الورقة الثانية
كان جدي لأبي، عبدالله الولي، يجمع في ملامحه إشراقةَ وجهه الأبيض المستدير، وحمرةَ الخدين، مع نظرات عينين فيهما، لمن ينظر إليّهما، علاماتُ القوة التي تختلط فيها، على من يراهما لأول مرةٍ، قسوته، من قسوة الزمن عليه.
في الرابعة عشرة من سنواتِ عمره، أخذه الأتراك للخدمة العسكرية، وتصادف ذلك مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914، وبعد أن اجتثت قذيفةٌ بريطانيةٌ ذراعه اليمنى، أطلق الأتراك سراحه من التجنيد الإلزامي، فأمضى بقية عمره بذراعٍ واحدة. كثيراً ما رددَ، عندما يواجه موقفاً يحتاجُ فيه لاستخدام كلتا يديه: ” ياريتني متّ بالقذيفة وارتحت من هذا الشقاء”.
قبل استئجار جدي وأبي بيتاً لنا في المزة القديمة، كان الشقاءُ اليوميُّ أقلَ، فكنّا نسكنُ في الحيّ الدمشقيّ الأرستقراطيّ حينَها،”ساروجا”. فكلُّ أسواق المدينةِ قريبةً منه، سوقُ الهال والسوقُ العتيق، وساحةُ المرجة، وسوقُ الحدادينَ، وحتى سوقُ الحميدية، يعني ذلك سهولةَ العثورِ على الحاجاتِ الاستهلاكيةِ اليومية.
لكن الحقيقة الأهمَّ، التي فرضت على أهلي الانتقال إلى “قرية” المزة، أنَّ أسرتي أنفقت كلَّ ما حمَلَهُ جدي معه من نقود (500) جنيه ” ليرة” فلسطينيّ، في رحلةِ اللجوءِ القاهرةِ من فلسطين إلى سوريا، وهو مبلغٌ كبيرٌ في حسابات تلك المرحلة (أواخر الأربعينيات، وحتى مطلع الخمسينيات).
تصرف جدي، في السنوات الأولى للهجرة إلى سوريا، كزائرٍ سائحٍ، لا يتوقف عندَ الأسعارِ أو أوجُه الإنفاق. وقُربُ أسواقِ دمشق من بيتنا في سوق ساروجة، وذكاءُ التجارِ والباعة الدمشقيون في عرض بضائعهم وترويجها، وشهواتُ جدي وأبي وجدتي لأبي وأمي، لأنواعِ الطعام عامةً، والحلويات والفواكه بشكلٍ خاص، استهلكت ال 500 جنيه خلال سنتين تقريباً، وحين تطلبُ جدتي منه تخفيفَ الصرف يقولُ لها: (هي جمعة “مشمشية”) يعني سريعة ومنرجع لبلدنا!. ولقد علمتُ فيما بعد، أنَّ ذلك المبلغُ كانَ يكفي لشراءِ البيتِ الذي استأجرَه جدي في ساروجة ويزيد. وكان صاحبُ البيت قد عرضَ على جدي، بالفعل، هذه الفكرة، لكن جدي” الملاك” الذي يعتزُ بعشراتِ الدونماتِ التي يملكها في بلدِ الشيخِ بفلسطين، فضلاً عن بيتٍ من طابقين في القريةِ، رفضَ مبدأ امتلاك بيتٍ خارجَ بلده، وكان وهمُ حلمِ العودةِ السريعةِ يرتعُ في عقله كما في عقولِ سائرِ اللاجئين الفلسطينيين، إلّا ما ندر. وسيكررُ جدي تطبيق فكرته المبدئية، عندما شرعت مؤسسةُ اللاجئين الفلسطينيين في دمشق بتوزيعِ أراضٍ لكلِّ عائلةٍ، إلى جانب مبلغٍ بسيطٍ لبناءِ غرفةٍ أو غرفتين من أبسط المواد، فرفضَ جدي العرضَ الذي قدمته المؤسسة، في النصفِ الثاني من خمسينياتِ القرنِ العشرين، وهكذا تأسسَ مخيمُ اليرموك، ولم يكن لنا نصيبٌ فيه بقرارٍ من جدي، وبقينا نسكنُ بالإيجار، متنقلين من بيتٍ إلى آخر، ومن المزة إلى كفرسوسة.
لم يندم جدي لأنّه أنفقَ ما بحوزته من نقودٍ ولم يشترِ البيت، ولا لرفضه قطعةَ أرضٍ مجانيةٍ في مخيم اليرموك. سمِعتُه ذات يومٍ، وهو يتأوَّه ألماً يرددُ: “ليش ما رديت على أخوي محمود (أبو اسماعيل)، ورحت معه على الناصرة… ليش، ليش اجينا عالغربة، الناصرة بتضلها بفلسطين..” ويغلقُ الكلامَ بإحالةِ ما جرى لمشيئة الله.
كان عبدالله الولي عصبياً، خاصةً حين يسمعُ كلاماً لا يعجبه عن وقائع الحياةِ اليوميةِ زمنَ اللجوء، أو ادعاءٍ غيرَ صحيحٍ عن وضعِ هذا أو ذاك ” أيام البلاد”، قبل أن نصبح لاجئين مشتتين في أصقاعِ الأرض. مرةً، وفي يوم الانتهاء من استلام المؤن من مركزِ توزيعِ الإعاشةِ في المزة، وخلال جلسةٍ له مع نظرائهِ من الفلسطينيين، في فسحةِ أرضٍ عامةٍ، تُعرَفُ باسم “جنينة الناعمة” يرتادها الرجالُ للترويحِ عن أنفسهم بعيداً عن منازلهم الضيقة، جرى الحديثُ عن موادِ الإعاشةِ التي استلمها الناسُ، وكان يومُ الإعاشةِ عند جدي له تأثيرٌ متناقضٌ في نفسه، فهو يرتاحُ لتوفرِ موادٍ نقتاتها، ومخنوقٌ من اضطراره هو وأمثالُه من الرجال، للوقوفِ، كما كان يعبِّرُ، كالشحاذين، بعد أن كنّا في بلادنا مغمورينَ بالخيرات. في ذلك اليومِ قال أحدُ الرجال من أبناء بلدتنا، رداً على السؤال: ” كيف كانت المؤن اليوم؟”، ردَّ الرجلُ: ” الحمد لله، الله يديم هالنعم!”، مباشرةً أطلقَ جدي شتيمةً قاسيةً على ذلك الرجل، وقذفه بفردةِ حذائه” مشايته” كما كانوا يسمونها، وتوترَ جوُّ الجلسة، فغادر جدي مضطرباً وحزيناً، نحو بيته في البستان الذي قدَّمَ له صاحبهُ غرفةً مجانيةً فيه ليسكنها. ما كان من صحبه إلا اللحاقَ به، ومعهم الرجلُ الذي أهانهُ جدي، فقط لأنه قال : الله يديم هالنعم، عن مواد الإعاشة الشهرية للاجئين. كنت يومها حاضراً عندما جاؤوا، بكى الجميع، واعتذرَ جدي، ولعن الشيطان على ما فعله، وهدأتْ النفوس، ولم تتزعزع العلاقة بين جدي و بين “خصمه” الذي أخطأ خطيئةً لا تغتفر، بمديح موادِ الإعاشة.
اضطررنا أخيراً عام 1976، لشراءِ قطعةِ أرضٍ تقعُ في مثلث: كفرسوسة- المزة- داريا، لنبني عليها بيتاً للعائلة. وسميَّ الحيُّ، الذي نشأ في تلك المنطقة، حيّ “المهايني” نسبةً إلى صاحب الأرض التي أفرزها صاحبها، عدنان المهايني ( أبو غياث) للبيع، وكان نصيبنا منها ستُ قصباتٍ ونصف، حوالي 144 مترا مربعاً. كان جدي في هذا الوقت قد غادرَ الحياة 1964، وقبل مغادرته أوصى أمي، وكانت حاملاً، أن تسميَّ المولودَ إن كان ذكراً، عبدالله، بينما في مناسباتِ الحمل السابقة كانت أمي تعلن عن رغبتها بتسمية المولود باسمه فيرفض، وكأنّه كان يعرفُ بحدسه أنّه راحلٌ عمّا قريب. وبالفعل حين ولدت أمي طفلاً ذكراً أسمياه أبي وأمي عبدالله.
جدي لأبي عبدالله الولي، كان رجلاً عصامياً صلباً ونشيطاً، رغمَ أنّه بيدٍ واحدةٍ، ومتقشفاً عند الضرورة. وحين سمعت أمي وأبي يتحدثان عن مسدسِ جدي” الفرد”، راودني السؤال: كيف لجدي أن يلقّمَ “الفرد” وهو بيدٍ واحدة؟
ذلك السؤال قفزَ إلى ذهني في الطفولة المتأخرة، ونوع الفرد الذي كان يقتنيه، من أصعبُ الأنواعِ استجابةً للتلقيم (وضع الطلقة بحجرة الإطلاق). وكان يسمى عند عامةِ الناس فرد “أبو عجلين- دولابين”. وإن لم أكن مخطئاً، هو مسدسٌ ألمانيُّ الصنع، يسمى “بربلو”، وكان السلاحَ الشخصيَّ للضباط الألمان في الحربِ العالميةِ الثانية.
بيدٍ واحدةٍ، وبأسنانه يعوِّضُ عن اليدِ الغائبة، فيضعُ الدولابين بين أسنانه ويمسكُ بدنية الفرد باليد، ويسحبُ المغلاقَ بهم! هكذا أوضحت لي أمي عن طريقةِ جدي في تلقيم الفرد. تخيّلتُ جدي وهو يقومُ بهذا العمل، لكن دونَ يقين، ولولا أنني شاهدته وهو يحقنُ “البريموس” بابور الكاز بيده، مستعيناً، وهو جالسٌ على الأرض، ببطن قدميه، يقبضُ بهما على خزان الكازِ الصغيرِ للبريموس، وبيده يحقنهُ ليصعدَ الكازُ إلى ثقب الفاله، ومنها إلى الجرنِ الصغيرِ المثبَّتِ تحت رأس الببور، ماكنتُ قبلتُ أبداً فكرةَ تلقيمه لمسدسٍ أبو عجلين مستعيناً بأسنانه. ولكنني تأكدتُ أنَّ يداً واحدةً عند الضرورة تستطيع الكثير، ليس التصفيقُ كما يقولُ المثل، بل القيام بأعمالٍ كثيرة، تغنيه عن اليد التي أكلتها مدافعُ الإنجليز في الحربِ العالمية الأولى.
هاجسي “بالفرد أبو عجلين”، شكلهُ وآليتهُ وقوتهُ وميزاتهُ، بقي يلازمني إلى أن انتشرَ السلاحُ بعد هزيمتنا في العام 1967، بعد الهزيمة، أو بالأحرى خلالَ الحرب، تعرفتُ على أنواعٍ كثيرةٍ من السلاح، قبلَ الحربِ كنتُ أعرفُ ثلاثة أنواعٍ من السلاحِ الناري، البندقيةُ التشيكيّةُ نصفُ الآلية، التّي كنّا نتدربُ على استخدامها في درس “الفتوة” في المستوى التعليميّ الثانويّ. والرشاشُ الأوتوماتيكيُّ التشيكيّ “ساموبال”، ومثلهُ رشاشُ “بور سعيد” المصريّ، عرفتهما مع بدايات تشكيل المنظمات الفدائية، كوني أصبحت عضواً في “شباب الثأر” الفصيلُ المسلحُ للفرعِ الفلسطيني في حركةِ القوميين العرب، التي ارتبطت بحلقاتها الأولى أواخرَ العام 1964. وتعرفت أيضاً على أنواعٍ كثيرةٍ من المسدساتِ المتداولةِ في تلك الأيام، لكن “بربلو” أبو عجلين، مسدسُ جدي، الذي أخفاه تحت رمانةٍ في داره في بلد الشيخ، قبل الرحيل عنها، بقي مجهولاً لدي، اللهم إلّا صورته مع الضباط الألمان في أفلام السينما، التّي تصورُ بالتمثيل مجريات الحرب العالمية الثانية.
