قراءة في فيلم
“يا زيتونة يا ليمونة
غنّى لك طير الحسونة
غنّى لك أحلى موّال
حتى تعودي يا حنونة”
أينما يممت وجهك ثمة- في فلسطين- شجرة زيتون، ولكل شجرة حكاية، ولكل حكاية أغنية، ولكل أغنية صورة، ولكل صورة وجه. وليس مستغرباً إذن أن يختار شاعر فلسطين الكبير من مفردة الزيتون عنواناً لأحد دواوينه [أوراق الزيتون] ويعطي لهذه الشجرة معانٍ وأبعادٍ “إنسانية” في القصيدة التي تحمل عنوان “عن الصمود”:
لو يذكر الزيتون غارسهُ
لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجدادِ
لو من لحمنا نعطيك درعا!
لكن سهل الريح،
لا يعطي عبيد الريح زرعا!
إنا سنقلع بالرموشِ
الشوك والأحزان.. قلعا!
وإلام نحمل عارنا وصليبنا!
والكون يسعى..
سنظل في الزيتون خضرته،
وحول الأرض درعا!!
هي شجرة الزيتون التي تقول الأسطورة أن بنيلوبي الوفيّة صنعت من خشبها سريراً لها بانتظار حبيبها أوديس التي ظلت ترفض الزواج من غيره بانتظار عودته من رحلته الطويلة. وهي الشجرة التي كان يغني لها الفلسطينيون وهم يقطفون حباتها في قراهم المتاخمة لجدار الفصل العنصري حين ظهرت الجرافات وبدأت باقتلاع الشجرات التي تعود بتاريخها للعصور الرومانية القديمة، فلا عجب، إذن، أن يتغنى فيلم “موال فلسطيني(1)” للمخرج نداء سنقرط(2) بالزيتون والليمون، ضمن فلسفة سينمائية تتجاوز سياسات السينما كوسيلة تواصل جماهيرية ومقابلتها بمجموعة واسعة من الاستراتيجيات السردية النقدية الذاتية، فجعل سنّقرط من كاميرته وسيلة “ناطقة” تتحدث عن فلسطين التي تتداخل في معانيها مع مظاهر الاقتلاع والاضطهاد واللجوء، التي تأخذ، أي هذه المعاني، حيزاً من هواجس المخرج حين يسعى لربطها بالحالة الاستعمارية التي تعيشها فلسطين حالياً. ولعل الصورة, سواء كانت ثابتة أم متحركة, سوف تكون أصدق تعبير عن هذه الهوية المختلطة لفلسطين. التي يلخصها الفيلم باستعراضه لحالة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لاسيما من هم على تماس مباشر مع الجدار(3) حيث تقوم جرافات الاحتلال بالاعتداء على الأراضي الزراعية واقتلاع الأشجار وتجريف التربة. ويحاول الفيلم الابتعاد قدر المستطاع عن التضخيم التراجيدي الذي يترافق مع هذا النوع من الأفلام التضامنية والتي عادة ما تتصف بنمطية ذات أبعاد درامية باتت شائعة فيما يطلق عليه “سينما المقاومة”.
يتحدد مكان الفيلم في قرية جيّوس شمال الضفة الغربية القريبة من الخط الأخضر(4)، وهي هنا مجاز للجغرافيا الفلسطينية الآخذة في التآكل يوماً بعد يوم حتى تبدو كأنها تكاد تنمحي من الوجود [قدم سنقرط في بينالي الشارقة 2009 عملاً فنياً تركيبياً بعنوان “مشروع طائرة ورقية” يقارب فيه بتخطيط بسيط بين شكل وخارطة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وبين جناح نوع من الفراشات المحلية من فصيلة أفاريتس سيليسا المهددة بالانقراض]، ونظراً لطبيعية الفيلم(5)، اختار سنّقرط شخصية مركزية للفيلم من سكان بلدة جيّوس: المزارع شريف عمر “أبو عزام”، الذي يعمل في أرضه منذ أن عاد من دراسته خارج البلاد سنة 1967، ورغم مصادرة الجيش الإسرائيلي لجزء منها واقتلاع زيتونتها وكرومها وبياراتها، ورغم صعوبات الحفاظ عليها ومشقّات العمل فيها، لم يتوقف أبو عزام عن عشقه للأرض.
يحيط بشريف أفراد من عائلته وجيرانه ومجموعة من الناشطين السلميين المناهضين للاستيطان ولبناء الجدار العازل والذين غالباً ما يتوافدون إلى بلدة جيّوس، والقرى التي تعيش نفس الحالة، بهدف حماية هذه البلدات من عسف الجيش وهجمات المستوطنين، ويصف سنقرط المشهد عبر كاميرته بأدق التفاصيل لحركة المقاومة الشعبية (بمعزل عن السلطة وفصائل م ت ف) التي تبلورت في مناطق الضفة الغربية ضد الجدار العازل -خاصة قرب الخط الأخضر- وباختياره لأبي عزام فهو إنما يصور نموذج من نماذج عديدة ممن تعرضت ممتلكاتهم وحقولهم للتدمير بسبب سياسات جيش الاحتلال، ويختار سنقرط عدة لقطات ذات طابع احتفالي ورمزي للتعبير عن رفض هذه السياسات، مثل مشاهد تشييع الشهداء ووضع الزهور والملصقات على دبابات الجيش(6). وهي خيارات بصرية تحمل، لاشك، دلالات عميقة مثل طريقة التصوير والركض بالكاميرة والتصوير من الوضع الجانبي، وهي جميعها تضفي على الفيلم نكهة واقعية تسجيلية غير روائية “بمعنى غير درامية” تبتعد عن التفخيم غير المبرر وعن البروباغاندة الرخيصة، رغم أنه كلما اقترب من نهايته، ابتعد عن فكرته الرئيسية بسبب طوله النسبي “حوالي 72 دقيقة” بسبب خوضه ببعض التفاصيل الاضطرارية، ورغم تركيزه على شريف عمر، والذي يمثّل السردية البصرية الهامة في الفيلم الذي ينقل لنا سنقرط بعض من صفاته كفلاح طيب نقي القلب والسريرة، محب للطبيعة وألوانها و إنتاجها, ومتناغماً معها في “مقاومتهما” الاحتلال، أي هو والطبيعة، ويظهر الأفق الإنساني المقاوم عند شريف من خلال حبه للشعر، حين يقوم بإلقاء بعض من أشعار أخيه الشاعر عبد الرحيم عمر(7).
