درويش وريتا: من حالة حب إلى حالة حصار

يبدو الحديث عن محمود درويش وشعره وحياته لا ينتهي, كما يؤكد مصطفى الولي في مقالة ممتعة عن شعر درويش والطغاة(1). ونحن نعلم كيف قرن درويش الطغاة بالغزاة وبخوفهم من “الأغنيات”. ولعلّ درويش حين صرّح بأن ثمة هناك ما يستحق الحياة على “هذه الأرض” فكأنه يعترف بانتقاله من طور الأحلام إلى طور الذكريات، ويا لها من حالة، أن يصير المرء كهلاً فجأة، ثم يبدأ رحلة البحث عن حياته السابقة. فإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن الحب الأول سوف يحتل حيزاً ليس قليلاً هنا. يقول أرسطو: “صديق الجميع ليس صديقاً لأحد”. ويقول غراهام غرين في (نهاية علاقة غرام): “إن أفضل شيء يلي الحديثَ معها، هو الحديث عنها”. ويقول درويش:

إني أحبّكِ رغم أنف قبيلتي

ومدينتي وسلاسل العادات

لكني أخشى إذا بعتُ الجميعَ تبيعيني

فأعودُ بالخيباتِ..

يقال، أن درويش أحبَّ، لمّا كان يافعاً، فتاة في السادسة عشر من عمرها، يهودية إسرائيلية من أصول أوروبية شرقية (من أب بولوني وأمّ روسيّة)، لكن العلاقة بينهما انتهت بسبب انضمامها إلى سلاح البحرية الإسرائيلي في أعقاب حرب حزيران 1967. ويقال أيضاً أنه حين علم بذلك علّق بقوله: “لقد شعرت أن وطني قد تمّ احتلاله مرة أخرى”. (يصف درويش مشاعره في أعقاب النكسة في “يوميات الحزن العادي”: “عدتُ إلى زنزانتي من جديد، وفكّرت بها، ماذا تفعل الآن؟ كانت في مدينة نابلس، أو في مدينة أخرى. واحدة من الفاتحين تحمل بندقيّة خفيفة. ولعلّها في تلك اللحظة كانت تأمر الرّجال برفع أياديهم، أو الرّكوع على الأرض، أو لعلّها كانت تشرف على استجواب، أو تعذيب فتاة عربية في مثل سنّها، وفي مثل جمالها السابق”.)

يقال أيضاً أن تلك الفتاة كانت تدعى “ريتا”(2). لكن من الثابت قول محمود درويش نفسه، في مقابلة تلفزيونية مع الكاتبة والصحفية الفرنسية لور أدلر Laure Adler: “لا أعرف امرأة بهذا الاسم، فهو اسم فنّي، ولكنّه ليس خالياً من ملامح إنسانية محدّدة.. وإذا كان يريحك أن أعترف [فيما لو كان] أن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة أو كانت موجودة، تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقاً في جسدي”. وتقول ابتسام مراعنة، مخرجة فيلم “سجّل أنا عربي”(3) أنها تعرّفت على شخصية ريتا الحقيقية والتقت بها في برلين حيث تعيش الآن، وأن اسمها الحقيقي هو تامار، وكانت تعمل راقصة، وقد التقى بها درويش لأول مرة عندما كانت لم تزل فعلاُ مراهقة في السادسة عشر من عمرها وذلك بعد انتهائها من أداء رقصتها في حفل نظمّه الحزب الشيوعي الإسرائيلي في حيفا. ولا تذكر مراعنة في أي عام حدث هذا اللقاء بالضبط وما هي مناسبة الاحتفال ومن كان حاضراً. لكن درويش نفسه يعود مرةً ثانيةً ليبدّد بعض هذا الضباب حين يفسّر، في مقابلة أجراها في العام 1995 مع الشاعر اللبناني عباس بيضون، كيف انتهت حكايته مع ريتا\تامار، ويعزو ذلك إلى اندلاع حرب حزيران 1967: “أحببت مرّة فتاة لأب بولندي وأمّ روسيّة، قبلتني الأم ورفضني الأب، لم يكن الرفض لمجرد كوني عربياً. ذلك الحين لم أشعر كثيراً بالعنصرية والكره الغريزي. لكنّ حرب 1967 غيّرتْ الأمور. دخلتْ الحربُ بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسيّة بين الطرفين لم تكن واعية من قبل. تصوّر أن صديقتك جنديّة تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً أو حتى في القدس. ذلك لم يثقل فقط على القلب ولكن على الوعي أيضاً. حرب 67 خلّفت قطيعة عاطفية في علاقة الشبّان العرب والفتيات اليهوديات”.

يقال أن ريتا هذه تدعى “ريتا باهي” مولودة في حيفا في العام 1943 وعملت أستاذة للأدب العبري في جامعة تل أبيب. ويكشف عماد الطراونة في كتابه “حكاية محمود درويش في أرض الكلام” بأن ريتا هذه اسمها الحقيقي تانيا رينهارت المولودة في حيفا في العام 1943 ذات المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية ولطالما انتقدت السياسات الإسرائيلية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين, ويؤكد الطراونة أن هذا الأمر “طالما نفاه صديق هذه المرحلة الراحل سميح القاسم في تصريحات صحافية جاء فيها (ريتا عابرة جداً في حياته، ومعرفته بها لم تتجاوز أشهراً)”. يذكر أن تانيا رينهارت توفيت في العام 2007 في نيويورك إثر تعرضها لأزمة قلبية مفاجئة, وقبيل وفاتها بقليل تعرضت لاعتداء على أيدي متطرفين مؤيدين لإسرائيل خلال تقديمها محاضرة في” مكتبة المقاومة” في باريس. وثمة رواية أخرى ترى أن درويش أحبّ شاعرة يهودية كما يقول في أحد قصائده “والشاعرة الحسناء تبكي على قدميّ في الليل، وتدلّ الشرطةَ على آثار قدميّ في الصباح” ولكن درويش نفى مثل هذه التأويلات، وهذه الأبيات أثارت بدورها علاقة درويش بالشاعرة الإسرائيلية داليا ريبكوفيتش(1939-2005) في ستينيات القرن الماضي, مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنها هي ريتا المقصودة, فداليا هذه شخصية يسارية معروفة بتأييدها للقضية الفلسطينية ومناهضة للاحتلال وداعية سلام، وكانت قد انتقدت قرار الحكومة الإسرائيلية بمنع درويش من زيارة أهله في فلسطين الأربعينية. في حين يرى معن البياري أن ريتا هذه تدعى تماري بن عامي وقد استضافها في العام 2018 أحد المراكز الثقافية العربية قرب الناصرة, ويضيف البياري أن الشاعر محمود درويش ظلّ ينفي وجود ريتا كامرأة حقيقيّة ويعتبرها امرأة متخيّلة واسماً فنياً ليس إلّا حتى لا يساء فهمها في قصائده ولكي لا يحمل الأمر أبعاداً شخصيّة تخصّه، رغم أنه يقول في مواضع أخرى أنها شخصية حقيقية وجدت في مرحلة ما من حياته. و نقل البياري عن تماري بن عامي ما كرّرته في تلك الندوة من حديث ذكرته سابقاً في فيلم ابتسام مراعنة عن إعجابها بدرويش ولقاءها به بعد الحفل المشار إليه في المتن، كما ذكرت تماري أنها لاتزال تحتفظ برسائل بالعبرية كتبها إليها درويش، لكنها لم تتطرق إلى الطريقة التي انتهت فيها علاقتهما، للمزيد/ انظر معن البياري/ “ريتا تتحدث عن محمود درويش”: https://www.alaraby.co.uk/%22%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D9%91%D8%A7%22-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%B4  . في الحقيقة نحن لا نعلم من هي صاحبة محمود درويش الحقيقية وما اسمها, طالما لم يشأْ هو (أو هي-إن وجدت-) أن يفصح\ يفصحا عنها، وأي حديث عن علاقتهما يدخل في باب التكهن والوصول إليها دونه خرط القتاد، فيما أظن، إذ تكثر القصص وتتشعب عن ريتا ودرويش فيتداخل التاريخ الخص لهما بالتاريخ العام لشعبيهما وتتداخل علاقات الحب بعلاقات السياسة والثقافة, وهو ما كان قد شدّد عليه درويش حين قال في أحد حواراته الصحفية (2002)” أخشى أن يؤول الحب بصورة عامة إلى موضوع من خارجه. أتعامل مع المرأة ككائن إنساني، وأُجري معها حواراً شعرياً إنسانياً متكافئاً بين كائنين إنسانيين. للأسف في ريتا تتداخل نساء عدة، صارت ما يشبه الشيفرة، لذلك أقلعت تماماً عن الكتابة عنها لكي لا تتحول [إلى] (سجّل انا عربي) عاطفيّة”. ومن تلك الحكايات ما تقول أنه بعد حادثة ” النكسة” حاولت ريتا أن تلتقي بدرويش أثناء إقامته في باريس لكنه رفض ويقال أن السبب وراء الرفض كان ياسر عرفات. كما يذكر عماد الطراونة في كتابه “حكاية محمود درويش في أرض الكلام” إلى أن ريتا قد تكون الكاتبة اليسارية تانيا رينهارت، تلميذة نعوم تشومسكي, المولودة في العام 1943، غير أن مراعنة تؤكد، من جهتها دون أن تقيم الدليل، أن تامار هي من تركت درويش بعد أن التحقت بالخدمة العسكرية في صفوف سلاح البحرية الإسرائيلية، “رغم توسّله لها بالبقاء” على حد زعمها. وتذكر مراعنة في فيلمها بعض رسائل درويش التي كتبها، باللغة العبرية، إلى ريتا: ” أردتُ أن أسافر إليك في القدس حتى أطمئن وأهدّئ من روعك، توجّهت بطلب إلى الحاكم العسكري بعد ظهر يوم الأربعاء، لكي أحصل على تصريح لدخول القدس، لكن طلبي رُفض. لطالما حلمتُ بأن أشربَ معكِ الشّاي في المساء، أي أن نتشارك السّعادة و الغبطة. صدّقيني-يا عزيزتي- أنّ ذلك يجيّش عواطفي حتى لو كنتِ بعيدة عنّ، لا لأن حبّي لكِ أقلُّ من حبّك لي، ولكن لأنني أحبّك أكثر. حبيبتي تامار، أؤكد لكِ مرة أُخرى أنني معك/ وأنك لستِ وحدكِ. ربما ستعانين بسببي، ولكنني أقف إلى جوارك. شكراً لك يا تامار، لأنك جعلت لحياتي طعماً. إلى اللقاء. حبيبك محمود”

وقد تطرق د. عادل الأسطة في ” أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات” (1988) إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل، ويؤكد د. الأسطة أنه مثلما  عرفنا بعد وفاة الشاعر أن الجندي الذي يحلم بالزنابق البيضاء لم يكن سوى المؤرخ “شلومو ساند” صاحب الكتاب الشهير “اختراع الشعب اليهودي”، فإن درويش أشار بطريقة ما عن علاقته بفتاة يهودية  حين كتب في “حالة حصار” 2002 عن حبّه لفتاة يهودية وإمكانية أن ينجب منها طفلة، فقال-والكلام للدكتور عادل الأسطة- إن الطفلة ستصبح يهودية وأن القاتل الجندي اليهودي حين قتل والد الطفلة اليهودية-أي الفلسطيني- جعلها تعاني وتعيش بلا أب ليستنتج درويش كم “كنّا طيبين وسذّجاً”.

وإذن لا يهم إن كان ريتا اسماً حقيقياً أو مجازياً، طالما أن شاعر الفلسطينيين القومي أحبّ فتاة يهودية.

……

هوامش

1) مصطفى الولي، لا مكان للطغاة في تراث محمود درويش: https://www.aljarmaqcenter.com/%d9%84%d8%a7-%d9%85%d9%83%d8%a7%d9%86-%d9%84%d9%84%d8%b7%d8%ba%d8%a7%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab-%d9%85%d8%ad%d9%85%d9%88%d8%af-%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%8a%d8%b4/?fbclid=IwAR1Roi4xRUb20X6xCLgdixh-mKBG4twupZDL0yFdQZ-RbPD2jnyR7Vr4NbY

2) قد لا يعدو الأمر أكثر من مجازات لغوية وتوريات شعرية ارتبطت بذاكرة الشاب درويش في فترة معينة من حياته، وربما أعجبه هذا البحث عن ريتا من قبل محبّيه والمعجبين به، وربما أثار فيه نرجسية الشاعر ونجوميته فأبقى الموضوع لغزاً وإن كان أعطى بعض التلميحات التي تقلّل من “أسطورية “الحكاية. والاسم ” ريتا” أعجميّ وتصغير للاسم الإغريقي مارغريتا marguerita  ومعناه اللؤلؤة أو الدرّة أو الطاهرة والعفيفة (نقول في العربية عن البكر أنها مثل اللؤلؤة غير المثقوبة كناية عن أنها لم تعرف الرجال بعد). كما يطلق الاسم على نوع من الأزهار دائمة الخضرة المعروفة باسم زهرة المرغريت أو أقحوان المرغريت أو اقحوان المروج  Leucanthemum vulgar،وثمة قديسة تدعى القديسة ريتا يتم الاحتفال بها يوم السادس عشر من تشرين الثاني\ نوفمبر أو الثاني والعشرون من أيار\ مايو. أما الاسم تامار فهو من العبرية “تمر” بمعنى النخلة وهي ذاتها بالعربية تمر أي ثمر النخيل. وتامارا لعهد القديم معروفة حكايتها مع يهوذا والد زوجها، كما أن هناك تامار أخرى وهي قديسة كانت ملكة على جورجيا في القرن الثالث عشر، وسعت حدود مملكتها حتى بحر قزوين وكانت تهتم بالفقراء فقات ببناء دور الرعاية الخاصة بهم ويأتي عيدها في الأول من أيار\ مايو.

3) فيلم وثائقي عن حياة محمود درويش مدته 73 دقيقة. . الموسيقا والغناء: ميرا عوض, إنتاج موسيقي: شاي آلون. سيناريو وإخراج وإنتاج ابتسام مراعنة منوحين 2014   אבתיסאם מראענה במדיה Ibtisam Mara’ana on the media، وقد شارك الفيلم في مهرجان دوكوأفيف Docoaviv الإسرائيلي للأفلام الوثائقي في العام 2014 ( فاز الفيلم بجائزة الجمهور في المهرجان). يركّز الفيلم  في بعض تفاصيله على علاقة محمود درويش بالإسرائيلية تامار بن عامي  قبل العام 1970 وذلك من خلال الرسائل المتبادلة بينهما و بعض الصور: يظهر درويش في “تريلر” الفيلم يتحدث بالعبرية و يقول: ريتا هم اسم اخترته. ولطالما كانت ريتا في قصائدي امرأة يهودية، انظر  https://www.youtube.com/channel/UC7rbQ1ZMqtvGlU4AcOFccWQ

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

تعليق واحد

  1. توفيق فياض Tawfik Fayad وهو صديق الشاعر في حيفا يقول ان الاسم الحقيقي لريتا هو ) ايريت) ولكنه ليس اسما شاعريا فقلب الشاعر اسمها وصار ريتا .
    تمار بن عامي غير ( ايريت) وفي مقابلته مع الفرنسية ( لور ادلير) قال إن الاسم ريتا اسم مجازي وأنه عرف عدة فتيات يهوديات . تجدر مراجعة كتاب امتياز دياب ” ميلاد الكلمات ” الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله ففيه مراسلات بين الشاعر وأكثر من فتاة ، وتجدر مراجعة خمسة مقالات لي تحت عنوان ” تناسل ريتا في الرواية الفلسطينية ” . شكرا عزيزي محمود .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *