أدب المهجر

إعداد محمود أبو حامد

((لقد ألقت بنا الرياح على شواطئك مكرَهين))

ضمن الفوارق بين المنفى والاغتراب والغاء المسافات والجغرافيات..

لماذا لم يشكل أدباء الشتات تياراً كشعراء المهجر ؟

يرى البعض إنه من الصعب اليوم وضع تخطيط لمعنى المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات واللجوء والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي من جهة، ومن مسارات الرحيل الطوعي أو الهجرة بحثاً عن الحرية أو الرغبة في الرقيّ بأوضاع المعيش من جهة ثانية.

ويؤكد آخرون أنه علينا التمييز بين المنفى والاغتراب، فالأول مفروض، حيث لا يستطيع المنفيُّ العودة إلى وطنه الأم حتى لو رغب في ذلك، أما الثاني فهو اختياري نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأيّ سبب من الأسباب..

فهل تسمية  “الأدب المهجري” تتوافق مع الراهن العربي وتشرد الأدباء في المنافي القسرية لا المهجر الاختياري؟ وكيف يمكن أن تهاجر كل هذه الآلاف من الأدباء والمثقفين وتعجز عن أن تجد غرساً في بيئتها الجديدة؟. والا يبدو مصطلح “المهجر” ومفهومه  أقل إيلاماً في تصوير الحالة من مصطلح “المنفى” الذي تلاه وهو إجباري؟  ومع تعدد مَهاجر اليوم قارّياً، أليس لم يعد بالإمكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي؟

أدب المهجر

يُطلق اسم شعراء المهجر عادة على نخبة من أهل الشام وخاصة اللبنانيين المثقفين الذين هاجروا إلى الأمريكيتين (الشمالية والجنوبية) في ما بين 1870 حتى أواسط 1900، وقد اعتاد الناس تسمية أعضاء الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية بشعراء المهجر، بينما في الواقع هناك الكثير من الشعراء المهاجرين الذين لم يكونوا اعضاء في تلك الروابط والنوادي الأدبية.

الرابطة القلمية

بدأت فكرة الرابطة القلمية عام 1916 إلا أنها تأسست رسميا عام 1920 في نيويورك على يد نخبة من الأدباء. في كتابه “جبران ـ حياته، موته، أدبه، فنّه” ذكر ميخائيل نعيمة أن الرابطة “تأسست بعد جلستين، عُقدت أولاهما في منزل عبد المسيح حداد، مالك ورئيس تحرير جريدة “السائح” النيويوركية العربية، بتاريخ 20 أبريل (نيسان) 1920″. وورد في محضر هذه الجلسة التي دوّنها نعيمة بيده على حد تأكيده، أن “أحدهم رأى أن تكون لأدباء المهجر رابطة تضم قواهم وتوحد مسعاهم في سبيل اللغة العربية وآدابها. فلاقت الفكرة استحسان كل الأدباء الحاضرين وهم: جبران خليل جبران، نسيب عريضة، وليم كاتسفليس، رشيد أيوب، عبد المسيح حداد، ندرة حداد، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي… وفي 28 منه، عقدت الجلسة الثانية والحاسمة في منزل جبران بحضور الأدباء، الذين حضروا الجلسة التمهيدية، إضافة إلى الأديب الفكه الياس عطا الله. تمت الموافقة على دستور الجمعية، وانتخب المؤسسون جبران عميدا للرابطة، وميخائيل نعيمة مستشاراً، ووليم كاتسفليس خازناً، وكلفوا نعيمة مهمة تنظيم قانونها.

العصبة الاندلسية

ادباء المهجر الجنوبي ، هم من هاجر إلى مناطق أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك وفنزويلا وأسس مجموعة من الأدباء هناك ما سمي بالعصبة الأندلسية. ومن أعضاء هذه العصبة : ميشيل نعمان معلوف. فوزي المعلوف. رشيد سليم الخوري. شفيق المعلوف. جورج صيدح. إلياس فرحات. عقل الجر. شكر الله الجر. جرجس كرم. توفيق قربان. اسكندر كرباج. نظير زيتون. مهدي سكافي. عمرعبيد. ايليا أبو ماضي. ويارا الشلهوب.

مهجر أم منفى؟

يرى البعض أن المؤثر المتوقع من إقامات الشعراء والأدباء في حواضنهم الحياتية الجديدة قد ضعف أو غاب، وظل أغلبهم متفاعلين مع ثقافات بلدانهم الأولى، لا على الطريقة المهجرية الأولى بالبعد والموسمية، بل بحضور لافت تعززه الطفرة الرقمية الهائلة التي تلاحقت في عقود الهجرة ما بعد السبعين، وألغت المسافات والجغرافيات.

والمثاقفة الشعرية المؤمَّلة مع الآخر ظلت في سياقها ما قبل الهجرة: هي احتكاك مرتَهن بالخوف والاستغناء، وتثاقف خجول لا يظهر في مَعِدات الشعراء التي تتمثله، وتعيد تمثيله كما ينبغي.

 يرى الشاعر نوري الجراح أن الشاعر وحده، برؤاه المغامرة، بغضبه، بانحيازه المطلق إلى جانب الحرية والمقاتلين لأجلها، قادر على اجتراح معجزة العثور على كلمات جديدة. ولكنه، في حالة الشاعر الذي كتب قصيدته بلغة عربية جعلتها مفردات المنفى مبهمة لقارئ عربي، ولغة عربية لا قاموس يفسّرها لأصحاب المنفى، سيبقى أبدا سارق النار المنفيّ مرتين، والمعلّق الخالد على أخدود العالم ونسر الاغتراب يأكل قلبه وكبده وعينه الرائيتين.

يؤكد الناقد حاتم الصكر أن مصطلح “المهجر” ومفهومه يبدو أقل إيلاماً في تصوير الحالة من مصطلح “المنفى” الذي تلاه. وهو إجباري يجد المرء نفسه مرغماً على اتخاذه مقراً، وقد تداوله أدباء شردتهم السياسة في أوطانهم.

وينتهي الصكر إلى التأكيد على أن مَهاجر اليوم تعددت قارّيا، ولم يعد بالإمكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي، فالمهاجرون الجدد وصلوا إلى دول آسيوية قصيّة وأخرى أفريقية.. ولكن الجديد في الحالة المعاصرة هو التواصل الشديد الذي منحته وسائط الاتصال بالأوطان وثقافاتها.

ويعتقد الناقد عبداللطيف الوراري، أن بوسعنا اليوم النظر إلى المنفى، كما يرى منظّرو ما بعد الدراسات الاستعمارية، في اتّجاهين مختلفين: منفى مفروض وآخر اختياري، مُميِّزين بين المنفى والاغتراب، فالأول مفروض، حيث لا يستطيع المنفيُّ العودة إلى وطنه الأم حتى لو رغب في ذلك، أما الثاني فهو اختياري نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه لأيّ سبب من الأسباب. ومن الصعب، في رأيه، اليوم أنْ نضع تخطيطا لمعنى المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي من جهة، ومن مسارات الرحيل الطوعي أو الهجرة بحثاً عن الحرية أو الرغبة في الرقيّ بأوضاع المعيش من جهة ثانية.

ويقف الناقد ممدوح فراج النابي، على نقل الروائيين العرب تجربة المنْفَى إلى المجاز، استجابة لميراث عريض يُحرِّض المقموعين على المواربة والتعريض والتورية، وبصورة أجمل إلى التقيَّة.