فشريف، إذن، مثال نمطي للإنسان المثقف “المنشبك” الذي يزاوج بين المقاومة وحبّ الأرض وحب الشعر وكل ما هو جميل، وبهذا الحب، وبفضل امتلاكه لأحاسيس قوية عفوية، سوف يكسر شريف من إيقاع الرتابة التي يفرضها المحتل، بطريقة مقصودة، والتي تشكل اختلالاً لما هو مألوف ولما هو طبيعي لجعل حياة الناس هناك لا تطاق، وهذا ما يدفعنا للاقتراب أكثر من العوالم التراجيدية لسكان قرى الخط الأخضر ” كتعبير مجازي عن مطلق سكان يقع فضاءهم على تماس مع المحتل”، وربما هذه- باعتقادي- أحد أهم رسائل الفيلم، مثلما كانت شجرة الزيتون رسالة أخرى لكنها مباشرة وواضحة ومقصودة، فمن الواضح لشريف أو لغيره من سكان قرى الخط الأخضر أن اقتلاع زيتونة أو ليمونة إنما يعني جوهرياً اقتلاع لـ “الهوية” وترحيل لـ “المكان” من الواقع الحقيقي إلى “الواقع” المتخيل الوهمي، حتى و إن كان هذا المتخيل مقاوم، وهذا بالضرورة سوف يثير فينا- كمتلقين- مزيج من مشاعر الحزن والغضب والإعجاب والعجز أيضاً, وإنما يأتي الشعور بالعجز من خلال تصورنا الذهني لمصير شريف بعد انتهاء الفيلم، ففي نهاية المطاف، سنقرر عقلانياً بأنه لن يقوَ على الصمود وسوف ينهزم رغم كل ما تحمل شخصيته من روح التفاؤل والمقاومة والقدرة على النهوض بعد كل كبوة، وهذا يعني، من بين أشياء أخرى، الإقرار بأن شريف عمر كفرد وإن انتهى، فثمة آلاف يشبهونه يمكنهم متابعة السير والمقاومة ومواجهة المحتل و إن بأساليب بدائية، فشريف وأمثاله استحقوا الحياة لأن ثمة شيء على هذه الأرض يستحق الحياة.
وهذه نتيجة مدهشة نصل لها بلاشك، إذ نصاب بالتفاؤل الذي نقلته كاميرة سنقرط وهي ترصد حياة شريف وهو التفاؤل الذي انتقل لنا من شريف نفسه بفضل مثابرته على حبه لأرضه ومقاومته للاحتلال.
إن إصرار سنقرط على إدراج الجوانب الشخصية الحميمة لبطله، إلى جانب اللقطات ذات الأسلوب الوثائقي، يتيح للفيلم التقاط الطبيعة السائدة والواسعة للاحتلال وممارساته العنصرية الإقصائية على المجتمع الفلسطيني بأسره، وكذلك الوسائل التي يتعامل بها الأفراد مع العنف الموجه ضدهم وما يسببه من ضرر اقتصادي واجتماعي ونفسي وعاطفي، وصولاً إلى أفدح الخسائر على مستوى البنية العامة للمجتمع، وتقسيماته العائلية والعشائرية والمدينية، والتي يعتبرها الفيلم جميعها ضحية للاحتلال بمشتقاته كافة. ويقدم الفيلم في هذا الصدد حجة مقنعة لتدعيم موقف الفلسطيني المعارض للاحتلال، فالعديد من الشخصيات لا تتقبل فكرة التعامل -حتى على المستوى الذهني\ النفسي- مع الإسرائيلي بوصفه نداً والجلوس معه على طاولة المفاوضات ذات يوم، فهؤلاء يعتبرون أن دعاة “المقاومة السلمية” لا يقدرون مدى خطورة الوضع في فلسطين، ولا يعرفون معنى أن الحرية تتطلب كفاحاً وتضحية وليس مفاوضات وتسوية، لأن إسرائيل لن تنهي الاحتلال ما لم تضطر إلى بذلك، و أن المحتل لا يرحل بدون مقاتل يقاتل هذا المحتل.
المفارقة هنا تكمن في الإصرار الإسرائيلي على استمرار الاحتلال، على الرغم من كلفته، فهو يمثّل الخيار المفضل لإسرائيل التي ترغب في السيطرة على الأرض بين حدود 1967 ونهر الأردن دون منح الجنسية لسكانها الفلسطينيين، بما يعرضها لأفدح الأخطار المتمثلة بوجود غالبية عربية ضمن حدود “الدولة اليهودية”، وهذا يعني أن المقاومة اللاعنيفة ضد الاحتلال هي مقاومة ساذجة وغير قادرة على إنهاء الاحتلال، بل على العكس سوف تكرس هذه المقاومة مع الزمن استعداداً نفسياً للقبول بالاحتلال وبطروحاته.
وهكذا لا يمكن للفيلم الفلسطيني أن يستمر دون أن يمنح الترميزات السياسية المختلفة التي يتضمنها أهمية خارج نطاق قصته، كأن يدعم و يبرر العنف أو يرفضه، وحقيقة أن أطفال قرية جيّوس يصرون على أن هذه الأرض لهم ولدوا فيها وعليها سوف يموتون و أن “اليهود” جبناء يهربون من أمام حجارتهم، هي حقيقة لا يمكن فهمها إلا من داخل عقلية الضحية التي تنتج صوراً ذهنية للحياة اليومية للشعب وتولد سلوكاً دفاعياً ينتهج تدوير العنف كتعويض عن الهزيمة وليس من باب المبالغة القول أن الفلسطينيين ينظرون لأنفسهم أينما كانوا -وهم على حق- بأنهم ضحايا الوجود الإسرائيلي.
ورغم صلابة “الحدود” التي فرضها الاحتلال، إلا أن كاميرة سنّقرط تحولّها عند اجتيازها إلى حدود وتضاريس سائلة , فبالرغم من أن الفيلم ينقل أحداث حصلت في الضفة الغربية إلا أنه يبدأ برحلة إلى غزة، وبالتحديد إلى المكان الذي قتلت فيه الناشطة الأمريكية راشيل كوري حين دهمتها جرافة إسرائيلية وهي تحاول منعها من هدم البيوت و تجريف الأرض(9)، ولاشك أن المتلقي سوف يقارن ذهنياً مشهد الآلية التي تجرف شجرة الزيتون بمشهد الجرافة التي قتلت راشيل كوري.
على الطرف الآخر من المشهد تظهر بيوت مستوطنة آرييل في الضفة الغربية، بيوت بسقوف قرميدية حمراء تشبه كثيراً بيوت الريف الأوروبي والأمريكي إلى الحد الذي يجعل من سنّقرط مقارنتها بما يتذكره من البيوت المشابهة في منطقة جنوب كاليفورنيا، وتحيلنا مناظر بيوت المستوطنة إلى المعاني الحقيقية للواقع العنيد الذي يعيشه الفلسطيني بكل مآسيه، حين يكون مجبراً أن يرى الإسرائيلي رغماً عنه في حين أن المستوطن في آرييل متسلحاً بالسلطة والهيمنة يمكنه أن يستعيض عن هذا الواقع بمتخيل “استشراقي” إذ ما عليه سوى تجاهل الفلسطيني، حتى يصبح غير مرئي له، ولا حتى لمن يسكن في جنوب كاليفورنيا في حين أن الفلسطيني عليه أن يرى ويحفظ في الذاكرة ويلتقط منها “تلك الصور الباهتة التي تخلق قصة” كما يقول سنقرط نفسه أثناء حديثه عن طفولته في الجزائر حيث كان والديه يحتفظان بصندوق صور قديمة لأفراد الأسرة وللحقول وللمنازل في فلسطين.
يدرك سنقرط معنى الصورة وأهميتها، وباعتباره نحاتاً ومصمم تراكيب فنية يأخذ عنده البعد الثالث: “العمق” معانٍ إضافية تزيل أي لبس متعمد أو مفترض قد يخلقه الفضاء الإقليدي الذي يفتقد لـ “الخط الزمني” كأداة تفاعلية تعالج الواقع الذي يمكن افتراض وجوده في البعد الثالث، ومن هنا لا يضطر سنقرط للمساومة “السياسية” على حساب اللغة البصرية حتى لو اقتضت الظروف ذلك، وحتى لو كسر جندي الاحتلال كاميرته، فعلى الدوام لديه حلول لكل هذا وهو يعتقد أنه يقوم بتكريم من يصورهم من خلال لغته البصرية تلك، وأفضل تكريم لهم إنما يأتي من خلال نقل سرديتهم للغرب، الآن وهنا.
يذكر سنقرط عن فيلمه أنه أتى لزيارة الضفة الغربية في العام 2002 لتصوير فيلم عن المياه والسياسات التي تتبعها إسرائيل في حرمان الفلسطينيين من المياه، وبينما كان يصور بعض المشاهد مرِّ بنقطة تفتيش للجيش الإسرائيلي، وهو في طريقه إلى إحدى المناطق الغنية بالمياه فوصل إلى قرية جيّوس، حيث كانت الآليات الإسرائيلية تجرف أحد المزارع لاستكمال أعمال بناء الجدار، وهكذا، أصبحت القصة قصة مقاومة السكان، إذ لم يكن من الصعب حث الناس على سرد قصصهم لأنهم يدركون أن هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة لجعلها أو بقائها حية في عيون وقلوب وعقول الآخرين، بمعنى إذا كنت تستطيع التأثير على أشخاص يمتلكون قصة ما، فهذا يعني أنك تمتلك الفرصة لتغيير هذه القصة. وهذا ” الذكاء” المقاوم اكتسبه الفلسطينيون عبر خبرة طويلة ومتراكمة من النضال تزيد عن قرن من الزمن وهم الذين اعتادوا على وجود الأغراب والأجانب في محيط بيوتهم وحقولهم، فأطفالهم الذين يكاد جميعهم يحفظ أسماء مذيعي الأخبار في الفضائيات العربية، ما انفكوا يكبرون مع الصحفيين الأجانب شبه المقيمين بين ظهرانيهم.
نرى المزارعين في جيّوس يقفون كتف لكتف في مواجهة الجرافات والجنود الذين يدفعون المتظاهرين ويأمروهم بالتراجع حتى تتمكن الجرافات من المرور باتجاه حقول المزارعين، وما سوف يعقب ذلك من اشتباك وإطلاق نار وقنابل غاز وجرحى وقتلى، في مشهدية فلسطينية يومية متكررة.
استخدم الفلسطينيون الفن السينمائي كوسيلة تساعدهم في بناء سرديتهم مقابل السردية الصهيونية\ الإسرائيلية، فمثّلت السينما، لهم، إطاراً مرجعياً يراد له أن يكون متجانساً للتعبير عن هويتهم “الوطنية\ المحلية” والثقافية بطريقة يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي بالنفسي مع غيره من العوامل منها ما هو ثابت “الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر”، ومنها ما هو متحرك “أثر المتغيرات المحلية والإقليمية الجيوسياسية على مجريات القضية”. وقد سعت السينما الفلسطينية، ومازالت تسعى، إلى خلق سردية بصرية قائمة جزئياً على تصوير العنف الإسرائيلي “بشقية عنف الجيش وعنف المستوطنين” الذي يتعرض الفلسطينيون بطريقة تشبه ما تطرحه السرديات الأدبية الموازية الأخرى” رواية، شعر، مسرح.. إلخ” ولكن دون اللجوء إلى ضخ إيديولوجي قد يعيق الوصول إلى الصورة الحقيقية للمعيش اليومي الفلسطيني.
