“بينما كنا صديقاي وأنا نتمشّى على الطريق
والشمس كانت حينها توشك على المغيبْ
وإذ بالسماء دمًا أحمرَ تنقلبُ
لتصعقني موجةُ الحزنِ الرهيبْ
متجمدًا متعبًا حتى الموتِ
وحيدًا وقفتُ
عندما ارتفعت فوق الخليجِ وفوق المدينةِ
ألسنةُ الدم واللهيبْ
واصل رفيقاي السيرَ
بينما أنا دونهما مرعوبًا
ووحيدًا وقفتُ
وارتعدتُ
يهزّني صراخ الطبيعة الرهيبْ” (ترجمتي الخاصة) [1]
هذه القصيدة هي المرجِع الذي كتبه الفنان النرويجي إدفارد مونك (Edvard Munch) ومنها استوحى العناصر التشكيلية لمجموعة لوحاته المتشابهة وجميعها بنفس العنوان؛ الصرخة والتي رسمها بين الأعوام 1893 إلى 1910.
سرعان ما تصطادنا هذه الشخصية الصلعاء، الواقفة وحيدة على الجسر، تحت سماء تعج بضجيج الألوان، ينهشها الرعبُ الذي تنقله إلى مخيلة الناظرِ مردّدة رهبةَ منبعثة من أعماق سوداء ومظلمة لذاتٍ في لحظة دقيقة هشة بالكاد تفصلها عن الجنون. تقف هذه الذاتّ على حافة العالم متروكة وحيدة، على حافة عالم لن يعود ذلك العالم الذي كان قبل أن شقت صفاءه هذه الصرخة المهولة. وهذه الذاتّ المنكوبة هي التجسيد البشري لهذا الحدث الجلل الذي زلزل العالم الخارجي بكليته آخذًا بترددات أمواجه كل ما نراه أمامنا. وعلى هذا الجسر تتحد الذات المشطورة بعالمها في صرخة تُرسل إلى العدم، صرخة حبيسة تبقى بدون صدى. وقد تكون هذه الصرخة، صرخة الشخصية الواقفة منزوعة من أية دلالات قد تشير إلى هويتها، أو صرخة الطبيعة منقولة إلى الذات. تعود هذه المجموعة من اللوحات إلى سلسلة من اللوحات بعنوان الحياة وقد توقفت (Frieze of Life) كان مونك يحاول من خلالها استكشاف انعكاسات الحداثة على موضوعات إنسانية صميمية؛ الحب القلق والموت. لقد تبوّأ مونك موقعًا متقدمًا في مقدرته على نقل وتمثيل العواطف والعلاقات الإنسانية ممًا جعله واحدًا من أهم فناني المدرسة الرمزية (Symbolism) في نهاية القرن التاسع عشر ومن طلائعي المدرسة التعبيرية (Expressionism) في مطلع القرن العشرين.
يبدو أن الظاهرة التي وقع مونك تحت وطأة تأثيرها محاولاً نقلها بالكلام وبالرسم هي ظاهرة طبيعية تعرف بسحب ستراتوسفير القطبية وكان قد أشار بعض الباحثين إلى أن أوسلو وقعت تحت تأثير هذه الظاهرة نهاية القرن التاسع عشر، بينما يذكر مونك هذا الأمر في يومياته. والحديث هنا عن ظاهرة نادرة من ظواهر الطبيعة، حيث تتكاثف قطرات الماء وحامض النتريك على شكل غيوم في طبقة الستراتوسفير (الطبقة الجوية بين 15000 و20000 متر) في فصل الشتاء مما يشكل أحيانًا حاجزًا يعكس ضوء الشمس بألوان مختلفة بعيدة عما اعتاد عليه الناس. ولهذه الظاهرة تأثير ضار على طبقة الأوزون. […….]
إذا ما كان الأمر كذلك، فنحن إذا أمام نقلة أو حركة دائرية؛ ظاهرة ضوئية خارقة ترسم الطبيعة فيها ذاتها بالألوان، فتتمثلها الذات المصدومة كظاهرة صوتية، صرخة تخترقها، تشطرها وتشظيها ومن ثم تأتي النقلة الثالثة، يجيء التعبير عن هذه الظاهرة الصوتية للمشاهد في لوحة من لون وظل، يشاهد المشاهد فيها الصوت. نحن أمام صرخة الطبيعة أو صرخة ابنها وقد انفصل عنها نهائيًا، أو صرختهما المشتركة، وقد تحوّلت إلى ألوان وظلال.
لكن الأمر ليس كذلك فحسب! – إنّه الانفصال الوجودي للذات، مغتربة في نقطة التحول، في نقطة الشرخ المؤسس لها، في تلك النقطة التي تنفصل فيها عن الطبيعة ليصبح القلق هو منظارها الذي من خلاله تُرى الأشياء جميعها، القلق هو منظار عصرنا الحديث، أداة الرؤية، عيننا الثالثة، العين التي ستفتح الباب لدخول الغرائبي الموحش إلى روحنا ليصبح ابن البيت حميميًا وملازمًا لنا، إنه ال Uncanny الفرويدي. لكن هذا القلق الموحش الغرائبي والحميمي في آن هو صرختنا الأولى، صوتنا الأول، بداية نهوض الذات في مملكة الرمزي، في اللغة.
وبهذا فإن لوحة الصرخة هي التعبير الفني لعصر القلق وانعدام اليقين بينما ولو وضعنا مقابلها لوحة الموناليزا لليوناردو دافينشي للمقارنة فإننا سنجد أن هذه الأخيرة هي التعبير الفني عن عصر النهضة؛ عصر الأمل وضبط النفس.
لكن ما تجدر الإشارة اليه هنا هو أنه وفي نفس الوقت الذي يحدث هذا الأمر الرهيب، هذا الانكسار الكارثي الصارخ، تواصل الشخصيتان المبتعدتان عنا حديثهما وسيرهما قدمًا دونما اية التفاتة، يسيران في خط مستقيم يرسمه الجسر لهما. هذا التناقض ما بين الشخص الفاغر فاه موضوعا للصرخة والفاقد هويته وبين الشخصين المتماسكين والسائرين قدما يشير إلى أن هنالك كسرًا ما على مستوى المعنى\ التأويل، في التواصل\ انعدام التواصل.
فهل الفنان مرآة عصره؟ أم أننا أمام مجرّد كابوس فردي وخاص؟ ذلك أن ادفارد مونك ليس مجرد فنان، بل نفس معذبة ومرهقة. أرهقه موت أحبّته وهو الذي فقد أمّه في طفولته المبكّرة وبعدها فقد أخته التي كانت له أما ثانية وكانتا قد توفيتا بنفس المرض؛ السل الرئوي. كما فقد أخاه الأكبر منه فترة قصيرة بعد الزواج، وبعده فقد أختًا إضافية بانفصام الشخصية؛ أما والده فقد كان يبحث من خلال الدين عن سلوى قد يحصل عليها في مملكة العالم الآخر. لقد كان ادفارد نفسه مهددًا بالجنون، بانفصام الشخصية هو الآخر، فعاش مراوحًا بين الكآبة والقلق أحيانًا وهاربًا إلى مملكة أخرى، مملكة الكحول أحيانًا أخرى. ليس من المستغرب والحال كهذه أن يجد الباحثون، لاحقًا، على إحدى نسخ لوحة الصرخة ما قد كان كتبه بخط يده مخبئا بطبقة من الألوان؛” لا يستطيع رسم هذه اللوحة الا شخص مصاب بالجنون“. وفي حقيقة الأمر أنه كان قد سمع عبارة تكاد تكون مطابقة لهذه العبارة في سنوات دراسته الأولى لفن الرسم. لقد سعى مونك لاحقًا إلى دخول أحد المستشفيات النفسية ليرتاح قليلاً. لكن الفن كان راحته الحقيقية. نستطيع هنا الرجوع إلى ما قد كتبه عن حالته: “خوفي من الحياة هو أمر ضروري بالنسبة لي، وكذلك هو مرضي. بدون القلق وبدون المرض، سأكون سفينة بدون دفة. يرتكز فنّي على ما أعكسه متميزًا عن الآخرين. معاناتي هي جزء من ذاتي ومن فني، لا يمكن تمييزهما عني، وسيؤدي الغاؤهما إلى تدمير فني. أريد أن أحافظ على تلك المعاناة“. [2]
قد نكون والحالة كهذه أمام سيرة ذاتية؛ الصرخة هي هنا بناء تعبيري يعتمد على تجربة الفنان الفعلية، معايشة حدثٍ تزامن مع حالة عقلية محددة، يصورها مونك مستخدمًا عناصر الفن الحديث (Art Nouveau) وهذه العناصر التي يقحمها مونك هنا هي هذه الخطوط الملتوية المتعرجة والمتموجة، يقحمها على الطبيعة ذاتها. الطبيعة تتلوى تنحني وتتماوج كما تتلوى وتنحني وتتماوج بالمعاناة هذه الذات الواقفة على شفا سلامتها العقلية. ينسحب هذا التشوه من الشخصية الواقفة في المقدمة متجها نحو الطبيعة المحيطة ويتم تجريد هذا الكائن من صفاته الشخصية ويتم سحقه وتقديمه في حالة جنينية لا جنسية. يحاول الفنان الدفاع عن ذاته أمام رعبه من جنونه هو، أمام اللا-معنى، بالمحافظة على الجسر القائم سليمًا بسياجه المضبوط. هو جسر الفنان إلى المعنى. تسير شخصيتان لذكرين على الجسر دونما التفات إلى الوراء، انهما يسيران إلى هدف ما؛ هنا في هذا المثلث تسود الضوابط العقلانية، عقلانية تحاول أن تضبط تماسك الشخصية الرئيسية وتمنعها من الانزلاق النهائي نحو الجنون.
على أن مثل هذه القراءة لا تكفي من أجل تفسير الأثر المتواصل والمستمر والمتجدد لهذه اللوحة التي صارت أيقونة عصرنا الحالي. ان ما يجعلها كذلك هو أنها تعرض تماثلاً ما بين الحالة الذاتية الخاصّة بالفنان وما يمكن تسميته روح العصر. لهذا أرى أنها يجب أن تُقرأ بوصفها نصًا سرديًا محددًا، وعلى وجه التحديد كما تقرأ الرواية على الرغم من الاختلاف في الشكل الفني، لكن وفي حقيقة الأمر فإن النص الذي وضعناه في مقدمة هذه المقالة هو سردية روائية قصيرة. وقد يبدو لنا أننا أمام رواية أحادية الصوت- توضع كمونولوج ذاتي، لكننا نذهب إلى ما ذهب فيه ميخائيل باختين برفضه للفصل ما بين الرواية -المونولوج والرواية الحوارية، أي ما بين رواية الصوت الأحادي ورواية الصوت المتعدد، ذلك أن الأول مشوب بالثاني وفي الثاني ترقد عناصر الأول خبيئة [3]. والحوار القائم هو حوار يقيمه هذا الشخص الفاغر فاه والفاقد هويته وهو الشخصية المركزية، أي البطل، لا مع ذاته فحسب بل مع الطبيعة من جهة ومع الشخصين السائرين قدمًا في سبيلهما واللذين يمثلان المجتمع. وإن كل حوار يجري، يجري داخل شرطه الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي. تتضمن اللوحة\الرواية خطابين يسيران بشكل متوازي؛ خطاب الشخصية الرئيسية، البطل الذي يلقي برؤيته متمردة على ما هو سائد ومتعارف عليه، إنه يرى الذات الإنسانية مغتربة ويرى الطبيعة وقد تشوهت لكن ما يراه من تشوه فيها لا يراه صديقاه المعافيان السليمان. فهما لا يفسران ما يراه هو بنفس الطريقة التي تفسره هي به، وهما يمثلان ما يسميه لوسيان غولدمان رؤية العالم [4]. إننا أمام انكسار أو شرخ على مستوى التأويل، وانقطاع فيه، وعطب يصيب التواصل. تتخذ الشخصية الرئيسية هنا، وإذا، موقعًا مغايرًا، متقدّمًا، إنها تعي ذاتها وشرطها وعيًا مختلفًا عما هو سائد؛ انها تجسد من خلال انكسارها وتشظّيها، بتمرّدها وبعجزها صورة البطل الاشكاليّ. فالبطل الاشكاليّ وبسبب وعيه الذاتيّ المتقدّم يرى اغترابه لكنه لا يستطيع، لانعدام شروط التجاوز، تجاوزه، يتناوله الاقدام حينًا والاحجام أحيانًا فيبقى يراوح مكانه لا هو هنا ولا هو هناك؛ إنّها الدوامة لا تنفك تفتك به.
شواهد وإحالات
[1] https://smarthistory.org/munch-the-scream/
[2] مقالة ممتازة عن حياة وأعمال الفنان: https://www.smithsonianmag.com/arts-culture/edvard-munch-beyond-the-scream-111810150/
[3] يُنظر فيصل دراج، نظرية الرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1999، ص 83
[4] الاله الخفي، لوسيان غولدمان، ترجمة زبيدة القاضي، وزارة الثقافة، دمشق 2010، يُنظر تحديدا ص 42.