تنويه: فازت هذه القصة القصيرة بالمرتبة الأولى في مسابقة القصة العربية الشابة التي ينظمها الكاتب حسن سامي يوسف وكان هذا العام باسم “دورة يوسف سامي يوسف”. القصة من تأليف ميديا عثمان
مركز الجرمق
…….
كانت ساحة بلدة باكوبيا كأيّ ساحةٍ لبلدةٍ عريقةٍ مصممةٍ بطريقةٍ حضاريةٍ، فالرسوم والنقوش البديعة تزيّن الجدران، وأشجار الصنوبر والقيقب المنتشرة على جانبيها بشكل دائري تصنع مظلّةً جميلةً، والتماثيل المنحوتة بإبداعٍ تجعلك تقف ساعاتٍ تتأمل البعد الفنيّ العميق في هذه الحجارة…
شيءٌ واحدٌ فقط كانت البلدة منفردةً به، اللافتة الضخمة المعلّقة في منتصف الساحة التي تحمل عنواناً كُتِبَ بالخط العريض:
“ممنوع أن تحلم النساء”
منذ مئتي عامٍ علّق حاكم البلدة هذه اللّافتة، وقد كان للحاكم ابنةٌ فائقة الجمال، ذات شعرٍ ذهبيّ طويلٍ وعينان زرقاوان كالسماء، ووجهٌ أبيضٌ تسكن فيه عشرات الملائكة.. تهافت عليها الأمراء من كل الممالك، لكنّها لم ترغب يوماً أن تصبح زوجةً، كلّ ما كان يجول في رأسها هو كتابة الشعر.
ذات يومٍ أفصحت الفتاة لأبيها بذلك وقرأت له بعضاً من القصائد ظنّاً منها أنّها ستعجبه، لكنّ ردّ الأب كان صراخاً عنيفاً جمّد الدم في عروق الصبية المسكينة: “إنّ الفتيات خُلِقنَ لإنجاب الأطفال وإسعاد أزواجهنّ لا لممارسة الشعر”
قرّر الأب تزويج ابنته لأحد نبلاء البلدة، لكنّه في ليلة الزفاف لم يجد الفتاة، بحث عنها طويلاً وكلّ ما وجده قصيدتان على سريرها.
انتشرت إشاعات كثيرة حول القصة، منهم من قال أنّ الفتاة تحوّلت لقصيدةٍ صار يتبادلها المحبّون، ومنهم من قال بأنها هربت لمدينةٍ بعيدةٍ وصارت تكتب الشعر باسمٍ مستعارٍ..
لم يعلم أحدٌ ما جرى حقاً للفتاة…
منذ ذلك اليوم أصدر الحاكم قراراً ينصّ أن الحلم محرّمٌ على النساء، وكل امرأةٍ تحلم هي زانيةٌ.
كان الجميع في باكوبيا قد تأقلم مع هذا القانون، أو بدا أنهم تأقلموا..
لاسيّما الفتيات الصغيرات اللواتي لم يعرفن ماهيّة الحلم أساساً، فلم يذكر أحدٌ حلماً منذ مئتي عامٍ.
نساء باكوبيا لم تكنّ تعرفنّ الحلم ولا حتى الفضول لاكتشاف الأشياء المجهولة، إلاّ صبيةً واحدةً في البلدة..
كانت إشارات الاستفهام تلعب داخل رأسها حيال كلّ شيءٍ غريبٍ.
تانيا.. ذات الشّعر البرتقاليّ الكثيف والعينين الفضّيتين.
كانت ليلةً صيفيةً هادئةً تداعب فيها نسمات الهواء أوراق الشجر برفقٍ، جلست تانيا قرب أمّها التي تخيط شالاً أزرقاً مزيّناً بفراشاتٍ بيضاء، وضعت يدها اليمنى على ركبتها وباليد الأخرى أمسكت خصلةً من شعرها أخذت تلفها حول إصبعها.
-ماما.. ماذا يعني الحلم؟!
أصبحت عينا الأم دائريّتين، وبيدٍ غاضبةٍ رمت الشال جانبا وصفعت الفتاة صفعةً قويّةً على فمها.
-إيّاك وذكر هذا الموضوع مرّةً أخرى.. أقسم بالله أقطع لسانك الثرثار هذا. “صرخت الأم التي تحوّلت فجأةً لذئبةٍ متوحشةٍ”
-لكن ماما!!
-واللهِ أقطع لسانك.. بنتٌ حمقاءٌ!
هرعت الفتاة باكيةً لغرفتها، ولم تتوقف عن البكاء حتى غلب النعاس عيّنيها الفضّيتين.
استيقظت منتصف الليل..
كان ضوء القمر يتسلل لطيفاً من زجاج النافذة.
-إنّه وقتٌ مناسبٌ لإقامة حفلة راقصةٍ. “همست تانيا”
لم تكن تانيا فتاةٌ يمكث عِندها الحزن طويلاً، كانت قادرة على أن تنفجر ضحكاً وعينيها غارقتين بالدموع لبست فستانها الزّهري انتعلت حذاء الباليه، وربطت أشرطته الطويلة حول كاحليها، وضعت قرصاً لأغنية كلاسيكيّةٍ قديمةٍ في حقيبتها، فتحت أبواب النافذة وتسلقت إحدى النّجمات لتقيم حفلاتها الموسيقية المعتادة بمشاركة مجرّة درب التبانة كلّها.
كانت تقفز بين النجوم بخطواتٍ خفيفةٍ أشبه بوطأة أقدام الجنّيّات في الحكايات.
تفتح ذراعيها فتحتضن كوكباً أضاع مجرته فاستقرّ بين ذراعيها، يداعب الريح خصرها فيميل شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً ليكوّن أربع جهاتٍ يعرف منها العالم وجهته.
استمرت الحفلة حتى نامت آخر نجمةٍ.
عادت تانيا لغرفتها بعد انتهاء حفلتها محمّلة بغبار النّجوم ومفاتيح الصّول العالقة بفستانها…
ارتمت منهكةً على السرير واستسلمت لنومٍ عميقٍ.
في الصباح.. استيقظت بتثاقلٍ، فركت عينيها ورمت بشعرها الكثيف الذي كان يحتلّ نصف وجهها للوراء حتّى استلقى بفوضويّةٍ على ظهرها.
قامت من سريرها، ووقفت أمام المرآة الطويلة وأمسكت المشط محاولةً ترويض هذا الشعر البرتقاليّ الجائر، وهي تتأمل جسدها النحيل المتناسق لاحظت شيئاً غريباً بها، انتفاخٌ صغيرٌ أسفل بطنها، لم يكن مؤلماٌ على أيّ حالٍ، فلم تكترث له ارتدت فستاناً واسعاً لتخفيه، وخرجت لجلب الماء من النّهر.. سلكت طريق الغابة، كانت أزهار شقائق النّعمان في أواخر عمرها وتبدو ملامح الشيّخوخة واضحةً على بتلاتها الحمراء، وأشجار الكرز منهمكةً في تكوين ثمار الكرز لتنتهي في وقتها المحدّد، وأشجار الصنوبر العالية تتبادل أطراف الحديث مع الغيوم الخفيفة المستلقية في السماء.
جلست تانيا لتستمتع بهذه اللوحة المتكاملة، وتطلق خيالها يلهو بين المروج الخضراء، ويلعب مع طيور السنونو القادمة من بلادٍ بعيدةٍ اقترب عصفورٌ صغيرٌ منها، بدا لها أنه جائعٌ، فتّتت تانيا بعض الخبز الّذي جلبته معها في حضنها، قفز العصفور الجائع إليها وبدأ يأكل فتات الخبز سعيداً بالوليمة التي أمامه، أحسّت تانيا بشيءٍ يتحرك داخلها ويرّكل رحمها، ظّنت أنّها حركة العصفور، لمست بطنها لتتأكد، شعرت بحركة شيءٍ غريب داخلها، وضعت فتات الخبز جانباً للعصفور، وركضت مسرعةً للمنزل.
وقفت أمام مرآتها وهي تنظر للانتفاخ في أسفل بطنها الذي ازداد حجمه دون أن تلاحظ، وما إن بدأت بجسّ هذه الكتلة الغريبة حتّى أحسّت بحركته وركلاته لبطّنها من جديد كأنّه يطرق باباً آملاً أن يفتح له.
سرت الكهرباء في عروق تانيا، تسمّرت مكانها وبدأت أطراف أصابعها تميل
إلى اللّون الأرجوانّي، شعرت أنّ العالم بدأ يدور حولها، وبلحظةٍ عادت لها الذاكرة إلى كل التفاصيل السّابقة، أدركت تانيا حينها أنّ حفلتها الرّاقصة كانت غير شرعّيةٍ خرجت مسرعة إلى حديقة المنزل، جلبت حجرةً كبيرةً استلقت على الأرض، ووضعتها على بطنها، لكن دون جدوى، ظلّ بطنها منتفخاً، كان جلمها شرساً قويّ البنّية تغذّى على كلّ ما وصله حبله السرّ.
ظلّ يركل رحمها بشغب ظناًّ منه بأن تانيا تلاعبه.
-اللّعنة عليك.. حلمٌ ابن حرامٍ “صرخت تانيا”.
انهمر الدّمع غزيراً من عينيّ الصّبيّة المسكينة، أغلقت الباب بإحكامٍ، قبضت يديها وفتحتها مرّاتٍ عديدةٍ محاولةً استعادة أعصابها التي تخدّرت من الصّدمة والخوف، تفرّست عيناها في زوايا الغرفة لبحث عن شيءٍ ما، اقتربت من السّتائر وشدّتها بقوّة حتّى سقطت مع القضيب المعدنّي الذي يحملها، فكّت الستائر عن القضيب، نظرت مطولاً للقضيب المعدنيّ الصدأ،
أمسكته بقوّة وغرزته في رحمها.
-مت أيّها اللّعين.. هيّا مت.
سحبته قليلاً للخارج ودفعته مرّةً أخرى بقوّةٍ أكثر.
-مت أيّها اللّعين..
تحولت الغرفة لبركة دمٍ، يسبح فيها فستانها الزّهريّ الممزّق ومفاتيح الصّول العالقة به.. شرطان أحذية الباليه.. بكلة شعرها، وصدأ المعدن الملطّخ بهم جميعاً، الملوّث بآخر أنفاس حلمٍ لم ير النور إلّا ميّتاً، لم يبك أحدٌ على جنازته سوى العصافير التي كانت تمّد رأسها من النّافذة.
جمعت تانيا بقايا جثّة طفلها، ودفنته تحت أرضّية الغرفة، نظّفت نفسها، وخاطت غشاء بكارتها، لا يمكن ارتكاب حماقةٍ جديدةٍ.
في الصّباح خرجت كفتاةٍ عذراءٍ لم تضاجع الموسيقا يوماً ولم تتمايل بين مفاتيح الصّول، ولم تعبث بخصر النّهر، ولم تقرأ الشّعر للفراشات..
إنها الأن عذراءٌ ككلّ نساء البلدة.
وحدها العصافير التي كانت تمدّ رأسها من النّوافذ تعلم أن جميع نساء باكوبيا لسن عذراواتٍ
أنّ تحت أرضيّة كل غرفة كلّ منهنّ قبرٌ لحلمٍ.