ويحلل النابي نماذج دالّة من هذه الكتابات التي أنهكها الحنين والبحث عن أوطان بديلة، وأيضا الذين يعيشون في أوطانهم (المنفيون في الداخل) وثمة مسافة زمكانية تفصلهم عنها، وتجعلهم يشعرون بالحنين إليها، ومن ثمّ صَارت صورة الوطن تتراوح بين مجرد حُلم، وبين مجرد كذبة بيضاء. أو حتى بين مجرد سؤال لا جواب له.

ويستأنف الناقد عبدالله إبراهيم، التذكير بأنه آن الأوان لتنشيط جدل ثقافي ينتهي بإحلال عبارة “كتابة المنْفَى” محل عبارة “كتابة المهجر”، بعد مرور أكثر من قرن على استخدام مصطلح “أدب المهجر”. وحجّته في ذلك أنّ كتابة المنفَى مزيج من الاغتراب والنفور، وتراوح في منطقة الانتماء المزدوج إلى هويتين متباينتين، ثم، في الوقت نفسه، عدم إمكانية الانتماء لأي منهما، وهي كتابة كاشفة تقوم على فرضية تفكيك الهوية الواحدة، وتقترح هوية رمادية مركّبة من عناصر كثيرة. ويختلف “أدب المنفى” عن “أدب المهجر” اختلافا واضحا، كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفِيّ في العالم الذي أصبح فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره.

الفشل في الاندماج

يتساءل الناقد مولود بن زادي  عن كيفية تمييز الأدب المهجري من المحلي في المهجر، فالأدب المهجري أوسع من أن يُحصر في إطار مكاني أو زماني ضيق. فهو جغرافيا واسع سعة العالم الذي نحيا فيه ونرحل في أرجائه، وتاريخيا قديم قدم الأدب الذي ورثناه عن أجداد معروفين بترحالهم منذ قديم الزمان. ويتواصل هذا الأدب اليوم بعيدا عن الأضواء في كامل بقاع الدنيا معبراً عن مشاعر عميقة صادقة صقلتها حياة مختلفة في بيئة جديدة، تشارك فيها أقلام متأثرة بالحياة فيها، تحيا فيها الهجرة بأدق معانيها.. أقلام اكتشفت بين أهاليها -من أجناس بشرية وانتماءات دينية مختلفة- أسمى معاني الإنسانية، فطبع كل ذلك كتاباتها وميزها من مؤلفات الأوطان.

يقول الناقد لونيس بن علي إن إيطاليا تتحول في رواية عمارة لخوص “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك” إلى الذئبة التي وردت في أسطورة تأسيس روما، والمهاجر إلى ابنها غير الشرعي، فكيف له أن يرضع منها دون أن تلتهمه؟ سؤال ذكي طرحته الرواية ابتداء من عنوانها. ويستمر لخوص في روايته “القاهرة الصغيرة” في النهج نفسه، أي الكتابة عن المهاجرين العرب في إيطاليا، وهذه المرة في حي يقطنه المهاجرون يسمّى بالقاهرة الصغيرة، حيث تحول الاندماج، إلى مهمة أمنية، تقتضي تحول البطل من هوية إيطالية إلى شاب تونسي ومسلم.

ويقدم الناقد مفيد نجم، قراءة في عناوين الأعمال الروائية التي نشرت خلال سنوات الانتفاضة السورية الماضية، مثل روايات عبدالله مكسور “أيام في بابا عمرو”، “عائد إلى حلب” و”أبناء البحر” وروايتي شهلا العجيلي “سماء قريبة من بيتي” و”صيف مع العدو”، ورواية “مدن اليمام” لابتسام تريسي، و”تل الورد” لأسماء معيكل، و”خمارة جبرا” لنبيل ملحم، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة، و”زئير الظلال في حدائق زنوبيا” لسليم بركات، ولا ماء يرويها” لنجاة عبدالصمد، و”قميص الليل” لسوسن حسن و”وادي قنديل” لنسرين خوري.

ويرى نجم أن عناوين هذه الروايات يمكن أن تشكل مدخلا لهذه القراءة بحمولاتها الدلالية الهامة، لاسيما ما يتعلق منها بالدوافع العميقة التي تتولد عنها هذه الدلالات والمعاني على المستويات الوجودية والإنسانية والسياسية أيضاً.

أما الكاتبان سعيد خطيبي وحميد زنار، فيكتبان عن تجربتيهما في بلدين أوروبيين، الأول في سلوفينيا، حيث لا يشعر فيها أنه مهاجر، ويزاول عمله نفسه كما كان في الجزائر، ويكتب كما كان سلفا عن قضايا تشغله في التّاريخ، وفي تراكمات ما بعد الكولونيالية. والثاني في فرنسا، مؤكدا أنه تحرّر في المنفى من الجاذبية الثقافية المحلية، ونافيا وجود أدب أو فكر مهجري له خصائصه كما كان سائدا في الماضي، وأن الفصل لم يعد ممكنا، فابستطاعتك أن تجد في عز الغرب لدى المهاجرين والمنفيين فكرا أصوليا متخلفا بينما تعثر في بلدان الشرق على فكر حداثي راق.

يقول هيثم الزبيدي: لا أعرف إن كان بوسعنا الاستمرار في استخدام مصطلح “الاغتراب الأدبي” لقد مرّ على وجودي في المهجر أكثر من 30 عاما، وأستطيع أن أدّعي أن الأدب في الغربة كائن غير موجود. ويرى الزبيدي أن المصطلح لكي يصح ويستقيم استخدامه ينبغي أن يكون هناك “مغترب أدبي” لكي ينتج أدبا مغترباً، في حين أن البيئة التي يعيش فيها “الأديب” و”المثقف” المهاجر، أو المهجّر أو المزاح جغرافيا، هي بيئة بعيدة كل البعد عن فكرة الاغتراب بالمعنى الكلاسيكي، أي الانتقال جغرافياً وفكرياً إلى بيئة جديدة، ثم الكتابة الواعية عن روح أدبية أو فكرية أو ثقافية غرست في أرض جديدة. القليلون من الاستثناءات لا يمكن أن يعدّوا ظاهرة، بل السؤال الأصعب والأكثر إثارة للقلق: كيف يمكن أن تهاجر كل هذه الآلاف من الأدباء والمثقفين وتعجز عن أن تجد غرساً في بيئتها الجديدة؟.

التجربة العراقية

في نهاية السبعينات، يمم كثير من أهم أدباء وشعراء العراق شطر مدن الشتات والمنافي في دول العالم المختلفة، بسبب سياسة القمع التي تعرضوا لها من قبل النظام آنذاك، وأعقبت هذه الهجرة هجرة أخرى بداية التسعينات بسبب الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تسببت بها سياسة النظام.

أكثر من أربعين عاماً من النفي والاغتراب لهؤلاء تجعلنا نتساءل: هل شكل هؤلاء الأدباء والشعراء في مدن الشتات والمنافي التي رحلوا إليها، قسراً أو طوعاً، مذهباً أدبياً كما حصل لأدباء المهجر اللبنانيين خاصة؟ سؤال طرحناه على اثنين من الشعراء واثنين من النقاد الذين واكبوا التجربة الشعرية العراقية، قراءة وتحليلاً، منذ ما يقرب من نصف قرن، لنقف على رأيهم بذلك.

