تمهيد
نظر المبشرون المسيحيون الذين عاشوا في القرن التاسع عشر، وغيرهم من الرحالة والكتاب، إلى الوضع السياسي لـ “إقليم الأرض المقدسة”، بما يشبه نظرة العار من عدم قدرتهم على تخليصها من يد “التركي المتوحش”، ضمن إطار استشراقي تظهر فيه فلسطين كأرض كتابية توجهها الأوامر الإلهية كي تكون بيد المسيحيين الغربيين والمسيحية الغربية. ومن اللافت للنظر أن يقفز هؤلاء فوق تاريخ يمتد لنحو 13 قرناً ليصلوا مباشرة إلى “الفترة التوراتية” المزعومة في فلسطين، ورغم أن فلسطين القرن التاسع عشر لا تحتوي على ما يشير إلى تلك “الحقبة الكتابية”، إلا أنه كان هناك إصرار عنيد ومعاند بأن “فلسطين الحقيقية -الكتابية-” لابد أنها مدفونة تحت أنقاض المشهد المكاني المعاصر. وأصبحت هذه المقولة من الأفكار الشائعة في القرن التاسع عشر لدرجة أن اقتنع الجميع بأن الأرض المقدسة تحتوي على أسرار تنتظر أن يكشف عنها العلم الغربي أو علماء الآثار الإسرائيليون. إن الافتراض بأن الشرق الحقيقي يكمن في مكان ما تحت السطح ، وأن فلسطين الحقيقية كانت مسيحية أو يهودية (أو كليهما) وليست عربية أو مسلمة، يشكل تجريداً رمزياً للفلسطينيين. وهكذا انتشرت، في المخيال الغربي، أفكار مثل عدم وجود سكان عرب في الأرض المقدسة، أو أنهم ليسو سوى متطفلين أجانب، على الأقل بين عامة الناس المطلعين والمثقفين المتدينين، قبل وقت طويل من تصور وتخطيط المستوطنين الصهاينة للهجرة إلى فلسطين في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ويتناسب هذا الافتراض تماماً مع الفكرة الاستشراقية والاستعمارية السائدة بأن الأراضي غير الغربية المتخلفة في أصقاع الأرض، هي أرض متاحة، بطريقة ما، للغرب “القوي والحضاري وصاحب الإيمان القويم” للاستيلاء عليها (وهي الفكرة التي استغلتها الحركة الصهيونية فيما بعد تحت شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
اختراع الأرض المقدسة : الحج البروتستانتي الأمريكي إلى فلسطين، 1865-1941
Inventing the Holy Land: American Protestant Pilgrimage to Palestine, 1865–1941
تتناول ستيفاني ستيدهام روجرز وصفاً تاريخياً لظاهرة السياحة في الأراضي المقدسة التي نشّطها “حجاج” بروتستانت أمريكيين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. وتشرح، من خلال استعراضها لخمسة وثلاثين رواية أمريكية بروتستانتية عن الأرض المقدسة (تتضمن العديد من الكتابات النسائية ورواية قس أمريكي من أصل أفريقي هو تشارلز ووكر Charles Walker) ، كيف تحول فهم البروتستانت الأمريكيين للأراضي المقدسة في الفترة ما بين بين الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الثانية. فخلال هذه الفترة، أصبح السفر إلى الخارج متاحاً لأبناء لطبقة الوسطى البروتستانت، بسبب اختراع السفن البخارية، الأمر الذي ساهم في الترويج للسفر للخارج. كما شهدت تلك الفترة اهتماماً متزايداً بالشرق العربي على وجه الخصوص، بحيث أصبح الوجهة المفضلة للمسافرين والمبشرين والعلماء والوكلاء والتجار .. إلخ. فتكاثرت البعثات الآثارية وفرق المسح الجغرافي التي شملت أقاليم المنطقة كافة. فظهرت أعمال المبشرين والمذكرات وكتيبات السياحة والسفر، وهكذا فقد باع المستكشف والآثاري والدبلوماسي جون لويد ستيفنز (1805-1852) أكثر من 20 ألف نسخة من كتابه عن رحلته إلى مصر وبلاد الشام والأراضي المقدسة، بعد نشرها في العام 1837. أما كتاب رحلة مارك توين فقد بيع منها خلال السنة الأولى من نشرها نحو 67ألف نسخة. ولاقت كتب الرحلات تلك وغيرها من الكتب التي تتحدث عن الشرق رواجاً في أوساط القراء الأمريكيين، فظهرت في تلك الفترة النسخة الأمريكية من ألف ليلة وليلة بعنوان “الليالي العربية” من تحرير هارييت بتشر ستو ، التي عبرت عن شغف الأمريكيين بهذه الكتب بقولها أن قصصاً ما “مصباح علاء الدين” و”السندباد البحري” كانت غريبة جداً لدرجة أنها أعطت “بداية للخيال.. ودافعاً قوياً للروح”.
ويأتي كتاب ستيفاني ستيدهام روجرز ضمن هذا السياق، حيث يتحدث الكتاب عن الروايات العديدة لسرديات الحج للأراضي المقدسة وإقبال الأمريكيين البروتستانت على قراءة النسخ الشعبية من هذه الروايات، وهو ما نتج عنها من “جغرافيا عقلية جديدة” لديهم، فبدأت تلوح بداية تكوين وعي جديد عن الشرق الأوسط والتركيز على آمال الألفية وانعكاسها على المفهوم السياسي والاجتماعي لبقية يهودية من آخر الزمان في إطار بروتستانتي لاهوتي وتاريخي. ولعل هذه الخلفية شكلت نقطة انعطاف ولّدت بدايات الدعم البروتستانتي للحركة الصهيونية. ومن دراسة المئات من روايات الحج التي تعود لتلك الفترة، يبرز ظهور فلسطين كمكان مبدع للبروتستانت الأمريكيين، فقد ساهمت، هذه الروايات، بالإضافة إلى فهم البروتستانت الأمريكي للفلسطينيين، والسلطة التوراتية، وقوة الصحافة البروتستانتية، وتاريخية العقيدة المسيحية، في تشكيل التوقعات الألفية عندما تكوّن معنى الأرض المقدسة. وهكذا ولدت فلسطين بالنسبة للبروتستانت كأنها “إنجيل خامس مكتوب على الحجر”. فنحن نعلم أن مارك توين وصف فلسطين في العام 1867، في كتابه Innocents Abroad، بأنها مكان بلا حياة ولا أشجار فقط خواء ورماد*. وبالغ في وصفه للسامريين دون أن يتطرق إلى حوالي 20 ألف نسمة من العرب سكان المدينة. وسوف يتم لاحقاً تم استخدام مقالاته من قبل الصهاينة الأوائل كدليل لدعم الإيديولوجية المصطنعة لـ “أرض بلا شعب”، وهو ما تشير إليه المؤلفة كاثلين كريستسون بقولها : “أوصاف توين ذات قيمة عالية في النشرات الصحفية للحكومة الإسرائيلية التي تقدم حجة لاستعادة إسرائيل لأرض كانت في السابق فارغة وقاحلة. وغالباً ما كانت توصيفاته [ أي توين] الإجمالية للأرض والشعب في الوقت الذي سبق الهجرة اليهودية الجماعية صالحة لأن يستخدمها دعاة الولايات المتحدة لإسرائيل “**.
لقد كان لنظرة الحجيج إلى الشرق تأثيراً واضحاً على “الماضي الكتابي”، إذ أصبحت الرؤية التوراتية للشرق شديدة الصلة بقصص الكتاب المقدس، وأشعلت، كما ذكرنا، وهج العصور ما قبل الألفية في قلوب المؤمنين، ومازالت تلك النظرة ترخي بظلال ثقيلة على الدين الأمريكي فصلاً عن رجال السياسة. وهذا ما تتطرق له ستيفاني ستيدهام روجرز من خلال تحليل السردية الأمريكية البروتستانتية عن الأرض المقدسة لتوضح كيف تحول فهم البروتستانت الأمريكيين للأراضي المقدسة في الفترة قيد الدراسة. وتعتقد الكاتبة بأن البروتستانت الأمريكيين عملوا على جعل الأرض أكثر شيوعاً وأكثر “كتابية”، وهي عملية متعددة الجوانب كانت تستلزم تجنب و”تحييد” المزارات الأرثوذكسية والكاثوليكية الشرقية، وتعويضها بمزارات جديدة في المواقع التي وجدها هؤلاء الحجيج والزوار طبيعية ومبتكرة أكثر من غيرها؛ كما عملوا على “تحويل” السكان المحليين العرب إلى شخصيات توراتية (تورتة العرب)؛ ومن ثم بدؤوا في التفكير/ التخطيط لنقل اليهود إلى هناك (تورتة الأرض)، لا سيما مع بداية القرن العشرين. وللتدليل على ذلك تذكر الكاتبة اشمئزاز البروتستانت، وسخطهم، من الطقوس والتزيينات الموجودة في كنيسة القيامة، لقد صدمهم البذخ الشرقي البيزنطي لنمط عمارة وزخرفة الكنائس الأرثوذكسية، فحولوا اهتمامهم إلى ما يعرف بـ “قبر البستان المقدس”، وهي مقبرة قديمة اقترح المستكشفون البريطانيون / علماء الآثار أنها تتناسب مع الوصف الكتابي للقبر الذي كان عمله يوسف الرامي ليسوع. وقام البريطانيون ببناء حديقة جميلة “بستان” في الموقع، وما زال الكثير من البروتستانت، اليوم، يعتقدون أنه المكان المحتمل للقبر المقدس. أما بالنسبة للنقطة الثانية في طرح روجرز، فتمثلت في اعتقاد البروتستانت، بثبات الشرق وعدم تغيره منذ فترة طويلة، وهكذا كان في مقدورهم تحويل العرب، بسهولة، إلى شخصيات ورموز توراتية موغلة في القدم. فقد بدا لهم أن كل من وما ينتمي للعرب، على وجه التقريب، إنما هو تعبير/ انعكاس/ توضيح لعادات توراتية قديمة، لا سيما فيما يتعلق بتفاصيل ملابسهم وأساليبهم في الزراعة وتربية الحيوانات. وهكذا برع البروتستانت في التقاط الصور الفوتوغرافية للعرب، وغالباً ما كانوا يستذكرون فيهم رموزاً وقصصاً كتابيةً حميميةً مثل صورة “رفقة تسقي الجمال” أو “راعوث وبوعز “. أما ما يخص رؤيتهم حول “استعادة الأرض المقدسة” وإعادة توطين اليهود، فهي من استنتاجات الكاتبة بحكم الفترة الزمنية التي اختارتها كإطار عمل لكتابها، بخلاف المؤلفات الأخرى، المتعلقة بسرديات الأرض المقدسة، التي اختارت القرن التاسع عشر كإطار زمني لها، وبالتالي لا تمتد إلى خطط إعادة التوطين اليهودية الألفي التي ذكرتها روجرز هنا من قبل الصهاينة المسيحيين الأوائل مثل ويليام بلاكستون William Blackstone وأرنو غيبلين Arno Gaebelein.
لاشك أن الفترة الزمنية التي يستغرقها الكتاب وكذلك النقاط الثلاث الرئيسية في فهم روجرز لسردية الأرض المقدسة سوف تساهم في تعميق فهمنا لتطور المسيحية الصهيونية، وهو ما سوف ينعكس في مؤلفات العديد من المؤرخين اليهود التي ظهرت في فترة ظهور كتاب روجرز، ولعل أشهرها كتاب شلومو ساند “اختراع الشعب اليهودي” (2009). الذي يستنتج كيف أن العديد من العرب في فلسطين نظروا إلى أنفسهم، والحديث هنا عن القرن التاسع عشر، على أنهم أحفاد شعوب توراتية، وبالتالي فهموا أنهم يمتون بصلة قرابة دم لليهود الذين كانوا، آنذاك، ينتقلون إلى فلسطين بنشاط. لم تستمر هذه المقولات طويلاً، إذ سرعان ما اتخذت مساراً “قومياً استعمارياً” حين قال أولئك المؤرخون بالفكرة الصهيونية التي تزعم بأن معظم العرب، سكان فلسطين، انتقلوا إلى المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر. ويعزو ساند هذا التحول إلى تدهور الوضع السياسي بين اليهود والعرب آنذاك.
لم يكن الأمريكيين وحدهم من يزور الأرض المقدسة، للحج أو لغيره، إذ، بعد تطور وسائل النقل، يمكن القول ذاته على مسافرين قاموا باختراع الأرض المقدسة خاصتهم، مثل الروس أو البريطانيون أو الألمان أو الفرنسيون.. إلخ، لتناسب احتياجاتهم الخاصة. وانعكاساً للجدل الحداثي لقراءة ومعنى “الإنجيل الاجتماعي” ودوره في تكريس التجربة اللحظية للمقدس، تخلص روجرز إلى أن هذه “كانت الفترة التي بدأ فيها الجمهور البروتستانتي [ الأمريكي] الأوسع بتكوين آراء حول فلسطين حيث لم يكن لديهم سابقاً أي آراء”. وهي تشير إلى خيبة الأمل التي تسود هذه النصوص، لا سيما حول الكنائس غير البروتستانتية الموجودة مسبقاً والتي وجدها البروتستانت مسيئة للغاية. إن التفكير في التناص يشير إلى أن خيبة الأمل التي شعر بها المسافرون في كنيسة القيامة ربما كانت ردة فعل تعلموها من قراءة الكتب السابقة. وحسب روجرز، فقد رأى هؤلاء البروتستانت الأمريكيين أن الأرض باتت ملعونة وعبروا عن صدمتهم من الحالة التي بدت عليها كأنها “مياه عثمانية راكدة”. وهكذا، يمكن أن تكون تلك “المياه العثمانية القذرة الفقيرة” التي أشارت إليها روجرز، عدة مرات في الكتاب، تصوراً محض بروتستانتي وليس صورة حقيقية لواقع الحال.
خاتمة
لعبت العناصر الأساسية للأساطير المؤسسة للأمة الأمريكية (مثل عقيدة القدر المتجلي Manifest Destiny) دوراً هاماً في صياغة “الدين الأمريكي” البروتستانتي، وكذلك معالم السياسة الأمريكية ورؤيتها للعالم من حولها. وقام الدافع الرئيسي لتوسيع نفوذ أمريكا في الشرق على تناغم تلك العناصر (الدين والسياسية) وفقاً لرغبة مسيحانية طوباوية تسعى لجلب “الحضارة” إلى “الكفار” سكان الشرق الأصليين، ونشر النور الإلهي وكلمة الرب في تلك الأماكن التي تعيش في الظلام. هذا القدر المتجلي للأمة الأمريكية، بوصفها الأمة المركزية في تحقيق رسالة الرب، يجب أن تتبع إرادة الرب في أن تكون حاضرة في الأرض المقدسة ، أرض الكتاب المقدس – كمكان يجب استعادة المسيحية فيه ومملكة إسرائيل القديمة واستعادتها من المسلمين. فبات من السهولة بمكان ربط الخصائص المادية للأرض الفلسطينية بنصوص العهدين القديم والجديد، واستعادة أسماء المواقع والحيوانات والنباتات القديمة (اللافت للأمر اختفاء سكان هذه المواقع من هذه الاحتفالية التوراتية، كما هو الحال في حالة مارك توين، الذي كان يصر على تسمية نابلس بالاسم التوراتي “شكيم” ولم يذكرها سورة مرة واحدة باسم نابلس). ومن الواضح أنه في هذا الإطار “الاستشراقي”*** كان العرب سكان فلسطين يتماهون مع سكان أمريكا الأصليين “غير المتحضرين”. ويشهد على ذلك أن الجهد التبشيري في الشرق الأوسط لم يكن متعاطفاً مع العرب****، حيث أتت أولى المحاولات الأمريكية لدعم الاستيطان اليهودي في فلسطين على يد المبشر البروتستانتي وليم بلاكستون في العام 1889 بُعيد زيارته إلى سوريا وفلسطين، ولاحظ إمكانات فلسطين الزراعية والتجارية، واستنتج أنه ينبغي منحها لليهود كوطن قومي للتخفيف من معاناتهم، وبعد ذلك بعامين، قدم عريضة إلى الرئيس بنيامين هاريسون جمع من أجلها توقيعات 413 من الأمريكيين غير اليهود البارزين ، بمن بينهم حكام ولايات وأعضاء كونغرس وقضاة ورجال دين ومحررين ورجال أعمال، وعلى رأسهم جون روكفلر. ولقيت فكرة إرسال اليهود إلى فلسطين استحسان العديد من الأمريكيين، لأن هذا سوف يؤدي منطقياً إلى انخفاض أعدادهم في الولايات المتحدة ويحميهم من الاضطهاد . وألهمت فكرة عودة اليهود إلى أرض الميعاد بين العديد من الأمريكيين، المشبعين بالتعاليم التوراتية، نوعاً من العاطفة الدينية التي لا يمكن للفلسطينيين أن ينالوها على كل حال.