في بلده، كان جدي ميسوراً ولا يحتاج أن يعملَ حتى في أرضه، وابنُه الوحيد، أبي، كان مدللاً، لم يطلب منه جدي العملَ في فلاحة الأرض، كان يعطيها للمرابعين يعملون بها، ولهم حصةٌ والباقي لجدي. وهو دائمُ الاعتزاز بنسبهِ الأصلي، فهو باعتقاده ينتسب إلى “التميمية” نسبةً إلى الصحابي ” تميم بن أوس الداري”، وباعتقاد جدي أن الداري وليٌّ من أولياء الله، وكانت مكانته عظيمةً عند النبي محمد.
لقد التبس عليَّ منشأُ لقب عائلتنا (الولي)، هل هو نسبةً إلى تميم الداري، الوليُّ الصالح المقربُ جداً من رسول الإسلام، أم أنّه جاءَ، حسب رواية أخرى، حين نزل أحدُ جدودنا، لعلَّه جد جدي، مع حصانه في بحر حيفا، ولم يعد، وفسرت العائلة تلك الحادثة بأنَّ جد جدي، كان ولياً من أولياء الله، لم يغرق، إنّما شقَّ البحر، وهو على ظهر حصانه حتى وصل بلادَ اليمن.
وسوف يحدث خلافٌ، خلال إقامتي القصيرة في عدن، في عهد سلطة الحزب الاشتراكي اليمني، مع عضو المكتب السياسيّ للحزب (عبد العزيز عبد الولي)، فهو حين عرف اسمي ولقبَ عائلتي، بدت عليه علاماتُ الراحة، وعلَّق: “أنتم أصلكم من عندنا من اليمن…” فاعترضتُ وقلتُ له بل أنتم أصلكم من فلسطين، ورويت له قصةَ جدنا والحصان وضحكنا كثيراً.. ومازحته أين دفنتم جدنا وحصانه؟
حاولتُ اللقاء به (عبد العزيز عبد الولي) بعد الصراع الدمويّ على السلطة في 1986، والذي فجَّره علي ناصر محمد، لأنّ مؤتمرَ الحزب لم يأتِ مناسباً لطموحاته، وكانَ عبد العزيز في الصف المناوئ لناصر محمد، ويقفُ إلى جانب عبد الفتاح اسماعيل “أيقونةُ التجربةِ الثوريةِ بعد تحريرِ عدن من الاستعمار البريطاني”، فكان ضحيةً من ضحايا جماعة علي ناصر محمد، إلى جانب قادةٍ آخرين، ومنهم عبد الفتاح اسماعيل. وكم حزنت عليه، فلقد كان قائداً مثقفاً وواعداً، ومن أهم القيادات الثورية في الحزب الاشتراكي اليمني.
لأنّه فلاحٌ ومن فلسطين، كان جدي يقللُ من شأن مذاقِ ونكهةِ ولذةِ الخضارِ والفواكهِ في سوريا، مقارنةً بمنتجاتِ أرض فلسطين، فلا يشعرُ بالمذاقِ الذي تعوَّدَ عليه، خاصةً الحمضيات والموز” أبو نقطة”. وحسبَ قوله، وهو ما أكّده آخرونَ من الذين يعرفونَ حيفا وقُراها في تلك الأيام، أنَّ الخضارَ التي كانت تنتجها أرضُ بلد الشيخ كانت الأكثر تميّزاً في سوق الهال” الحسبة” في حيفا، وخصوصاً البامياء والقرنبيط والخس والسبانخ، ولتأكيد هذا التميّز يشيرون إلى الفارق بين أسعارها وبين أسعار مثيلاتها من منتجاتِ القرى الأخرى.
جدي وأبي يعاركان الصخر.
ذات صباحٍ -كما حدثتني أمي بعد عدة سنواتٍ- نادى جدي على أبي: يا عبد الواحد، وعلى مسامع أمي وجدتي لأبي، قال له: اسمع ياأبوي، ما عاد فيها صبر، لازم نشوفلنا شغلة، مش باقي معنا إلّا خمس ليرات “جنيهات”، وما بيكفونا كم يوم. وبعد أن قال ما قال، أجهش في البكاء. صعدَ جدي إلى سفوح جبل قاسيون، وكانت الهيئةُ العامةُ للفلسطينيين في بداية نشوئها، وهي التي أشرفت على تسجيل أسماء الرجال، اللاجئين، والراغبين بالعمل. كان تشجيرُ الجبل مهمته مع عمالٍ آخرين. وصعد أبي إلى سفوح جبال المعضمية (معضمية الشام)، ليفتت الصخورَ التي تستخدمُ لأغراضِ البناء، وأشغالٍ أخرى كثيرة.
لا مهنةَ لأبي، فهو الابن الوحيدُ لجدي، بلا أخوة أو أخوات، والأرضُ الغنية، محصولها كان يزيدُ عن حاجةِ الأسرة للاستهلاك، وكانَ الادخارُ من كل موسمٍ يضعُ عشرات الجنيهات في مدخرات جدي. ولعلّه لهذين السببين “الولدُ الوحيدُ والادخارُ من ثمن المحاصيل”، عززا موقفَ جدي عبدالله في رفضه لاقتراحين قدمهما له أخوه غير الشقيق، مصطفى السهلي، الأوّل: أن يلتحقَ أبي بالبوليس الذي تشرف عليه بريطانيا، وكانت مداخيلُ المنتسبين له عالية. وحُجةُ جدي لتبرير رفضه هذا، أنَّ رجلَ البوليس يُلحقُ الأذى بالناس، ولا يرحمُ حتى أقربَ المقربين له. والثّاني: أن يتدربَ أبي على قيادةِ القطار، وهي مهنةٌ جيدةٌ في ذلك الوقت، لكن عبدالله جدي برَّرَ رفضَه أيضاً بفكرةِ: إنَّ سائق القطار له قدمٌ في القبر والأخرى في السجن. وكلّما تذكرتُ رفض جدي اقتراحَ أخيه غيرِ الشقيق، مصطفى السهلي، تعليمَ ابنه “عبد الواحد” أبي، قيادةَ القطار، ألومُ جدي. واليومُ حيثُ القطاراتُ في ألمانيا التي قَدمتُ إليها في العام 2015، هي وسيلةُ النقلِ الأساسية. أتذكرُ، مع بعض الأسى، كيف حرمني جدي من أن أكونَ ابناً “لسائق- قائد- قطار”، وتراودُ خيالي على الفور فكرةَ “أنني كنت سأرثُ عن أبي تلك المهنة”، فأنا مسحورٌ بالقطاراتِ منذ طفولتي، لسببٍ لا أعيه، ولا أستطيعُ تفسيره، وكم كنتُ أرددُ وأنا في الصف الأوّل، عبارةً من دروسِ القراءة: “سافرَ قطارُ درعا”. فأكتفي بالتحدثِ إلى نفسي: “سامحك الله يا جدي، لماذا رفضت امتهانَ ابنك- أبي، مهنة قيادةِ القطارات؟، وكأنني متيقنٌ أنَّه لو فعلها في حينها، أربعينيات القرن العشرين، كنتُ سأرثُ تلك المهنةَ التي تدهشني وتسحرني!
عبدالله، جدي وبالدارجة الفلسطينية “سيدي”، لم تكن قسوةُ العملِ وصعوبتُه عليه، وهو بيدٍ واحدة، هي السببُ في ألمِهِ ووجعهِ، ولا في ديمومةِ أحزانهِ، حتى أنني لا أتذكره قد ضحكَ إلّا مراتٍ معدودةٍ، وكم من مرةٍ اكتشفتُ ممارسته للضحك وحيداً بمفرده وهو ساهمٌ وغارقٌ في التأملِ أو التذكّر. وحين يكتشفُ أنني أمسكتُ به ضاحكاً، يقطعُ ضحكته ويعيدُ شدَّ خطوطِ وجههِ بعد استرخاءٍ اختلسهُ في غفلةٍ، ظنَّها ستطول.
كان ألمه ووجعه وحزنه أن حوَّلته” النكبة” والهجرة عن الأرض، من مَلَّاك أراضٍ في سفوح أطراف الكرمل في حيفا، في قرية بلد الشيخ، إلى ما يشبهُ شجرةً اقتلعت من تربتها، لكنَّ جذورها بقيت بمكانها، فلا بدَّ للجذع والأغصان من الذبول وحتى اليباس. وكلما أحسَّ عبدالله بهجمةِ قحط ويباس، يشرعُ بالبكاء بمفرده، وكان يختلي بنفسه للنجاحِ بهذه الرياضة “الممتعة”.
منذ تفتح وعيي، في الثلث الأول من الخمسينيات، وحتى رحيل “سيدي” عبدالله في العام 1964، امتلأت مساحة الزمن بتفاصيلٍ وقصصٍ وحوادث، لا يغيبُ عنها اثنان: جدي لأبي، عبدالله الولي، وأمي، صبحية مرشد زيدان، فأبي الذي كان يفتتُ الصخرَ في جبال المعضمية، ثم انتقل للشغل في معمل لصناعة البلاط، في المزة، لصاحبه (بهجت عبيد)، ومنه إلى العمل في الشركة الخماسية، ابتداءً من العام 1959، وأمضى الوقت الأطول من حياته العملية في تلك الشركة، قبل أن يستقيلَ ليحصلَ على تعويضه، ويجدَ فرصة عملٍ في أحد مكاتبِ منظمة التحرير في دمشق، فكان وقتي الذي أقضيه معه هو الأقل، ولكنّه وقتٌ مؤثرٌ، فرحاً يقطفه الطفل، من رفقته لأبيه أيامَ الجمعة، في أسواق مدينة دمشق، وسوق الحدادين خاصةً، هناك حيثُ “يسقي الفولاذ”.
أمضى والدي أربعَ سنوات على الأقل، على الطريق بين تفتيت الصخر وبين “سقي الفولاذ”. ستةُ أيامٍ في معاركة الصخر، ويوم العطلة “الجمعة” لسقي الفولاذ، ليعاود “الرج- المخل- الشوكة” فعاليته في معاركة الصخر، وفتح الشقوق فيه، ووضع البارود فيها وإشعال الصاعق، لتفجير الصخور الكبيرة، ثمَّ تفتيتها من جديدٍ، وهكذا.
كنتُ أعرفُ وقتَ عودته من الجبل، حيثُ العمل بالصخر، لكن وقت ذهابه لا أعرفه، لأنَّه يخرجُ من البيت عند آذان الفجر، قبل أن يكونَ الفجرُ بالنسبة له موعداً لصلاة الصبح.
فهو لم يكن ملتزماً بالصلوات الخمس، وتأخرَ عن أداء فريضة الصلاة، وكم كان جدي المؤمن، والذي لا يقطع فرضاً، يُلِحُ عليه لعبادة ربّه ولم يفعل. كان جدي يتذمّر منه لأنّه لا يهتم بالصلاة، شغفه كان حضورَ أفلام السينما، وشراءَ المجلات، والفرجةَ على مباريات كرة القدم.
