَا نتجرأ على حضور العروض المسائية، وبقي علينا أن نتجرأ على أخر عرض ( من الثامنة والنصف أو التاسعة حتى منتصف الليل)، وذلك كان أول التمرد على تقاليد عائلاتنا، فالتأخر عن الحضور إلى البيت حتى الثانية عشرة، كان يشغل بال أهلنا ويقلقهم جداً.
لقد حفزنا على اقتحام العروض المتأخرة، رغبتنا في اكتشاف الملاهي، فهي تفتح أبوابها بوقت متأخر، يتزامن مع انتهاء الحفل السينمائي الأخير، في الثانية عشرة أو أقل قليلاً.
في طريقنا إلى دور السينما، كنا نمر بجانب ” ملهى الكروان” مقابل بناء البريد المركزي حالياً. أحيانا نتوقف لننظر إلى الصور المعروضة في فاترين زجاجي على المدخل، ونتجرأ على الصعود ثلاث درجات أعلى من الرصيف، لنرى بدقة تفاصيل كل صورة، وأكثرها فرق أجنبية راقصة. أما داخل الملهى فلم نكن نعرف شيئا، فهو مغلق عندما نعبر أمامه، وبعد أن تمردنا على نظام العودة المبكرة الى بيوتنا ( قبل العاشرة ليلا)، بالذهاب إلى السينما بعرض الساعة التاسعة مساءً، فتكون نهاية الفيلم بوقت فتح الملهى أبوابه للزبائن، فنغادر صالة السينما متلهفين لاكتشاف ” ماهو الملهى”، نريد معرفة مايجري في الداخل.
ليلاً وقت عودتنا متأخرين، عثرنا على اثنين من الملاهي، فأصوات الموسيقا الصاخبة، لفتتنا إلى ملهى على زاوية شارع الفردوس في الطابق الثاني من البناء مقابل بناء محافظة دمشق، واسمه على ما أذكر” يلدز دار”، والثاني اسمه ” الأوبيرج” ، ليس بعيدا عن يلدزدار.
الكروان كان على الشارع العام وفي الطابق الأرضي، فقررنا التعرف على مايجري في داخله. لا نستطيع الدخول بشكل نظامي فالثمن أكثر من خمس ليرات، رسماً للدخول فقط ،وتبين لنا أيضاً أننا بعمر لايحق لنا دخول الملاهي. وعرفنا ان قاعة الجلوس ومنصة الرقص والغناء يمكن ان نراهما إذا استطعنا اجتياز مترين عن الباب الخارجي، فرحنا ” نتحبرم” قرب الباب نراقب الموظف الواقف على المدخل، ننتظر انشغاله فندفع الباب الخارجي بسرعة وندخل فيصبح المسرح والقاعة تحت أنظارنا، لدقيقة تقريبا ننجح في قطف نظرات سريعة قبل أن يأتي الموظف ليطردنا إلى الخارج. هكذا يمكن أن أصف هذه المرحلة من حياتي بمرحلة”الفرجة” من أجل المتعة، متعة الاكتشاف. وستمضي السنون، دون أن أسلك درب الملاهي الليلية، فقط لمرتين لبيت دعوتين من صديقين لمشاهدة برنامجي رقص وغناء ، أحدهما إسباني، والثاني يوناني.
لم يتوقف اهتمام الشباب والصبايا بالممثلات والممثلين المفضلين لديهم على إقبالهم لحضور الأفلام التي يمثلون بها، ولا على تقليد ألبستهم، وحركاتهم وتسريحات شعورهن وشعورهم. إقتناء الصور لبطلات وأبطال السينما، كان هو أيضا هواية للشباب والفتيات. اكتشفت هذه الحقيقة من شغلي في بيع بطاقات التهنئة بالأعياد والمناسبات، فعلى جدار مقهى الحجاز كنا نعلق ألواحا من الكرتون المؤطر بالخشب، نثبت عليها الصور المتنوعة،( أماكن تاريخية ومناظر طبيعية ولوحات جميلة للورود والأزهار ومعهم صور للممثلين العرب والأجانب). أكثرما استهوى الشباب من صور الممثلات ( صوفيا لورين وجينا لولو بريجيدا وسعاد حسني ونادية لطفي ولبنى عبد العزيز، لكن بريجيت باردو اجتاحت فضاءات رغبات الشباب حين ظهرت على شاشات السينما)، ونادرا ما اهتم الشباب بصور الممثلين الرجال. البنات كانت ميولهن لاقتناء صور الممثلين، وفي مقدمتهم الفيس بريسلي وآلون ديلون وعبد الحليم حافظ ورشدي أباظة وعمر الشريف.
حين اكتشفت ما يفضلون من صور، رحت أستغل رغباتهم في الشراء بإخفاء بطاقات الصور المرغوبة، وألاحظ تنقلهم أمام بسطة الصور يبحثون فيها عن صورة ما، فأسألهم عن طلبهم، ويفصحون عن أسماء الممثلين والممثلات المفضلين لديهم، أعدهم بجلبها “خصيصاً” لهم، لأطلب سعراً أعلى بخمسة قروش عن السعر المعتاد. كانت البنات تخجلن من الإفصاح عن الصور التي يرغبونها، وألاحظ تهامسهن مع بعضهن البعض، فأشجعهنَ بسؤالي لهن عن طلبهن، فتعلو وجهوهم ابتسامات خجل وعيون مربكة، ويفصحن عن رغباتهن، فأتناول من علب الكرتون، التي تحتوي على الصور المطلوبة لهن، صورة عبد الحليم وعمر الشريف ورشدي أباظة وسواهم، فيغمرهن الفرح ويشترين واحدة أو أكثر، ولم أرفع الأسعار “للزبونات”، توددا مني لهن أو محاولة مني للتقرب إليهن، ودائما أطيل وقت تلبية طلبهن لتبادل الحديث معهن زمناً أطول.
لم يطل الزمن، حتى حدث ما يشبه الزلزال، فتبدلت بنتائجه ( هزيمة حزيران 1967)، قضايا الحياة والاهتمامات وأنماط التفكير. وأصابت التبدلات تلك عالم السينما المصرية باقتراب قصصها من الموضوع السياسي الوطني والاجتماعي، بينما حكم البعث في سوريا، وهو يرفع شعار مقاومة الإمبريالية، في منابره الإعلامية وفي المؤتمرات والمناسبات، انقضت رقابته ” الثقافية” على الفيلم الأميركي، ومنعت عرض منتجات السينما الأميركية لفترة طويلة، وهكذا اجتاحت الأفلام الهندية عددا من دور العرض السينمائية، وطال زمن الفيلم الهندي على الشاشات.
وشاءت ظروف الحياة حينها، بعد هزيمة حزيران، أن تتبدل اهتماماتي بشكل جذري، فلا وقت لمواكبة دور السينما، ومضيت، كغالبية أبناء جيلي، إلى تعميق رحلة الصراع في ” طواحين السياسة”، قُل ” الكفاح المسلح” أو لا حقا “المقاومة” ثم تطور المصطلح إلى ” الثورة”، أية ثورة؟
تشبه تلك الطواحين ” طواحين دونكيخوتة”. وسأفرد لاحقا ًأوراقا خاصة عن تلك المرحلة وتجربتي فيها.