باختصار، احتفظ اليهود بمكانة خاصة في الذهنية الأمريكية، سواء كانت هذه المكانة جيدة أو سيئة ، في حين لم يحظ الفلسطينيون بهذه المكانة إطلاقاً، وبالتأكيد ليس لديهم مكانة مناسبة في الوعي العام.
….
* اجتمعت السخرية اللاذعة التي يتميز بها مارك توين، وذكائه وموهبته في الكتابة لتجعل منه صوتاً مميزاً على المستوى الشعبي، في منتصف القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة. ولاقت ملاحظاته، ومازالت تلاقي، عن فلسطين والفلسطينيين والأرض المقدسة، استحساناً لدى مؤيدي إسرائيل، ولا بأس أن نستذكر هنا بعضاً مما قاله: “من بين جميع الأراضي الموجودة هناك التي تعطي مظهراً كئيباً، لا بد أن تكسب فلسطين -باعتقادي- قصب السبق، فهي أميرة الكآبة المتوجة بلاشك.. إنها أرض بائسة لا أمل فيها، بل هي كئيبة، محطمة القلب.. فلسطين تجلس على الخيش والرماد” ويقول عن سكانها العرب: “لقد كانوا، جميعهم بلا استثناء، منساقون وراء طبيعتهم وغرائزهم وتعليمهم مما جعلهم مقيدين غير أحرار”. ويصف قرية عربية بأنها “قبيحة للغاية، وضيقة، وقذرة، وغير مريحة ومتسخة- لا تختلف عن غيرها من القرى والمدن التي تزين البلاد منذ عهد آدم”. فوقع حوافر الخيل كان كفيلاً بإيقاظ سكان القرية “الأغبياء”.. ليخرجوا من بيوتهم جميعاً -رجال ونساء وأولاد وبنات، الأعمى منهم والمجنون، السليم منهم والمشلول، يوحدهم منظر ثيابهم الممزقة والمتسخة والهزيلة”. وفي عصرنا الحالي، ساهمت هذه التوصيفات المبالغ فيها، إن لم نقل العنصرية، في الترويج لفكرة أن فلسطين كانت أرضاً مقفرة إلى أن استوطنها الرواد اليهود وزرعوها. وكثيراً ما استشهدت، الصحف الإسرائيلية، لاحقاً، يوصف مارك توين لفلسطين في سياق الترويج لفكرة “استعادة” [أرض إسرائيل] و[الوطن اليهودي القديم] وتحويلها إلى أرض اللبن والعسل، بعد أن جعلها العرب فارغة وقاحلة. ويشترك المزاج الأمريكي في تبني هذه الأفكار الدعائية لإسرائيل من خلال إطلاق العنان لتوصيفاته الإجمالية للأرض والشعب في الفترة التي سبقت الهجرة اليهودية الجماعية. لم يكن مارك توين، على كل حال، إلا واحد من مئات ممن كتبوا عن رحلاتهم للشرق في القرن التاسع عشر، والتي نقلت صورة لفلسطين وعربها أقل ما يقال عنها أنها كانت مهينة بكل ما تحمل كلمة مهينة من معانٍ، وفي الواقع ، ساهمت هذه الصورة كأحد النقاط المرجعية في العقلية الأمريكية في رؤية القضية الفلسطينية: الأرض والشعب.
**انظر مثلاً كتابها: KATHLEEN CHRISTISON. Perceptions of Palestine: Their Influence on U.S. Middle East Policy. University of California Press 1999 وترى كريستسون (التي عملت كمحللة في وكالة الاستخبارات الأمريكية لمدة 25 عاماً) أن الولايات المتحدة تجاهلت حق الفلسطينيين في الوجود في الأرض المقدسة خلال القرن الماضي، وتعتقد، كريستسون، أن رؤساء الولايات المتحدة، وصانعي القرار في كل إدارة من الإدارات المعاقبة “تأثروا بالعقلية السائدة حول هذه القضية… ولا يزال الأمريكيون مرتبطين بإسرائيل”. وهي ترى بأن المنظور المؤيد لإسرائيل والمعادي للفلسطينيين لم يخلقه “اللوبي القوي المؤيد لإسرائيل” ولا وسائل الإعلام، بل خلقته العقلية المتأثرة بالكتاب المقدس المهيمنة على “طريقة تفكير” الرؤساء الأمريكيين وغيرهم من كبار صانعي السياسة التي كانت متأثرة بلا شك برؤية توراتية للأرض المقدسة ودور اليهود والإسرائيليين في تلك المنطقة. وهي تشير بوضوح، في عدة أمثلة، إلى عدم اهتمام رجال السياسة الأمريكيين بالوضع الفلسطيني والتداعيات السياسية التي يمكن أن يتسبب لها الدعم اللامحدود لإسرائيل ولا ينطبق هذا على الرؤساء فحسب، مثل نيكسون، بل يمتد ليطال شخصيات تعتبر مرجعية في حقل الدبلوماسية الدولية ( مثل وزراء الخارجية وليم روجرز، وهنري كيسنجر) وتتابع كريستسون القول بأن الفضل في دفع القضية الفلسطينية للأمام يعود إلى إدارة الرئيس جيمي كارتر كونها الإدارة التي أدركت مركزية وأهمية الفلسطينيين. لكن كارتر، كما تؤكد كريستسون، تخلى عنهم، أي الفلسطينيين، في كامب ديفيد حين دفع باتجاه معاهدة سلام ثنائية بين مصر وإسرائيل. وسرعان ما انعكس الوضع في إدارة رونالد ريغان الذي أحدث قفزة نوعية في الجهود المبذولة للترويج لإسرائيل ونزع الشرعية عن الفلسطينيين في الولايات المتحدة، تأكيداً لأهمية فلسطين كمكان له أهمية خاصة بالنسبة للمسيحيين الغربيين، وهذا يعني أن ينظر إلى الفلسطينيين كأجانب “في أرضهم”.
*** يسمي إدوارد سعيد الاستشراق بـ “المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق -حيث يكون التعامل معه من خلال إنشاء مقولات عنه وحوله، وتكوين رؤية رسمية عنه، ووصفه، وتعليمه، وضبطه، والسيطرة عليه”. وقد فرض استشراق القرن التاسع عشر “نوعاً من السلطة الفكرية على الشرق”، وأصبح بمثابة أداة لتكريس سلطة إمبريالية فعلية، ولطالما عمل انطلاقاً من افتراض التفوق الغربي على الشرق وشعوبه ذوي البشرة السمراء. لقد نظر الاستشراق إلى نفسه على أنه رسالة حضارية، ومجموعة من النصوص والملاحظات التي من شأنها أن تساعد الغرب في استجلاب الحداثة والحضارة إلى “السكان الأصليين” البدائيين. وكان الغربيون، في بعض الأحيان، ينظرون إلى السكان الأصليين بعاطفة، ويصنفونهم برومانسية على أنهم “متوحشون نبيلون” أو بقايا غريبة من الماضي، “إنهم ذلك الجين الرائع لخيال هارييت بيتشر ستو”، غير أن هذا لم يمنع أن يتعرض هؤلاء “السكان الأصليون” للاحتقار، ووصمهم بميسم “عدم التحضر”
**** لم تكن صورة العرب التي نقلتها روايات الرحلات من فلسطين أفضل من صورة اليهود لدى الأمريكيين، بل ربما كانت أسوأ. وعلى الرغم من انتشار معاداة السامية في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشرـ إلا هذا لم يكن يعني تعزيز صورة إيجابية عن العرب. يذكر بيتر غروس في العام 1983، في كتابه “إسرائيل في عقل أمريكا Israel in the Mind of America. Peter Grose “، أن العديد من مسؤولي وزارة الخارجية الذين عملوا في قسم شؤون الشرق الأدنى، في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وعارضوا إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 نشؤوا وتربوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على منظومة أدب أطفال معادية للسامية تصور اليهود على أنهم شخصيات سخيفة وحمقى، ويعتقد غروس أن هذه الأدبيات تركت انطباعاً مبكراً، من الصعوبة بمكان محوه، على الشباب الأمريكي، وتحديداً على صانعي السياسة هؤلاء في مرحلة شبابهم. ونظراً لأن جزء كبير من اليهود انتقلوا للعيش داخل الولايات المتحدة، ووصل بعضهم إلى مناصب بارزة، ربماـ احتفظوا، بسبب هذا، بوجه أكثر إنسانية في المجتمع الأمريكي أكثر من العرب “أبطال القصص الغريبة الذين يعيشون في أماكن بعيدة”.