وفي المقابل، من الواضح أن تصوير أي نوع من مظاهر عنف “فلسطينية” إنما يرتبط بهذا القدر أو ذاك من قبول الرأي العام الغربي للسردية الفلسطينية باعتبارها “صوت” الضحية وما سوف تلعبه وسائل الإعلام لقبول أو رفض هذه السردية من خلالها توجيهها بواسطة صور وتسجيلات صوتية ومرئية يتم تقديمها للجمهور سواء كانت تتفق أو لا تتفق مع الرواية الفلسطينية الموازية ومفهومها التأسيسي بتكريس الفلسطيني كضحية للعنف الإسرائيلي.
ولابد من التنويه هنا بأن ثمة الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الصدد عن “فشل” الفلسطينيون في تغيير الواقع الذي أنتجته وسائل الإعلام الغربية “المؤيد لإسرائيل” بشأن قضيتهم، لاسيما بعد هجمات 11 سبتمبر في خضم الانتفاضة الثانية، التي فقدت، بسبب تلك الهجمات جميع أو معظم دواعي الدعم الشعبي الذي كانت تحظى به في الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)، وتشبع وسائل الإعلام الغربية بالمادة اللازمة لتأويل آليات الصراع بما يتساوق مع التطورات الأخيرة وهو ما خلق حالة من التفسيرات الجزئية غير المكتملة والمتحيزة أحياناً تدفع المواطن الغربي غير المطلع على تفاصيل الصراع إلى تطوير تصور عنه يستند بصورة أساسية إلى مثل هذه التفسيرات غير الواقعية والمتحيزة التي يتم إنتاجها في غرف الأخبار وعلى يد محرري الصحف الكبرى المهيمنة وليس من خلال الأحداث الفعلية التي تحدث، ولعل هذه الظاهرة – تفسير الصراع وتأويله – تتجاوز مقولة إدوارد سعيد عن “خلق” صورة الشرق على يد المستشرقين الغربيين حيث يكون تفسير المستشرق- هنا – أكثر أهمية من الواقع ذاته الذي يتم تفسيره، لكنه لا يحل محله تماماً. أما بالنسبة لمشاهدي وسائل الإعلام الغربية الذين ليس لديهم خبرة أو معرفة أخرى بجوانب الصراع، يكون تمثيل وسائل الإعلام للصراع بين الفلسطينيين و إسرائيل يعبر عن حقيقة الصراع ذاته مع الإصرار على أن أشد حالات هذا الصراع تمثلاً في الغرب لا تظهر وكأنها من إنتاج الغرب، ويقع على عاتق الفلسطيني، وحده، المغامرة من أجل البحث عن تفسير مقبول لهذا السلوك، ولذلك بات لزاماً عليه خلق أدوات سياسية تجعله ينأى بنفسه عن مظاهر العنف و “الإرهاب” وفي ذات الوقت تصوير إسرائيل على أنها العدو الجوهري له ووجودها يمثل انتهاكاً صريحاً لأبسط معاني العدالة وحقوق الإنسان, فـ “واقع” الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما يفهمه الغرب، مختلف ولا يرتبط بالضرورة بأي علاقة بـ “الأحداث الفعلية التي تجري هناك على جانبي الخط الأخضر”، حيث يمكن للبعض هناك أن يجادل بأن إظهار الفلسطينيين كضحايا لا يعكس واقع الحال أو الصورة بجميع جوانبها، فالسردية الفلسطينية لا تظهر من يحرض على “الإرهاب” مثلاً أو من يفجرون أنفسهم في المقاهي والحافلات التي تقل المدنيين الآمنين في المدن الإسرائيلية، بل على العكس يفتخرون بتسمية أبنائهم بأطفال الحجارة. ورغم أن هدف مثل هذه المزاعم التضليلية (رغم هزالها وإمكانية الدحض الجدلي لها) يتمثل في حرف المتلقي عن الحقائق على الأرض، فسوف يأتي من يقول: انظر هناك.. نعم هناك حيث أشير!. ألا ترى؟ إنه فتى في الثانية عشر من عمره يعيش في تلك القرية، سألته ذات يوم لماذا ترمي علينا الحجارة فأجاب باستهزاء ووقاحة، ودونما خوف، لأن هذا الحجر سيطردكم من فلسطين.. ألا يمكن لهذا الطفل أو ذويه أن ينظروا إلى الجانب الإنساني والاقتصادي من الاستيطان.
أي نظرة هذه تقوم على قاعدة أنه يمكن لأي شخص أن يكون عدو أو يتحول إلى عدو، ولكن لا يمكن لأي شخص أن يكون صديق أو يتحول إلى صديق؟
لاريب أنها مفارقة مستعصية تعبر عن شخصية عصابية وعن نمط تفكير ارتيابي سقيم، فكيف يمكن أن يكون هناك جانب إنساني في الاستيطان؟
وهنا تلعب إسرائيل، وهي دولة شرقية من الناحية التقنية، دوراً عبر تجميع السرد المركب للأحداث الرئيسية للصراع وتفسيرها والتلاعب بها من خلال محاكاة هذه الأحداث وضخها في قنوات وسائل الإعلام (الأمريكية بالدرجة الأولى) لإنتاج صورتها المرغوبة بما يفسر الإفراط المبتذل الذي نراه في المواقف المؤيدة للسياسات الإسرائيلية(8) التي تنكر واقع التجربة الفلسطينية مع الاحتلال التي شكلت السردية الوطنية الفلسطيني، والنظر لهذه السردية على أنها محض خيال تنتجه عقلية الضحية أو الرغبة في لعب دور الضحية ضمن صراع تنافسي محموم على سرديات الغنيمة.
وما يحسب لنداء سنّقرط، عند هذه النقطة، أنه استطاع بذكاء غلق الباب أما مثل هذا النوع التكهنات والمحاكاة حين ركز على تداعيات الجدار: المعاناة بمعناها الإنساني بالدرجة الأولى، وليس بمعناها السياسي أو الكفاحي فمعظم شخصيات الفيلم غير عنيفة بعكس المقاربات التي يحاول الإسرائيليون نقلها عن الفلسطيني (يخطر في البال هنا تنميط حركة حماس مثلاً، ويستطيع الفيلم الزعم أنه رغم أساليب حماس المتشددة والعنيفة، إلا أن ما يقوم به الفلسطينيون في جيّوس وبلعين وكفر قدوم وقلقيلية وغيرها من قرى و مدن و بلدات الضفة الغربية قد يبدو أكثر فعالية في الوقت الحالي وفي هذه المرحلة من تاريخ النضال الفلسطيني لتصوير المشهد الفلسطيني), وعندما يخبر سنقرط المشاهد أن محكمة العدل الدولية أعلنت عن عدم قانونية الجدار، فهو يقول أيضاً أن هذا لم يمنع إسرائيل من الدفع بآلياتها لاستكمال بنائه وهدم وتجريف الأراضي بحماية فوهات مدافع الدبابات، وعندما يلقي “أبو عزام” قصيدة من شعر أخيه تشرح تقييد حركة الفلسطيني وصعوبة تنقله في المكان كنتيجة مباشرة للاستيطان واحتلال الأرض يغصّ بالكلام، ولا يستطيع المتابعة فيضع الكتاب على وجهه ليخفي انفعالاته ودموعه عن الكاميرة و ينشج بكلمة واحدة ” difficult” وهي مقصودة هنا لتكون رسالة للخارج، وسوف ينقل لنا سنقرط حالة الـ difficult هذه ببراعة، سواء عبر الصورة أم عبر السردية اليومية في مواجهة الاحتلال، وكثافة شديدة في مشهد قراءة “قرار” مصادرة الأراضي المرفق بخارطة أشبه بالمتاهة تبين حدود الأرض التي ستصبح تحت تصرف الجيش لدواعٍ أمنية، وهذا ما يختزل بوضوح معنى إسرائيل لدى الفلسطينيين على أرض الواقع، فالمزارع الذي ينظر إلى أشجار الزيتون المقتلعة لا يحتاج إلى تأمل نظري، ولا إلى استهلال فلسفي، ولا إلى تنظير سياسي، لكي يعرف ماهي إسرائيل بالنسبة له.
تركز الكاميرة على أحد المزارعين لحظة اقتحام الجيش لحماية الجرافات حيث يصطف الجنود وأيديهم على زناد رشاشاتهم، فيقول الرجل بعفوية ودون جهد “شوفهم، كل واحد منهم من بلد، واحد من أثيوبيا وواحد مش عارف من وين, اسألهم إذا في اثنين منهم من بلد وحدة، كل واحد منهم من بلد وهم صاروا صحاب الأرض واللي انولد فيها جد جدنا صرنا غربا” وتنتقل الكاميرة لتصور كف الجرافة وهي تقلع شجرة زيتون و يأتي صوت الرجال ” مخلّوش النا شي”.
هكذا هي الحياة هناك. كمشة صور تتحول إلى قصة، والقصة تعود لتصبح صورة، لكنها متحركة هذه المرة على يد فنان هو نتاج المأساة.
هذا الموال الفلسطيني هو استمرار بطريقة أو بأخرى لصندوق صور عائلة الطفل سنقرط. قد تخلف بعض التفاصيل وبعض الألوان. قد يختفي من الحياة بعض الأشخاص وبعض البيوت، لكن يبدو أن شيئاً لم يتغير عند الفلسطيني، فالآليات العملاقة بقبح صوت صرير معدنها مازالت تبتلع الأرض وتجرف الوعي. كتل فولاذية ضخمة تتهادى ببطء وهدوء مثيرين للضجر، تقلب الأرض فينقلب معها وعينا و ذاكرتنا.
هذا هو الموال الفلسطيني الذي مازال يصدح، ليس منذ الجدار، بل منذ قرن أو يزيد، لم يختلف في الجوهر وإن اختلف ببعض التفاصيل، لم يختلف في القرار والجواب وإن تعددت نغماته وإيقاعاته. موال حزن ودم ودمع ويأس ومقاومة وانتصارات وهزائم. موال نزوح وشتات وتشبث وتشابك بأدق تفاصيل الأرض.
موال ارتحال الأرض\ الوطن إلى أقاصي الذاكرة.
موالٌ فلسطيني لا يخلو من لحظات الفرح والشعر والفكاهة حتى تكاد تنسينا الجدار والخط الأخضر (من الواضح أن سنّقرط غير معني بالجدار كجدار, لذلك لا يتم التركيز عليه، بل على تداعيات وجوده ،وهذا ما يجعله يبتعد نوعاً ما عن الصيغ التقريرية السياسية التي ترافق مثل هذا النوع من الأفلام). إنه موال رجل عادي استمد قوته لمجابهة المحتل من حبه للأرض، فهو لم يخرج من الحكايات القديمة ولا من دواوين شعر الفرسان الذين لا يهزمون، ولا يغيب عن سنّقرط إظهار جوانب الضعف والخذلان عند البعض، بكل جرأة ودون رتوش، ( أحد أهم المشاهد المعبرة عن هذه الجرأة السيدة التي تدخل في مشادة كلامية مع بعض الشباب، إثر اتهامها بنيتها بيع أرضها للمستوطنين، أو حين يعترض أحد الرجال على أسلوب مواجهة جنود الاحتلال عبر بناء خيم و “سقيفة” كنوع من تحدي الجيش، فيقول الرجل “اللي بقلع الزتونة جاهز يقلع سقيفة”، وهذا تعبير واقعي – و إن كان فظاً وفجاً- عن المعضلة الحقيقية التي يواجهها الفلسطينيون في مواجهة عدو على شاكلة إسرائيل). فبؤس الفلسطينيون، بالأحرى مأساتهم، وعجزهم عن مواجهة الجيش واضحة وضوح الشمس، فماذا يمكن لـ “الخيمة\ السقيفة” أن تقوم به أمام الجرافة؟ وحتى لو كان الجواب القادم من زاوية الرؤية الأخرى بأن دونم الأرض أغلى من خسارة خيمة أو سقيفة فالرد الأكثر واقعية، والأكثر ألماً في ذات الوقت، يتمثل في أنه إذا كان الجيش قادر أن يجرف ويحتل دونم الأرض فهل سيقف عاجزاً أمام سقيفة أو خيمة؟
ولذلك عمد الفيلم إلى التركيز البصري على أشكال العنف المختلفة التي يتعرض لها الفلسطينيون بهدف إظهارهم كضحايا مباشرين للاحتلال وإثبات حتمية مطالبهم وحمايتهم، فينقل المخرج عبر معظم المشاهد المحتوى البصري والسردي المتعلق بتدمير أو عزل وانقطاع التجمعات السكانية الفلسطينية عن بعضها البعض، من خلال نسيج من الصورة، بعضها هادئ، وبعضها صاخب، وبعضها حزين، وبعضها صامد، بما يعكس تجربة التأذي اليومية للفلسطينيين الخاضعين للاحتلال.
…………………
1) اسم الفيلم باللغة العربية “موال فلسطيني”،, أما اسمه باللغة الإنكليزية Palestine Blues فيأتي من موسيقا أغاني البلوز الحزينة لكل من بليند ويللي جونسون Blind Willie Johnson و مودي ووترز Muddy Waters , والتي اختارها المخرج كموسيقا تصويرية للفيلم.
2) نداء سنقرط نحات ومخرج سينمائي أمريكي من أصول فلسطينية. ولد في الولايات المتحدة سنة 1971 لأب من الخليل وأم من يافا. حصل على بكالوريوس في مجال الفنون المرئية والسمعية من جامعة تكساس\ أوستن. نال جائزة بول روبسون للإعلام، كما شارك في العام 2001 في برنامج الدراسات المستقل من متحف ويتني للفن الأمريكي. ونال في العام 2002 منحة فنون الإعلام من مؤسسة روكفلر، أمضى عدة سنوات في الشرق الأوسط وإسبانيا. عرضت أفلامه وأعماله الفنية التركيبية في معارض جماعية عديدة منها: بينالي كوفييه\ لينز، النمسا 2010. بينالي الشارقة 2009 . قصر الفنون الجميلة في بروكسل عامي 2008 و 2009، معرض “على أبواب الجنة” في البلدة القديمة في القدس 2009، معرض الفنانين في نيويورك 2006، معرض” صنع في فلسطين” و الذي جال الولايات الأمريكية بين عامي 2003 و 2006، كما عرضت أعماله في عدد من المجموعات العامة والخاصة مثل مجموعة جورجيو فاسول في متحف روفيريتو الإيطالي، ومجموعة نادور للفنون الشرق الأوسطية المعاصرة في العاصمة الفرنسية باريس.
أنتج سنقرط فيلمه التسجيلي “موال فلسطيني” سنة 2006، وفاز معه بجائزة مهرجان نيويورك أندرغراوند في نفس السنة وتم عرضه في أكثر من ثلاثين مهرجاناً حول العالم وفاز بسبع جوائز لأفضل فيلم وثائقي من بينها الجائزة العالمية للأفلام الوثائقية المتوسطية\ مونبلييه 2007، وجائزة CMCA للأفلام الوثائقية و التقارير المصورة المتوسطية\ أثينا 2007 ،وجائزة مهرجان دوكسور السينمائي الدولي\ جز الكناري، إسبانيا 2006، وجائزة مهرجان الأفلام الأوربية العربية AMAL سنة 2006، وجائزة مهرجان نيوأورليانز الدولي لحقوق الإنسان سنة 2006. وجائزة مهرجان دوكسور السينمائي الدولي، وجائزة مهرجان ECOCINEMA السينمائي الدولي 2008 “ريبورتاج وتوثيق”
وتم اختيار الفيلم ضمن العروض الرسمية للمهرجانات والفعاليات التالية: مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام الوثائقية في الدوحة، و مهرجان القصبة السينمائي الدولي في رام الله، والمهرجان الدولي السينمائي – سانتياغو دي كومبوستيلا\ إسبانيا وكذلك مهرجانات بوسطن و تكساس ومونبيلييه وهيوستن ولندن و مهرجان نيويورك أندرغراوند السينمائي وبوسطن ومهرجان شيكاغو أندرغراوند و مهرجان دوكوسور السينمائي الدولي ومهرجان طهران للسينما الوثائقية الدولي “سينما فيريت” ومهرجان لا ميموريال للتوثيق اللاتيني – أمريكا – تيبوزتلان، المكسيك ومهرجان القدس السينمائي الصيفي في واشنطن، ومهرجان مينيسوتا السينمائي العربي، بالإضافة إلى مهرجان نيو أورليانز الدولي لأفلام حقوق الإنسان، ومهرجان عالم واحد عالمي لأفلام حقوق الإنسان في كلٍّ من براغ وبراتيسلافا و مهرجان سانتياغو السينمائي الدولي، و مشروع فلسطين للصوتيات والمرئيات Cineclub – فلسطين، لبنان، سوريا، الأردن، والندوة السينمائية في أدنبرة بعنوان: دور السينما الجديدة في العالم العربي. ومهرجان Creación Bajo Las Bombas (التصوير تحت النار) – مدريد وقرطبة ، إسبانيا . وجائزة Filmer out Tout – بروكسل، بلجيكا. و في كوبا: Muestra Nacional de Nuevos Realizadores (ICAIC) Habana، وفي فرنسا: Rencontres Cinema Du Réel à L’Imaginaire – Manosque، France ، كما حظي الفيلم بعروض خاصة في مشروع سينكلوب بعنوان صوت فلسطين في كل من: فلسطين، لبنان، سوريا، الأردن وعرض خاص في مسرح روكسي \كاليفورنيا بضيافة مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي العربي و كذلك عرض خاص في مسرح كاليفورنيا-أوكلاند بضيافة مهرجان سان فرنسيسكو السينمائي العربي، وعرض خاص في Ragtag Cinema – كولومبيا ، ميسوري (تستضيفه True / False Film Festival)
3) جدار الفصل العنصري (يسميه الإسرائيليون الحاجز الأمني) عبارة عن جدار تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية قرب الخط الأخضر بهدف منع الفلسطينيين من الدخول إلى “إسرائيل” أو إلى المستوطنات القريبة منه، ويتشكل من عدة أشكال معظمها على هيئة جدران إسمنتية عالية، ويصل أعلى ارتفاع له نحو 9 أمتار في المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين، وتتضمن مرافق الجدار على طرق دوريات وطرق ترابية مغطاة بالرمال لكشف الأثر و أبراج مراقبة مزودة بكاميرات وأجهزة استشعار فضلاً عن سياج إلكتروني في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. بدء العمل به سنة 2002 وسيبلغ طوله النهائي حوالي 770 كم، منها 142كم حول مدينة القدس “غلاف القدس حسب التسمية الإسرائيلية”، ويمر بمسارات متعرجة تلتهم الأراضي الفلسطينية وتعزل مناطق سكنية كاملة مثل قلقيلية. أنجز من الجدار حتى الآن 539 كم، أي نحو 70 % من طوله الكلي فيما يتم الانتهاء من 62 كم إضافية تشكل 8% منه، بحيث يتبقى نحو 170 كم أي 22%، وفي المجمل سيلتهم الجدار نحو 46% من مساحة الضفة الغربية البالغة 5800 كم2، فضلاً عن عزله مدينة القدس ديموغرافياً وجغرافياً عن مدن وقرى الضفة الغربية.
4) الخط الأخضر, ويقصد به الخط الوهمي الذي يفصل الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967. ظهر بعد هدنة 1949 عندما حددت الأمم المتحدة بموجبه “أراضي دولة إسرائيل”، ورغم أن الخط الأخضر بمعناه العام يشمل “الحدود الدولية” بين إسرائيل و الدول العربية المجاورة سوريا والأردن ولبنان ومصر, إلا أن استخدامه السياسي والوظيفي انحصر تقريباً على فلسطين المحتلة بقسيمها الأربعيني والستيني، وبات يشكل الحدود الدولية لأساس لقرار مجلس الأمن 242 . وأصبح الخط الأخضر بعد سنة 1967 عبارة عن خط “إداري” يفصل بين المنطقة الجغرافية للسلطة الإسرائيلية المدنية والمناطق الخاضعة للحكم العسكري المباشر كما تنص اتفاقية جنيف. يذكر أن إسرائيل أنهت العمل الوظيفي للخط الأخضر في مرتفعات الجولان سنة 1981 عندما أعلنت فرض قوانينها عليها، وهو ما حصل أيضاً في الجزء الشرقي من القدس وبعض البلدات المجاورة لها منذ احتلالها في العام 1967. ساهم مسار الخط الأخضر بزيادة معاناة الفلسطينيين حين تسبب بفصل سكان 75 قرية عن أراضيهم كما قسّم التجمعات السكنية في القدس وقلقيلية وطولكرم نظراً لأن من رسم الخط الأخضر أخذ في اعتباره مواقع القوات المتحاربة والتحصينات التي أنشأتها الأطراف العسكرية، آنذاك، دون الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجغرافية للمنطقة التي يسير فيها الخط أو احتياجات السكان من حوله.
5) يصنف “موال فلسطيني” كفيلم تسجيلي يوثّق ما تقع عليه الكاميرة، بمعنى أنه غير معني برواية درامية من نوع ما بقدر ما يكون الهدف أن تسجّل الكاميرة تصوّراً معيناّ عن وضعٍ معين، وليس بالضرورة أن يكون الهدف توثيقي أو إثبات حقيقية ما “فهذه مهمة الفيلم الوثائقي على كل حال”. ويستفيد الفيلم التسجيلي من وجود العناصر البشرية في مادته، ليس كموضوع روائي، بل كلقطة حية وواقعية تحتفظ بلحظتها الخاصة للمكان أو الحدث أو حتى الشخص الذي تتناوله (لا يعتمد الفيلم التسجيلي على ممثلين محترفين ولا على مناظر صناعية داخل الاستوديو، وعادة ما يتم اختيار مادته من الطبيعة دون تكلف أو تأليف أو محاكاة )، وقد يقدم المخرج رأيه فيما يصوّر ويسجل و قد لا يفعل ليترك هذه المهمة للمشاهد.
6) تختلف دلالة الدبابة باختلاف الغاية من تصويرها، فعلى سبيل المثال، يستعرض فيلم مدته ثمان دقائق بعنوان “تفاصيل” للمخرج الإسرائيلي ” آفي مغربي” ومن إنتاج العام 2004 مجموعة من الفلسطينيين يسيرون نحو نقطة تفتيش وهناك يبدؤوا في التفاوض مع عناصر الجيش للسماح لهم بالعبور برفقة سيارة الإسعاف التي معهم. تنقل لنا الكاميرة مشهد دبابة بداخلها جنود قرب الحاجز. تتم المفاوضات بين الفلسطينيين والجنود عبر مكبر الصوت، ونسمع أصوات الجنود المكتومة تطالب الفلسطينيين بالعودة والابتعاد عن نقطة التفتيش، ويأمرهم أحد الجنود بالتوقف عن “الحركة”. ما هو مهم في المشهد أن الموقع ليس محدداً، فهو نقطة تفتيش إسرائيلية في مكان ما في الأراضي المحتلة. الجندي أيضا مجهول وغير محدد المعالم، لكنه محمي، ويستمد قوته من دبابته، ويصرخ بوجوه الفلسطينيين :”قفوا … توقفوا عن الحركة.. هيا عودوا إلى دياركم “. وكلما تتقدم السيارة أكثر نحو نقطة العبور على الحاجز يعيدها الجنود إلى حيث كانت مرة أخرى. وثمة فتاة صغيرة خائفة تبكي، ويظهر بقية الفلسطينيون “عراة” -مجازاً- لدى مقارنتهم بالجنود، فلا يسترهم (هذه المرّة عملياً وليس مجازاً) سوى ثيابهم، يظهرون بأجساد ضعيفة منكسرة مهزومة وخاضعة لإرادة ومزاج جنود الحاجز. لكنهم في واقع الأمر أجساد حقيقية من لحم ودم، وهذا ما يعقد المشهد ويكثف المعاناة، فينكشف وجودهم على “أرضهم” كوجود غير مستقر، بل وجود مؤقت وطارئ، حيث لاحول لهم و لا قوة، لا شيء واضح أو ثابت.. مجرد مساحات خالية لا يحركها “الطبيعي”، بل الاستثناء الذي يمسي قانوناً على الفلسطيني أن يعيش بموجبه. يتحرك هذا الاستثناء ويتضاعف ويتحول إلى كم هائل من “المؤقت” الذي هو رهان المحتل. فحياة الفلسطيني بجميع تفاصيلها مؤقتة: العمل والأكل والنوم والجنس والصلاة والزواج والولادة -باستثناء الموت-.. جميعها مؤقتة، فيصبح الاستيلاء على بعض المناطق مؤقت، والانسحاب مؤقت والتطويق المؤقت، والإغلاق المؤقت وتصاريح العبور مؤقتة، وإلغاء تصاريح العبور هو أيضاً إجراءٌ مؤقت، وسياسة الطرد والإبعاد تكون مؤقتة ووقف إطلاق النار أيضاً مؤقت. وعندما يتلاعب المستعمِر\ المحتل في هذا المؤقت بهذه الطريقة، فإن كل شيء تقريباً – كل شيء يتحرك وكل ما هو حي- يتوقف على منسوب عسف قرارات المحتل الذي يدرك أنه يلعب دائماً في الوقت الضائع، في الواقع في الوقت المسروق من الآخرين. هذا النوع من المحتل هو محتل غير مقيد وذو سيادة لا حدود لها، لأنه عندما يكون كل شيء مؤقت فإن أي شيء تقريبا – أي جريمة، أي شكل من أشكال العنف- يكون مقبولاً، فالمؤقت يمنحه ترخيصاً بضمان استمرارية هذا المؤقت .
7) يظهر أبو عزام وهو يتحدث بحسرة أثناء تجواله مع المخرج في المنزل الفارغ المهجور ويقول “لمّا كنت صغيراً، لطالما راودني سؤال أرّقني وأعياني جوابه: هل عليّ أن أبقى طوال عمري أنتظر أن ترسل أمريكا لنا كيس دقيق لآكل؛ هل هكذا ستمضي حياتي، هل هكذا سيكون شكل مستقبلي؟ ثم يتناول دفتر ملاحظاته، يفتحه عند صفحة محددة، يهمهم ويهمس “هكذا هو عبد الرحمن، لا يملّ الحديث عن الثورة، حتى حين يتغزل بحبيبته لازم يحكي عن الثورة”؛ ثم يأخذ أبو عزام هيئة الشاعر:
” قطِّعوا الأيديَ
هل تقطيعها يمنع الألسنَ أن تنطق جهرا !
قطٍّعوا الألسنَ
هل تقطيعها يمنع الأعينَ أن تنظر شزرا !
أطفئوا الأعينَ
هل إطفاؤها يمنع الأنفاسَ أن تخرج زفرا !
أخمدوا الأنفاس
هذا جهدكم ….
وبه منجاتنا منكم “
8) راشيل كوري ناشطة حقوقية أمريكية (1979-2003) قتلت على يد القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، الذي وصلته في العام 2003 ضمن وفد من حركة التضامن العالمية في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث عملت مع مجموعة أخرى معها من أجل وقف ومنع سياسة هدم منازل الفلسطينيين. ففي حي السلام في مدينة رفح رفعت راشيل لافتة كتب عليها ” كن إنساناً” وتقدمت وهي ترتدي معطفاً برتقالياً نحو إحدى الجرافات الإسرائيلية لمنعها من الاقتراب من منازل الفلسطينيين، وكانت تحمل مكبر صوت تدعو به الجنود للتوقف عن الهدم، وهي تعتقد أن ملامحها الغربية سوف توقف الجرافات، غير أن سائق الجرافة لم يهتم لندائها فقام بدهسها وطمرها عدة مرات كما تقول الرواية في الفيلم نقلاً عن فلسطينيين كانوا معها. و تقول راشيل في رسالتها الأخيرة لأهلها قبل مقتلها: “أعتقد أن أي عمل أكاديمي أو أي قراءة أو أي مشاركة في مؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي”. وتقول في رسالة أخرى: “أحياناً كنت أجلس لتناول وجبة العشاء مع الناس، وأنا أدرك تماما أن الآلة العسكرية الإسرائيلية الضخمة تحاصرنا وتحاول قتل هؤلاء الفلسطينيين الذين أجلس معهم”.
9) للمزيد, انظر :Mearsheimer, John and Stephen Walt. “The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy.” Middle East Policy 13.3 (2006): 29-87.