في حيفا كانت سينما “عين دور”، والمجلةُ كانت “البعكوكة”، أمّا في سوريا فاستبدل بسينما دمشق سينما عين دور، مُكرهاً، وبمجلةِ المصور مجلةَ البعكوكة. وسوف يُقلِعُ عن هوايةِ السينما، بعد تهديدٍ تعرضَ له من كائناتٍ لا يعرفها، تشبه رجالَ الشرطة، وتركبُ موتسيكلات سريعة، وتضعُ على رؤوسها خوذاً بيضاءَ، أو ما يشبه الخوذَ كغطاءٍ للرأس، كيف وأين ومتى أمسكوه من كتفيه، ماذا قالوا له، أو ما هو طلبهم منه، لم يعرفه، ولم يخبر أمي، التي بدورها هي التّي روت لي الحادثةَ تلك.
مطلعُ الروايةِ،” الحلم” حسبَ أمي، أن أبي استيقظ قبل المغرب، في يومٍ صيفي حارٍ، كان قد أمضاه بين الفولاذ والصخر، وطلب منّها أن تملأ له إبريقَ الماءِ المخصصِ للوضوء. تفاجأت أمي، لكنها ارتاحت، وهي بدورها تنقلت في تلك اللحظات، خلالَ تحضيرِ إبريق الوضوء، بين الحلم والواقع.
توضّأ وصلَّى صلاةَ العصر، ومن يومها لم يقطعْ فروضَ الصلاة، إلّا حين دخل في حالةٍ مرضيةٍ صعبة، لم يعد معها قادراً على الصلاة(1991).
لكنّه واصل شراءَ مجلة المصوّرِ المصرية وجريدة الأهرام اليومية أحياناً، وزاد عليهما مجلةَ العربيّ منذ صدورها عن وزارةِ الثقافةِ الكويتية. أما السينما فطلّقها للأبد.
طلَّق السينما، لكنّه واظبَ على هوايتين: اقتناءُ المجلات مع اختلاف أسمائها بعد اللجوء ومغادرة حيفا، و عشقه لكرةِ القدم منذ يفاعته، ولم تكن مباراةٌ واحدةٌ تفوته مشاهدتها في ملعب حيفا. وسأعرفُ من رجالٍ عايشوا تلك المرحلة، أنّ أبي كان له “مقعدٌ حجري” على طرف الملعب في حيفا،
(فالملعبُ دون مقاعد أو مدرجات للمتفرجين) لم يكن يقترب منه أحد، حتى عندما يتأخر عن الوصول إلى الملعب قبل بدءِ المباراة، إن جلسَ أحدٌ على الحجر، وهو لا يعرف قصته، يأتي من يقول له: هذا “لأبو الجرايد”، كانت عادته حملُ جريدة من تلك الأيام، يقرأ بها قبل بدءِ المباراة، وإن بدأت يضعها تحته فوق “مقعده الحجري”. كان اللاعب الساحرُ الذي يعشقه من أيام حيفا، هو الفلسطيني المسيحي ابن حيفا “جبرا الزرقا”. لذلك لم يتغير موقفه وهو يرى لاعبي الكرة على أرض الملعب البلدي في دمشق، لا يعجبه منهم أحداً مقارنةً مع جبرا الزرقا. وسوف تمضي العقودُ، وأمضي للاهتمام بالروايات والكتب، ليفاجئني، وهو يرى كتاباً بين يديَّ بسؤال: “شو عم تقرأ يا مصطفى”، ذكرتُ له اسم جبرا، دون تفصيل، فكان مسروراً لأنّه ظنَّ أنّ الكتاب عن لاعبه المفضل جبرا الزرقا، ولمّا عرف أنّ الكتابَ روايةٌ لجبرا إبراهيم جبرا، قطّبَ حاجبيه، وصمتَ، واستدارَ ليخرجَ من غرفتي. والأكيدُ أنّه كان يرغبُ بكتابٍ عن اللاعب الأسطورة الذي كانت حيفا وفلسطين تشهد له كمعجزةٍ كرويةٍ قبل معجزتَيّ “بيليه” البرازيلي، والمجري “بوشكاش”. حاول أبي إيجادَ معادلٍ للنجم الساحر، جبرا الزرقاء، في الملعب البلدي بدمشق، فاقتربَ من ذلك بحبّه لعددٍ من اللاعبين، وأوَّلهم عزمي حداد، قلبُ الدفاع في نادي بردى الدمشقي، وفي فريق الجيش، وأحمد عليان الجناح الأيسر في نفس فريق النادي، الملقب “أبو سليمة”. ومثلهما كان لاعبون آخرون يحبهم، فؤاد أبو غيداء، لاعبُ الدفاع المتميّز في نادي الشرطة والنادي الأهلي، وحارسُ مرمى الفريقين المذكورين، مروان كنفاني، وقلب الهجوم في نفس الناديين، إبراهيم المغربي. وبالمصادفةِ، وربما تواطؤاً مع رغبةٍ دفينةٍ، ينتمي اللاعبون الخمسةُ المذكورون “لجنسية اللاجئ”. ولولا أنّ جمهورَ كرةِ القدمِ السوري كله كان يقدرُهم كأفضل اللاعبين، لتسلل إلى ذهني أنّ حبَّ أبي للاعبين الخمسة المذكورين، هو نتيجةُ انحيازه “لأبناء جلدته” اللاجئين الفلسطينيين.
“لكنه لم يعثر في دمشقَ على جبرا الزرقاء”
واظبَ على حضور كلّ مباريات كرة القدم في الملعب البلدي بدمشق، لم تفُتهُ واحدةٌ منها، ولذلك كان لا بدَّ أن يكون حاضراً وشاهداً على حادثة اغتيال العقيد الدمشقي عدنان المالكي، في 22 نيسان من العام 1955، فالعملية تلك تمت خلال مباراةٍ في الملعب البلدي كان المالكي راعياً لها. بين فريقي الجيش السوري، وخفر السواحل اللبناني. بعد مشاهدةِ المالكي يسقط مضرجاً بدمائه، وما تبِعَ ذلك من رشقاتِ رصاصٍ مختلفةِ المصادرِ والأهداف، دبَّ الهلعُ بمشاهدي المباراة، فهرعوا في غير اتجاهٍ لمغادرةِ الملعب، خاصةً وأنَّ الشرطة العسكرية ومرافقي المالكي بدأوا باعتقالاتٍ عشوائيةٍ، بينما نجا والدي من الاعتقال، ووصل راكضاً من الملعب، عبر منافذه غيرِ الرسمية، ليصل إلى الطريق المؤدي إلى المزة، من اتجاه البرامكة – الجمارك، ولم ينتظر الباص، فدخل البيت ووجهه يرتدي أكثرَ من لون، أصفرَ وكحلي شاحب، وعينين حمراوين زائغتين، وحلقٌ جافٌ دلَّ عليه تكرارُ الشرب من إبريق الماء، ثم نام.. دون أن يعلم ما جرى ومن المستهدف ومن هو الجاني وماهي الأهداف السياسية العليا من اغتيالِ شخصيةٍ عسكريةٍ، معروفةٍ بولائها للفكرة القوميةِ العربية، البعثيون ينسبونه لهم!
في عهد الوحدة المصرية السورية، انحاز عاشقُ جبرا الزرقا إلى كرة القدم المصرية، وكان يشجعُ النادي الأهلي، الذي ينافسه تقليدياً نادي الزمالك، دون أن يتخلى عن تقديره البالغ للاعبين الفلسطينيين الخمسة، المنخرطينَ في ناديي الأهلي وبردى الدمشقيين.