حاتم الصكر (ناقد يقيم في أميركا): غياب المؤثر المتوقع

كثيراً ما تتم مقايسة تجربة الاغتراب والهجرة بحالة أدباء المهجر. هنا، نتحدث عن مغتربي ما بعد التسعينات، الزمن الانفجاري لمعدل الفارين من جحيمات أوطانهم لأسباب تختلف، ويجمع أصحابها واقع مستجد واحد: أن تكون مزروعاً في وقت اكتمال متأخر في تربة أخرى؛ قانون لا ترضاه الطبيعة لأحيائها، وتواطأ عليه البشر الذين ذاقوا الكأس مرغَمين، كأنهم كانوا يرددون مقولة عوليس وهو يطوي المدن الغريبة (لقد ألقت بنا الرياح على شواطئك مكرَهين). وشخصياً، ركنت قليلاً لثنائية المقايسة (المهجرية الأولى – المهجرية الجديدة) في كتابي «تنصيص الآخر»، حيث درست المثاقفة المهجرية بصفتها أحد أنماط المثاقفات الممكنة. وكما حدث في السؤال الآن، فقد قايست مهجرية الأوائل بشعر المهجرية الجديدة تحديداً. ولم أبحث في مهجرية الكتاب، (كالروائيين والقاصين) ولا الفنانين، لأن أبرز من نتوقع استجاباتهم ويرصدها المتابع هم الشعراء، أولئك الضحايا المعذبون بأنين إيقاعات قصائدهم، ومراياها الصورية والدلالية، فضلاً عن سرعة الاستجابة بحكم طبيعة الشعر وآليات كتابته.

لقد أسهم المهجريون الأوائل الذين تفاعلوا مع ما في أوطانهم الأصلية في تجديد الشعر والتمهيد لحداثته، وكان نتاجهم الشعري أوضح أثراً من النتاج السردي المتواضع. لكن المغتربات ما بعد السبعينات خضعت لمؤثرين شديدي الأهمية: تنوع ثقافة المهاجرين الجدد، وصلتهم بالآخر عبر القراءة المتاحة والثقافة البصرية، بما لم يكن ممكناً من قبل، ووثوق صلتهم بأرحامهم وثقافاتها بفعل التواصل الذي أمنته وسائط الاتصال والتقنيات المتلاحقة الجديدة في العقود التي وافقت هجرتهم. لقد زال أبرز دواعي الحنين الرومانسي المفرط، كما قلت أو انعدمت غالباً الصلة بالمكان الجديد وثقافته، أو عبر لغته، لأن ذلك لن يضيف لهم كثيراً -في بلدان الثقافات الأنغلوسكسونية والفرانكفونية. وفي بلدان مستجدة الحضور في ثقافة المهاجرين، كدول إسكندنافيا وبعض دول أوروبا، لم يستطع المهاجر -إلا في حالات نادرة محدودة- أن يخترق جدران عزلة تلك اللغات التي يوصَف كثير منها بأنه مما يُرمى عند الحدود، بحسب المثل الشائع.

لقد غاب المؤثر المتوقع من إقامات الشعراء والأدباء في حواضنهم الحياتية الجديدة، وظل أغلبهم متفاعلين مع ثقافات بلدانهم الأولى، لا على الطريقة المهجرية الأولى بالبعد والموسمية، بل بحضور لافت تعززه الطفرة الرقمية الهائلة التي تلاحقت في عقود الهجرة ما بعد السبعين، وألغت المسافات والجغرافيات.

المثاقفة الشعرية المؤمَّلة مع الآخر ظلت في سياقها ما قبل الهجرة: هي احتكاك مرتَهن بالخوف والاستغناء، وتثاقف خجول لا يظهر في مَعِدات الشعراء التي تتمثله، وتعيد تمثيله كما ينبغي.

مرحلة انتقالية

فاضل ثامر (ناقد يقيم في بغداد): لا تأسيس جديداً

ثمة فوارق كبيرة بين المرحلتين، ولا يمكن المقايسة بينهما. بالنسبة لشعراء المهجر الأوائل، ظهروا في مرحلة انتقالية لإعادة تشكيل الذائقة الشعرية العربية النيو-كلاسيكية والرومانسية في حاضنة المهجر الغربي المترفة، ومؤثراته الثقافية المختلفة. ولذا أسسوا لمسارات شعرية عربية جديدة اقترنت بطابعهم الخاص. أما بالنسبة لشعراء المنفى والمهجر العراقيين، فقد واصلوا الإضافة والابتكار معاً، داخل إطار شعرية حداثية شبه متكاملة، ولها شعريتها الخاصة، متأثرين بالطبع بالعوامل الثقافية الجديدة للاتصال والتثاقف. وبذا، فتجربة شعراء المنفى تمثل إغناءً وتجذيراً لاتجاهات التجربة الشعرية العراقية والعربية، بدءاً من مرحلة الريادة الشعرية الحداثية الخمسينية والتجارب اللاحقة في الستينيات، ومنها ترسيخ مشروع قصيدة النثر وكشوفات الألفية الثالثة. وبكلمة واحدة، فإن عطاء شعراء المنفى والمهجر جزء عضوي من تجربة الحداثة الشعرية العراقية، بكل ما لها وما عليها، ولا يمكن الزعم أن هذا العطاء شكل مفارقة أو تأسيساً جديداً، كما هو الحال بالنسبة لشعراء المهجر الغربي السابقين.

باسم فرات (شاعر يقيم في الخرطوم): لم ينتجوا تياراً

أقولها بألم: لم يشكلوا مذهباً، ولا أثر للبيئة الجديدة في التجارب الشعرية العراقية في المنافي والشتات إلا في حدود ضيقة، وأعتقد أن السبب يكمن في الشعور العلني أو المضمر بالاقتلاع عند الشعراء العراقيين، وهذا الشعور له سطوة تمنع الواقع تحت تأثيره أن ينغمس ويتماهى مع البيئات الجديدة، فيحاول أن يرمم «فردوساً مفقوداً» في مخيلته، وهذا بدوره يؤدي إلى إزاحة البيئة الجديدة بعيداً، لأن الهم الشعري مهووس بالبيئة القديمة، ولا فرق بين مَن عبروا الحدود بلا جواز سفر أو الذين غادروا البلاد بجوازات سفر، لأنهم لم يخرجوا بطـراً، إنما خرجوا بسبب حاجتهم الماسة لهواء الحرية، وللمضايقات التي تعرضوا لها، أو لأسباب أخرى.

حتى أولئك الذين نجد حضور البيئة الجديدة في شعرهم، فهو حضور فقير هش سطحي لا يحمل منتجات الذاكرة، ولم ينتج لنا تياراً يثري المشهد الشعري العربي، وهذا الكلام لا يقلل من المنجز الشعري العراقي في المنافي والشتات، فكثير منهم أصبحت له بصمة خاصة في الشعر العربي، لكنهم مع ذلك لم يُشكلوا تياراً واضحاً، تياراً يجلب مريدين ومتأثرين ومقلدين، ويُغري النقاد والدارسين، فيكون لهم الفضل في إنتاج مدونة نقدية تحلل وتفكك وتدرس منجزهم الشعري، حتى عاب أحد النقاد على شعراء المنافي العراقيين أنهم يكتبون وكأنهم لم يُغادروا العراق، وكأنهم لم يزرعوا ذكريات في المنافي، ولم يزدادوا وعياً وخبرة وتجربة وثقافة. وشخصياً، حين أقرأ لهم -والحديث هنا عن الغالبية- أجد حتى قصائدهم التي فيها أجواء المنفى الجديد إنما هي صورة ضوئية (فوتوغرافية) الشاعر ليس فيها؛ بعبارة أخرى، إنهم يكتبون ليس من داخل الثقافة الجديدة، بل من خارجها. بكل تأكيد هذا صعب، ويُعاني منه معظم أدباء العالم، وليس حكراً على الشعراء العراقيين، وقلة مَن نجحوا (وهنا أعني بالقلة من العراقيين وسواهم) واستطاعوا أن يتصالحوا مع الأمكنة الجديدة وعوالمها وبيئاتها وثقافاتها، وأن يكتبوا عنها بصفتهم جزءاً منها، فخرجت قصائدهم تحمل طابعها العربي، بصفتها كُتبت بلغة عربية ومرجعياتها عربية، ولكنها ذات نكهة مختلفة، نكهة أملتها البيئة الجديدة التي عرف كيف يجني الشاعر ذكرياته فيها، بلا حساسيات تُذكر؛ أي أن يكتب عن البيئة الجديدة بصفته جزءاً منها، يرتبط بها بعلاقة لا تختلف عن علاقته ببيئته القديمة التي غادرها مكرهاً على مضض. والحديث هنا لا يمس المستوى الفني وقوة الشعرية عند الشعراء.

مذهب جديد

كولالة نوري (شاعرة تقيم في أميركا): الارتباط بالمفاهيم القديمة

الشتات والمنافي أصبحت كثيرة متنوعة، ربما أكثر من عدد الشعراء المتوزعين بين آسيا وأوروبا والدول العربية والأميركيتين. (معظم) الشعراء هاجروا في مرحلة عمرية إبداعية وقد ثبتوا على أسلوب معين لم يستطيعوا تغييره بيسر؛ لو قرأتَ قصائدهم السابقة وقارنتها بما كتبوا في المهجر، لم تجد ما يسمى «مذهباً جديداً». ولو أتينا على مسألة (موحد)، فلكل بلد ومدينة أو ولاية في البلدان الجديدة ملامح مختلفة لاختلاف ثقافاتهم، بمحاسنها ومساوئها، حتى المناخ متعدد. وهذه كلها مؤثرات على النص، أضف إلى ذلك منبع الشاعر: تكوينه ومعتقداته وآيديولوجيته، وبيئته في بلده الأصلي، وذكرياته الخاصة، وتطوراته الذهنية، وقراءاته القديمة والجديدة، ومدى تقبله للاختلافات الثقافية والاجتماعية، ومدى رغبته وقدرته على تجريب نهج مختلف في إبداعه، ومدى اهتمامه بتوظيف المكان في نصوصه، أم أنه مهتم فقط باجترار الماضي بلا أمل، ومدى استعداده لبناء ذاكرة أخرى بعلاقات جديدة؛ هذه كلها عوامل يصعب توحيدها في مذهب واضح.

الشعراء المهاجرون مع انتشار طرق الاتصالات الحديثة غربتهم أقل انسلاخاً، مقارنة بأقرانهم في بدايات القرن الماضي أو نهاياته، حيث الانقطاع كان كلياً تقريباً، بينما الآن يواكبون التغييرات التي تحدث سياساً أو اجتماعياً أو معمارياً، صوتاً وصورة، إضافة للفضائيات التي تنقل الحدث في لحظته. عن نفسي، عشت في مدن عراقية عدة، باختلاف لغاتها وجغرافيتها، ثم عدة بلدان ومدن عربية وأجنبية. وإحساسي بغربة المكان وغربة نهج الحياة عني في الأمكنة الجديدة أقل مما لو كنت داخل العراق. والمكان وأسلوب الحياة مهمان لأي كتابة، كما نعرف، وبالنسبة لي مهمة جداً ونصف النَصْ. أصبحت أقرب لنفسي خارج العراق، وأكثر تناولاً لجماليات الحياة والحقوق الإنسانية اليومية التي لم أرتوِ منها بسبب تقاليد اجتماعية أو محاذير سياسية وفكرية، وكأنه عالمي الحقيقي الذي سُلب مني وكنت أشتاق إليه وأُعيده لي. قصائدي في المهجر أو المنفى متصالحة حتى مع الحزن؛ لم أعد أسيرة له. ولكن هناك من لم يستطع أن يكون حراً في كتابته، رغم حرية التعبير في المهجر، لأنه مرتبط بمفاهيمه القديمة في كل شيء، ومن ضمنها الإبداع، أو خائف أن يفقد ارتباطاته. ولهذا أقول: كل له مذهبه وشتاته، كل حسب تجاوبه وترجمته. لذا، فمسألة استنباط مذهب وأسلوب واضح بامتيازات محددة معقد إلى حد ما.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *