حسين عبد العزيز
أن يكتب عزمي بشارة في قضية ما، فهذا يعني أن القارئ أمام نصّ يتوازى فيه التحليل العميق مع القراءة الموضوعية، كما إسهاماته في قضايا الديمقراطية والليبرالية والمجتمع المدني والعلمانية والدولة والثورة والطائفية وإسرائيل وفلسطين. ومع حدث كبير بمستوى عملية طوفان الأقصى، والتداعيات الكبيرة التي ترتّبت عليها، على مستوى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والصراع العربي ـ الإسرائيلي، ثمّ السجال العربي الحادّ حيال هذه العملية، جاء كتاب عزمي بشارة “الطوفان… الحرب على فلسطين في غزّة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2024)، لا ليقدّم قراءةً عميقةً للحدث وخلفياته وتداعياته فحسب، بل ليصوّب النقاش أيضاً بشأن بعض الأفكار السائدة.يبدأ بشارة الكتاب بتوصيف الواقع في غزّة، المتمثّل في الحصار الخانق منذ 18 عاماً، ثمّ عمليات الاستيطان المستمرّ في الضفة الغربية، ثمّ في معاناة الأسرى، وفي قضاء إسرائيل على حلّ الدولتَين، فضلاً عن انتهاك الحرمات الدينية للمسلمين في القدس. وضمن هذا السياق، يرى بشارة أن عملية طوفان الأقصى لا تأتي من أجل تلقين العدوّ درساً عسكرياً، ولا لأجل تذكيره بقوة المقاومة والشعب الفلسطيني فحسب، بل الأكثر أهمية إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة قضايا المجتمع العربي والدولي، في ظلّ حملة تطبيع عربية كانت تسير إلى الأمام.
يرى بشارة أن ما جعل عملية طوفان الأقصى مختلفة عن سابقاتها أنها كانت الأولى في تاريخ المقاومة ذات طابع هجومي محض، مع ما يعني ذلك من تخطيط مسبق أشهراً أو ربّما سنواتٍ، وتنظيم عملياتي مُحكَم، هو ما جعل إسرائيل يومين أو أكثر في حالة ارتباك وذهول. ويحذّر بشارة هنا من مخاطر الأوهام عن ضعف إسرائيل وهشاشة أمنها، وما المبالغة الإسرائيلية بخصوص “طوفان الأقصى” إلا استثماراً سياسياً مقصوداً غرضه إيجاد المسوّغ لحربها العسكرية المدمّرة للقطاع. وفي المقابل، يلفت انتباه القارئ إلى عجز إسرائيل عن خوض حرب طويلة من دون دعم أميركي متواصل بالسلاح، وهذا يعني أن إسرائيل غير قادرة بمفردها على خوض حروب طويلة، حتى في جبهة واحدة.
ومع ذلك، يعتبر أن “طوفان الأقصى” كانت عمليةً مبنيةً على رؤية استراتيجية خاطئة، لأنها تجاوزت منطق الدفاع الردعي بوصفه الوحيد الممكن، كما تبيّن من تاريخ الكفاح المسلّح الفلسطيني، ذلك أن الاستراتيجية الوحيدة الممكنة في ضوء الظروف الراهنة هي الردع والدفاع، مع هامش واسع لعمليات استنزاف تذكّر الاحتلال بمقاومة الشعب الفلسطيني، إلى جانب تذكير الدول العربية بقضيتهم الأولى. يقول: “لا يمكن أن تكون الاستراتيجيا هجوميةً في ظلّ ميزان القوى بين إسرائيل وحركات المقاومة في غزّة والضفة الغربية، والأوضاع الإقليمية، حيث تنقسم الدول العربية بين معنيةٍ بالقضاء على حركة حماس، أو إخراجها من المعادلة الإقليمية على الأقل، وأخرى لا تستطيع أن تشاركها المواجهة المباشرة مع إسرائيل، أو غير راغبة في ذلك”.
وفي تحليله حجم العنف الإسرائيلي الكبير، وسياسة الأرض المحروقة في غزّة، يرى عزمي بشارة في كتابه أن هذه السياسة القائمة على الإبادة المجتمعية ليست مُجرَّد ردّ فعل مباشر على عملية “طوفان الأقصى” فحسب، بل هي ناجمة من عقلية استعمارية تتعامل مع الفلسطينيين كتلةً اجتماعيةً واحدةً، فلا تفرّق بين حركة حماس مثلاً وسكّان غزة المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً. يقول “لقد تمت شيطنة الغزّيين بوصفهم الحاضنة الاجتماعية غير البريئة لأنهم لم يثوروا على حكم حماس بما يتيح الاقتصاص الجماعي منهم”، نحن هنا أمام حالة انتقام ثأرية بالغة القسوة.
وفي سياق هذا الانتقام، ينبّه بشارة إلى خطوات خلفية تخطّط لها إسرائيل، والمقصود هنا استغلال الحرب لتنفيذ مخطّطات محضّرة مسبقاً في الضفة الغربية والقدس، سواء على صعيد الاستيطان، أو على صعيد القوانين المكبّلة والطاردة للفلسطينيين. يعني هذا، وفق بشارة، أن دموية الحرب في غزّة لم تكفِ لإقناع الولايات المتحدة بضرورة إيجاد حلّ سياسي للقضية الفلسطينية، فما يقوم عليه التفكير الأميركي ـ الإسرائيلي هو إدارة قطاع غزّة عبر إنشاء سلطةٍ تحت إشرافٍ أمنيٍّ إسرائيلي لا تكون “حماس” جزءاً منها، ولا أيّ فصيل مقاوم، وحتى من دون السلطة الفلسطينية. بمعنى أن إدارة قطاع غزّة يجب أن تكون محصورة بين إسرائيل ومصر، وربّما معهما دولة ثالثة هي الإمارات، التي لها علاقة قوية بشخصيات غزّيّة مقرّبة من إسرائيل، فضلاً عن السلطة الفلسطينية التي تعمل على استغلال هذه الفرصة التاريخية لإعادة غزّة إلى حكمها، كما كان الأمر قبل عام 2006.
وإلى جانب هذا الهدف في غزّة، تعمل واشنطن لإعادة مسار التطبيع العربي مع إسرائيل ريثما تحطّ الحرب أوزارها، لينشأ بذلك واقع عربي منقسم بين ثلاثة أقسام: دول عربية مناهضة لإسرائيل لكنّها غير قادرة على مواجهتها، ودول تعاملت مع قضية فلسطين وظيفياً، ما أفقدها صدقيّتها، ودول مطبّعة شاركت إسرائيل والولايات المتحدة في القضاء على “حماس”.
يرى بشارة أن عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية لم تُفشلا عملية تهميش القضية الفلسطينية فحسب، بل دفعتا دولاً إلى الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية باعترافها بدولة فلسطين، في تحدٍّ للولايات المتحدة وإسرائيل. هنا، يُعرب بشارة عن أمله أن يكون الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني نشوء قناعة أميركية ـ إسرائيلية بأن الحلول العسكرية لا يمكنها إنهاء القضية الفلسطينية، وأن الحلّ يجب أن يكون سياسياً، ولعلّ تحركات بعض الدول الداعمة لفلسطين داخل المنظومة الغربية، ثمّ الحراك الطلّابي الغربي، هو إحدى أهم نتائج الحرب الإسرائيلية القائمة.
الإبادة الجماعية
يرى عزمي بشارة أن مصطلح الإبادة الجماعية (Genocide) لم يُنحَت بناءً على كارثة الهولوكوست، بل بناءً على تصرّفات قوات الاحتلال الألمانية في الدول الأوروبية عموماً، أي في وصف جرائم أقلّ من المحرقة النازية ليهود أوروبا. وبناء على التعبير الذي صاغه رفائيل ليمكين، لا تعني جريمة الإبادة الجماعية بالضرورة التدمير الفوري والمباشر لأمّة ما، بل وجود خطّة منسّقة مسبقاً تهدف إلى تدمير حياة الجماعات. بهذا المعنى، ينبّه بشارة القارئ إلى أن القصد أو النيّة المتبوعة بممارسات عملية هي التي تُحدّد ما إذا كانت الجرائم تنضوي ضمن فئة الإبادة الجماعية أم لا. هذا ما أكّدته المادة السادسة من نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، إذ ركّزت الوثيقة على البند المتعلّق بالنيات، وهو ما ينطبق تماماً على إسرائيل، فنيّة الإبادة الجماعية حاضرة في تفاصيل الحرب، من تدمير البنى التحتية، والمدارس، والمرافق الصحّية، والخدماتية، والمساكن.. إلخ.
يقدّم بشارة دليلين على النيّة المسبقة لإسرائيل في تنفيذ الإبادة الجماعية في غزّة، يتمثّل الأول في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مثل دعوة النائبة في الكنيست ريفيتال غوتليف الجيشَ إلى استخدام السلاح النووي، وقتل سكّان غزّة بلا رحمة، ودعوة وزير التراث عميحاي إلياهو إلى إلقاء قنبلة نووية على غزّة، ودعوة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى القضاء على جميع المتعاطفين مع “حماس”… إلخ. الثاني، وهو الأكثر أهميةً، الأعمال اليومية المتمثّلة بالقصف العشوائي للأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات، فضلاً عن التجويع الممنهج، الأمر الذي يدفع سكّان غزّة إلى الهجرة القسرية، هدفاً إسرائيلياً واضحاً لتقليل عدد سكّان القطاع. لكنّ ما جرى على المستوى الدولي هو العكس، إذ صوّرت إسرائيل (عبر تصريحات المسؤولين الغربيين ووسائل الإعلام الغربية) كما لو أنها الضحيّة، مستغلّين عملية طوفان الأقصى لإظهار إسرائيل بمظهر الضحية، والمقاومة الإسلامية بمظهر الإرهاب، مع تناسي عقود من الاحتلال المباشر وغير المباشر وسياسة الأبارتهايد والقتل بحقّ الشعب الفلسطيني.
يوضح بشارة هنا ما جرى على المستوى الغربي، حين تبنّى كثير من الدول الغربية ووسائل إعلام غربية الرواية الإسرائيلية كاملةً كما هي حول ما جرى في عملية “طوفان الأقصى”، وسرعان ما نشأت (يقول بشارة) “أجواء شمولية على مستوى الخطاب تُذكّر بلفظ “Gleichschaltung” الألماني، الذي أصبح في مرحلة الحكم النازي يعني توجيه مجمل نشاط مؤسّسات الدولة والمجتمع إلى خدمة الهدف نفسه، وكأنّ الحرب الإسرائيلية هي حرب هذه الدول”.
أسئلة وجودية
لا يكتفي بشارة بتحليل الجوانب السياسية والاجتماعية فقط، بل يعوّدنا دائماً البحث في الخلفيات وطرح الأسئلة الوجودية والأخلاقية المرتبطة بالمجال السياسي الحيوي. إن وحشية الحرب الإسرائيلية في غزّة أثارت بالضرورة تأمّلات وجودية، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية والغربية لطمس البعد الأخلاقي في هذه الحرب، في ظلّ التجييش والاستقطاب السياسي الحادّين، “إنها المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية، نتيجةً للأعمال الوحشية التي ترتكب خلال العدوان، والوسائل التي استخدمها لتحييد الحكم الأخلاقي على ما يرتكب من جرائم”.يقول بشارة: “لا
تكون القيم الأخلاقية محرّكاً للفعل البشري، لا في الحروب ولا في غيرها، إلا في حالتَين: الأولى إذا أثّرت هذه القيم في بنية الإنسان الشعورية الانفعالية، حيث تحمله على الفعل أو الامتناع عن فعل، أو الشعور بالذنب إذا فعل العكس، والثاني إذا صيغت القيم الأخلاقية في معايير يمكن التنشئة عليها، يحترمها الفرد لذاتها”. يختلف الأمر حين يُنتقل إلى الدول، فالدولة ليست مدفوعة أصلاً بالأخلاق، لأن سلوكيات الدول تقوم على المصلحة، بخلاف الفرد الذي يشكّل الجانب الأخلاقي من حياته دوراً رئيساً.
ووفقاً لذلك، يؤكّد بشارة أن النقاش الأخلاقي الدائر بشأن الصراعات الدولية، بما في ذلك الاحتلال، غير متعلّق بالفضيلة، بل بموجب المصالح الاستراتيجية، فالدول قديماً وحديثاً ومستقبلاً لا تُحرّكها القيم الإنسانية بقدر ما تحرّكها المنافع. ولذلك، تجهد الدول في صياغة المعايير التي تحرّكها عبر قوانين مُغلّفة بقيم أخلاقية، غير أن هذه القوانين، على ما فيها من إنصاف وقواعد إنسانية وقيم أخلاقية في أحيانٍ كثيرة، تبقى في حالة القوة، ولا تنتقل إلى الفعل إلا إذا وجدت قوة تغيّر كينونتها. وبهذا المعنى، لا تكون الفضائل هي القوى المحرّكة، بل المصالح. لكن بشارة، المدفوع بمنظومة قيمية تحرّكه، وبتحليل سوسيو سياسي للمجتمعات، يرى أن القيم يمكن لها أن تؤثّر في الدول، ما دام الإنسان الفرد هو أساس القيم، وهذه القيم الموجودة في الإنسان يمكن أن تتحوّل من ظاهرة فردية ظاهرةً جماعيةً تؤثّر في السلطة الحاكمة، وتدفعها إلى إعادة ترتيب سلوكها وفقاً لهذه القيم.
وفي هذا، يرى بشارة أن الأخلاق الفردية تتطابق مع الأخلاق العمومية في إطار الجماعات العضوية، ويمكن للأخلاق الفردية أن تؤثّر في توجه الجماعة الأخلاقي، وبالتالي السياسي، حتى لو أصبحت جماعة هُويَّة متخيّلة، مثل القومية والأمة. هنا، يتوقف بشارة عند حراك الطلاب في الجامعات الأميركية والأوروبية، وهو احتجاج أخلاقي تدفعه قيم إنسانية عامّة، قد يؤدّي إلى قوة ضاغطة على السلطة مع انضمام أوساط من الأساتذة محتجّين ورافضين للعنف الإسرائيلي الإجرامي تجاه شعب بأكمله.
يختم بشارة المسألة الأخلاقية بتساؤل مهمّ: هل دوافع من يحتجّون على الحرب ناجمة عن بنية أخلاقية إنسانية لا تتحمّل ما يُقترف من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، أم تنجم عن الهوية القومية أو الدينية التي تجمعهم بالضحايا؟… يجيب أن العاملين شرعيان، ويمكن أن يُصاغا بلغة العدالة، لأن الشعب الفلسطيني يتعرّض للظلم الشديد وله قضية عادلة، لكن الحالة الأولى أكثر إنسانية، لأن ما يجمع المناهضين في الغرب ضدّ الحرب الإسرائيلية هو أخلاق كونية ضمن إنسانية مشتركة.
يعتبر هذا الكتاب لعزمي بشارة ذا أهمية كبرى، فهو يُقدّم من خلاله رؤية عميقة للأبعاد السياسية والعسكرية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية للحرب الإسرائيلية، سواء في الداخل الإسرائيلي والفلسطيني أو في المستوى الدولي. وعلى الرغم من القراءة المعمّقة لهذا الكتاب، ينبّه بشارة القارئ إلى أن مفاعيل هذه الحرب وآثارها الاستراتيجية البعيدة لم تظهر بعد، ولن تظهر قبل وقف الحرب وانكشاف تفاصيل اليوم التالي في غزّة.
المصدر