ماذا يدور في رأس ألكسندر دوغين: الخلفية الجيوسياسية للصراع في أوكرانيا

إعداد وتحرير/ وليد يوسف

بدأتُ في تطوير الجغرافيا السياسية منذ 30 عاماً. وعندما بدأتْ روسيا تشعر بأنها جزء من الحضارة العالمية، كان جميع المواطنين متفائلين بأن يصبحوا جزءاً من هذه الإنسانية سواء في الحقوق المدنية، أوحقوق الإنسان، أوالنظام العالمي الجديد، ثم دخلنا في هذه العملية وقبلنا الهوية الغربية، وتخلينا عن هويتنا السوفيتية، ونسينا تماماً الهوية القيصرية التي اعتدنا عليها قبل المرحلة السوفييتية ورحنا نحاول أن نكون مثلنا مثل أي مجتمع آخر. وفي تلك اللحظة التي لم أكن منخرطًا فيها كثيراً في النظام السوفيتي، ولا في النظام الليبرالي، اكتشفتُ الجغرافيا السياسية التي صاغها مؤلفون بريطانيون مثل هالفورد ماكيندر، الذي حاول شرح اللعبة الكبرى بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية من منظور القوة البحرية والقوة الأرضية.

ربما كان ذلك في وقته مجرد جزء من جدول الأعمال الإمبريالي البريطاني، وطريقتهم في التفكير في العالم، لكن في نظري كان ذلك ظهوراً للحقيقة الأبدية والعميقة. منذ ذلك الحين، تابعت ماكيندر واكتشفت أن لدينا حركة أورو-آسيوية في العشرينات من القرن الماضي في الغرب سببها هجرات البيض في ظروف مماثلة لما يجري اليوم من هجرات، فقد كانت هناك مدرسة ألمانية في الجغرافيا السياسية أيضاً. لذا أصبحت الجغرافيا السياسية في نظري أداة لفك رموز العالم. و عندما أصبحنا في بداية التسعينيات، بدأت في تطوير المدرسة الأوروبية الآسيوية للجغرافيا السياسية، وهي المدرسة الروسية الجيوسياسية الرئيسية والوحيدة. من وجهة النظر هذه استناداً إلى الرؤية البريطانية الأنجلو سكسونية للعالم حيث كانت المبادئ الرئيسية هي القوة البحرية  Sea Powerضد القوة البريةLand Power ، فقد قمت بصياغة استراتيجية مماثلة لكن معاكسة: القوة البرية ضد القوة البحرية. في تلك النظرية اعتبرت أن قوة الأرض أو ما نسميه أيضاً قلب الأرض Heartland ، الذي هو أوراسيا Eurasia تعتبر هي العنصر الفاعل وليس الهدف.

لكن ما هي القوة البحرية حسب ماكيندر؟ إنه ليس الغرب فقط، إنه الحداثة، إنها تقنية غير مقيدة، إنها الرأسمالية، إنها مجتمع السوق، إنها قرطاج ضد روما أو أثينا ضد اسبرطة أوالبندقية ضد الإمبراطورية البيزنطية. كانت تلك حضارة واحدة (قرطاج) تستند إلى نهج السوق الاقتصادي المادي، وتستند استراتيجياً على الهيمنة على البحار، أي على المواقف الاستعمارية ضد الحضارة الأخرى (روما) مع قيم مختلفة تماماً. بينما في القوة  البرية، تم وضع الكرامة، والقوة العسكرية، والتقاليد، والمحافظة، والمصالح الوطنية، والأسرة، والدين (منذ لحظة معينة، المسيحية) في مركز الحياة. تدور الجغرافيا السياسية حول هذه المثنوية: الحداثة مقابل التقليد المدرج في الفضاء. لذلك بعد اكتشاف الجغرافيا السياسية قمت بتطبيق هذه المنهجية على روسيا. وهكذا توصلت إلى استنتاج مفاده أن الجغرافيا السياسية تشرح كل ما لدينا الآن وكل شيء سيأتي لاحقاً. لذلك منذ تلك اللحظة بتطبيق هذه الطريقة لتحليل الاتحاد الروسي في المرحلة المبكرة استنتجت من هذا التطبيق أنه ستكون هناك حرب بين القارات العظمى، وهذه المواجهة التي لا مفر منها سوف تكون بين القوة البحرية والقوة البرية. القوة البرية التي تمثلها روسيا، من خلال الدول التي تشكل قلب الأرض Heartland، بينما القوة البحرية تلك التي تمثلها دول العولمة الحديثة أو الغرب الليبرالي ما بعد الحداثي.

لقد تعارضتُ بشكل جذري مع كل ما تعتقده الحكومة الروسية في تسعينيات القرن الماضي، لكنهم استمعوا لما أقول في الجيش الروسي منذ بداية التسعينيات، وبدأت في تقديم دروس حول الجغرافيا السياسية في مؤسسة الأركان العامة الروسية. وكان ذلك ضرورياً للغاية بالنسبة لهم، لأنهم لم يستطيعوا تفسير كل ما يجري حولهم من منظور أيديولوجي وكانوا في أمس الحاجة إلى شيء كبديل. لم يتمكنوا من فهم سبب اقتراب الناتو أكثر فأكثر من حدودنا مع تخلينا عن أيديولوجيتنا الشيوعية. لم يتمكنوا بصدق من فهم السبب. ولكن مع تقديم الجغرافيا السياسية إلى هيئة الأركان العامة، تم وضع كل شيء نظرياً على الأقل منطقياً في السياق. كانت تلك بداية الصعود السري لبوتين إلى السلطة. حاول بوتين تحقيق إعادة التأكيد على سيادة قلب الأرض أوهارتلاند وأوراسيا بطريقة سلمية لمدة 20 عاماً، ولم يهتم أحد بذلك. قال إنه لم يستمع أحد، لقد حاول وضع ذلك في بعض الخطوات الجيو-اقتصادية، ولم يفهم أحد ما كان يفعله.

أخيراً، هناك تفسير واحد فقط لما كان يحدث فيما يتعلق بأوكرانيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي: إذا استخدمنا التعابير والمفردات التي يستخدمها رئيسنا نقول إن القوة البحرية استفادت من سقوط الاتحاد السوفيتي من أجل السيطرة على البحار والسيطرة على الفضاء المتحرر من كل القيود. لا يتعلق الأمر بالأيديولوجيا أو العرق أو الدين، بل كانت اللعبة الجيوسياسية فقط، أي أنها قد تجددت اللعبة الكبرى مرة أخرى. في تلك الحالة، عندما وصل بوتين إلى السلطة بدأ يعمل في عكس اتجاه سقوط الاتحاد السوفيتي. من الواضح أن هذه كانت الكارثة جيوسياسية. أقول “الجيوسياسية” هي الكلمة المناسبة: “كارثة جيوسياسية” ليست إيديولوجية ولا قومية ولا عرقية ولا دينية، كارثة جيوسياسية فقط. تألفت هذه الكارثة من الحقيقة الغاشمة أو الوقحة: فرض سيطرة القوة البحرية على الأراضي المحيطة بروسيا التي تنتمي منطقياً إلى القوة البرية. لا يوجد حياد في الجغرافيا السياسية، وبدأ بوتين في استعادة السيطرة على الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي بعد خط بريجنسكي.

كان بريجنسكي قد قال: لن تعود روسيا إلى السيادة دون إعادة اكتساب النفوذ على الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي وقبل كل شيء على أوكرانيا. لذا كانت المعركة من أجل أوكرانيا تقترب من تلك اللحظة منذ انتخاب بوتين كزعيم تاريخي لروسيا في محاولة للدفاع عن مصالحنا الجيوسياسية. هذا شرح لما يجري، لكن القوة البحرية استمرت، واستمروا في محاولة أخذ جزء من الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي منا. وعندما يكون زعيم محايد أو زعيم موال لروسيا، أو المهم أنه ليس معادياً لروسيا كما كان سابقاً – مثل يانوكوفيتش على سبيل المثال – فإنهم يبدؤون في الإطاحة به وإسقاطه عن طريق عملية تغيير النظام. استجاب بوتين لتغيير النظام في البداية من خلال إعادة الاستحواذ على شبه جزيرة القرم وجزء من شرق أوكرانيا، لكن هذا لم يكن كافياً، لقد كان ذلك مجرد عمل دفاعي تقوم به القوة البرية ضد القوة البحرية، لكن الحدود كانت بالغة الأهمية بالنسبة لروسيا، تلك المرحلة التالية من الصراع كان لا مفر منه على الإطلاق بالمنطق الجيوسياسي.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل السياسية والأمنية

في صباح السابع من تشرين الأول 2023 شنت حركة حماس هجوماً مسلحاً على مواقع وبلدات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *