استهلال
عن هذا الحـوار بين محمود درويش والشاعر المغربي حسن نجمي في مدين الرباط عاصمة المملكة المغربية
إحدى الصداقات الشخصية الأدبية الجميلة لمحمود درويش تلك الني جمعته بالشاعر المغربي حسن نجمي، الذي كان «رئيس اتحاد كتاب المغرب»، وغيرها من المهام – مثل مدير مديرية الكتاب في «وزارة الثقافة المغربية». وهو حالياً أمين عام «جائزة الأركانة للشعر» العالمية في المغرب، ومؤسس ورئيس أسبق لـ «بيت الشعر في المغرب”. كان من مرافقي محمود في المغرب وهو من أشرف على تنظيم أُمسيات الشاعر في المغرب. منح محمود درويش حسن نجمي حوارين اثنين – أحدهما، الأول، أجراه حسن نجمي ونشره في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية – الصادرة في الدار البيضاء – نشرته مجلة «الكرمل» في حينه، نقلاً عن صحيفة «الاتحاد الاشتراكي»، ونشرته صحيفة «القدس العربي» وعنها نقلته صحيفة «الدستور» الأردنية في 28 شباط / فبراير2004. كما كان اختاره محمود درويش للنشر في كتاب ضم حوارات الشاعر صدر باللغة الإيطالية. سأكتب عنه مستقبلاً. بصفتي من قرأت كل حوارات الشاعر أكثر من مرة، أسمح لنفسي بتقييمه كأفضل وأغنى حوار له.
الصور:
– حسن نجمي ومحمود درويش، فندق حسّان\ الرباط 2007
– حسن نجمي والشاعر الجزائري عزالدين ميهوب، وكان آنذاك رئيساً لـ “اتحاد الكتاب الجزائريين” والصورة، في العام 2005، أثناء أعمال المؤتمر السادس عشر لـ ” اتحاد كتاب المغرب”. أصبح ميهوب فيما بعد، كاتب دولة مكلفًا بالاتصال، ثم وزيرًا للثقافة في بلاده. كما كان مرشحًا في آخر انتخابات رئاسية في الجزائر.
سهام داود
……….
لعل محمود درويش أن يكون الشاعر العربي الوحيد من شعراء الحداثة العربية، الذي له علاقة خاصة بالجمهور، ولعله الوحيد، أيضاً، القادر على أخذ جمهور عريض، ليس متابعاً بالضرورة لسيرورة الشعر العربي الحديث، إلى اقتراحاته الأُسلوبية والجمالية من دون جهد يذكر. إنها علاقة يمكن أن توصف بالسحرية تلك التي تربط محمود درويش بجمهوره. شاعر يقف أمام الجمهور فيسحره. يأخذه من حالة التوقع المسبق، أو لنقل الذائقة الجاهزة، إلى انزياحاته وانتقالاته الفنية و المضمونية. ومن دون أن نقلل من أهمية فلسطين في شعر محمود درويش وفي وجدان جمهوره فإن الذين يذهبون إلى أُمسية درويش لا يذهبون لهذا السبب فقط. إنهم، بدءً، يذهبون إلى الشعر، وإلى محمود درويش نفسه. هذا الشاعر الحالة الخاصة. كان هذا هو ما وجده محمود درويش في أُمسيته الأخيرة في الرباط رغم أن المغرب كان يعيش لحظتها فرحاً كروياً لمناسبة بلوغ فريقه “نهائي كأس أفريقيا”. لكن لدرويش جمهور لا يخلف موعده. وعلى هامش أُمسيته الحاشدة في الرباط كان معه هذا الحوار:
– حسن نجمي: الأخ محمود، جئت إلى المغرب مرة أُخرى لتجدد اللقاء مع الجمهور المغربي، ترى، ألا يزعجك هذا الزَّخَم من الحضور، ومن الإنصات والانتباه لقصيدتك، ولتميز إنشادك لهذه القصيدة. ألا تتضايق قليلاً أو كثيراً من هذا الفيض الواضح من المحبة ومن الدفق الرائع من حولك. ألا تشعر، في لحظة من اللحظات، بالحاجة إلى تخفيض الجمهور في جسدك، والحد من عدد القراء بداخلك حفاظاً على صمت القصيدة وعلى هيبتها؟.
-محمود درويش: أعتقد أن هذا السؤال شديد الترف. فليس من حق الشاعر أن يشكو إلا من شيء واحد: من عزلته. أعني، بعزلته، أن تكون هناك مسافة بينه وبين القارئ، وليس من حقه أن يشكو من حضور القارئ الكثيف في المساحة التي يوفرها النص للالتقاء بالقارئ. ما يحدث معي دائماً في هذه القاعة هو نوع من الاحتفالية. أنا أحتفي بالجمهور، والجمهور يحتفي بي. وبالتالي، يساعدني الجمهور على أن أُؤلف القصيدة تأليفاً مختلفاً عن كتابتها. إذن عندما ألتقي بجمهور “مسرح محمد الخامس”، لا أشعر بأنني أقرأ نصاً شعرياً مكتوباً، بل أشعر بأنني -أنا والناس- نعيد إنتاج وكتابة هذا النص بشكل احتفالي أو مسرحي إن شئت. أفهم من سؤالك المعنى الثقافي الذي تعنيه، وهو أن كثرة الجمهور تحمل في سياقها مطالب جمالية محددة تثقل على الشاعر. هذا يتوقف على مدى انصياع الشاعر للحظة الحماسة التي يريدها الجمهور. هناك جمهور يقود الشاعر. هناك شاعر يقود الجمهور. وهناك قيادة مشتركة بين الشاعر والجمهور، وهذا ما يحدث في علاقتي. أعرف أيضاً من سؤالك بأنك تريد أن تقول بأن متطلبات الجمهور لا تحمل دائماً شروطاً جمالية. لكن هذا يتوقف عليَّ.
-حسن نجمي: كيف ؟.
محمود درويش: كيف أتصرف مع هذه الهدية، ومع هذه المطالب. هل أُصدق ضغط اللحظة أم أحوِّر هذه اللحظة في اتجاه آخر يلتقي فيها الشعر مع محتواه الإنساني والمشترك بين النص الشعري والواقع الذي أنتج هذا النص.
حسن نجمي: محمود، بخبرتك الشعرية. وأنت تترك أثناء كتابتك للقصيدة جملة من البياضات أو الفجوات في النص كي تُشْرِك معك قارئك في بناء المعنى الشعري وفي استكمال المستلزمات الجمالية والمعرفية لقصيدتك، ألا تراهن أيضاً على توقعات الإنشاد ؟.
محمود درويش: أرجو أن تصدقني إذا قلت لك إنني لا أُفكر بتاتاً في أي قارئ في لحظة الكتابة. عندما أكتب، أُعطي لنفسي حق التعبير الذاتي بشكل مطلق لا رقابة عليه من أي اعتبار غير اعتبارات الكتابة المحضة. ولا أُفكر في القارئ إلا عندما أُريد أن أنشر القصيدة، أي عندما تكتمل هذه القصيدة وأرضى عن هندستها وبنائها وإيقاعها، وأشعر أنها تحمل مشتركاً ما بين كاتبها ومتلقيها، فإنني أنشرها عندئذ، ولا تصبح ملكاً لي، بل تصبح ملكاً للمتلقي. وأنظر إليها من هذا المنظار كما لو أن شاعراً آخر هو الذي كتب هذا النص. وهذا أحد مقاييس حُكمي على قصائدي، إذ أكتب وأضع في الدرج، وبعد فترة، أُعيد قراءة ما كتب. فإذا لاحظت أن هذا النص يشبهني كثيراً، أعرف أنني كررت نفسي، وأعرف أنني أنا من كتب النص. لكن عندما أشعر بأن شاعراً آخر قد كتب هذا النص، أي أن هناك دهشة ما، وغرابة ما، وجديداً ما.. ساعتها أظن أن النص قد استوفى بعض المتطلبات والشروط التي أحلم بها. أما موضوع الإنشاد، فلا أُخطط له.. لا أثناء كتابتي الأُولى ولا أثناء الكتابة النهائية للقصيدة. إن الإنشاد موجود بحكم خياري الشعري الموسيقي. وأنت تعرف أنني من الشعراء شديدي الانحياز إلى الإيقاع، سواء كان هذا الإيقاع خارجياً أو داخلياً، وقد عبرت أكثر من مرة عن أنني لا أستطيع أن أُحقق شعريتي إلا إيقاعياً. وبالتالي، عناصر الإنشاد متوفرة، لكنني لا أُخطط لها مسبقاً.
حسن نجمي: وفي القراءات الشعرية ؟.
محمود درويش: في قراءاتي الشعرية، نعم، أُراعي هذا الموضوع أثناء اختياراتي لقراءاتي الشعرية، فهناك قصائد قد لا تتوفر فيها شروط الإيصال الإيقاعي، لا أقرأها مع أنني أُغامر أحياناً بقراءة تجريبية، وقد فعلت ذلك أكثر من مرة. لكن الإلقاء أو الإنشاد فن آخر مستقل عن الكتابة الشعرية. فهو ينتمي أكثر إلى المسرح أو إلى الرقص أو الى ما شئت من الفنون الاخرى، ولذلك، فهو فن ثالث غير مرتبط بالقصيدة، الإنشاد هو نوع من الغنائية بصوت عال، ونوع من المسرحة. وكما قلت لك في البداية، ثروتي الإيقاعية -ولا أخجل من هذا التعبير- توفر لنصي الشعري شرطاً إنشادياً.
حسن نجمي: إلى جانب ثروتك الإيقاعية، هناك ثروتك اللغوية. وقد قلت في قصيدة لك: “أنا لغتي”، وذلك بالمعنى العميق النبيل، المعنى الجمالي والمعرفي والفلسفي، لهذا التماهي بمادة الكتابة الذي يذكرني بما قاله الرسام الشهير پول كلي: أنا اللون، أي اللحظة التي يتحد فيها جسد المبدع بمادة الإبداع ؟. إن الإيقاع هو إحدى نقاط القوة في تجربتك الشعرية. لكن اللغة أيضاً هي أحد المرتكزات الأساسية التي تنهض عليها قصيدتك. فكيف تقيم هذا الحوار الخاص، الحميمي والمعرفي مع اللغة، لغة الكتابة الشعرية ؟.
محمود درويش: أعتقد أن اللغة هي هوية، لا بالمعنى الوطني أو القومي، وإنما هي هوية إنسانية، إننا لا نستطيع أن نُعَرِّف الوجود إلا إذا عثرنا على اللغة. إن اللغة تشير إلى الموجود، وحيث تكون اللغة يكون هناك تاريخ كما يقول هايدغر. هذا من ناحية معرفية عامة. أما من حيث الناحية الشعرية الخاصة، فإن الشعر هو الذي يعيد الحياة إلى اللغة، عندما تستهلك وتصبح مجرد لغة يومية، مبتذلة ودارجة. الشعر هو الذي يحيي اللغة، وهو الذي يطورها وهو الذي يعرف الإنسان بوجوده من خلالها. صحيح أن اللغة هي أصل الشعر، لكن الشعر هو أيضاً يشكل أصلاً آخر للغة، أصلاً للسلالة اللغوية، وأعتقد أن لغتي الشعرية ليست لغة ثرية، بل أعتقد أن لغتي الشعرية الى حد ما هي لغة متقشفة. وقد صرت في الفترة الأخيرة أسعى إلى تقشف لغوي ما. ولا أعرف ما إذا كان تعبيري هنا دقيقاً، فربما كان تقشفي بلاغياً أكثر منه لغوياً، ولأنني لا أعتقد أن اللغة هي فقط وسيلة تعبير أو إيصال رسالة، وإنما هي أكثر من ذلك.. أو كما يقول الشاعر والمفكر الكبير الراحل أوكتاڤيو باث بأن الفرق بين النثر والشعر هو أن الكلمة في النثر تريد أن تخبر. أن تبلغ عن شيء ما بينما وظيفة الكلمة في القصيدة هي أن تكون. أي أن لها دوراً كينونياً في بناء القصيدة. من ناحية أُخرى، أنا فاقد كل شيء.. كمواطن وككائن إنساني، في شروطي التاريخية المحددة، أنا فاقد كل شيء، ولذلك، أسعى لأن أُحقق وجودي ووطني من خلال التأسيس داخل اللغة تعويضاً عن خسائري المحيطة بي. فأنا أُؤسس كينونتي ووجودي ووطني وبيتي من داخل اللغة كتعويض عمّا فقدته وخسرته ليس فقط كفلسطيني وإنما أيضاً كشاعر، فالشاعر غير راض من علاقته بالواقع، غير راض عن علاقته بشرطه التاريخي. وبالتالي، فهو دائماً يسعى لكي يؤسس من خلال الواقع العيني واقعاً استعارياً أو جمالياً، فيجعل الواقع اللغوي في تعارض مع الواقع العيني.
حسن نجمي: محمود، أنت تعرف أن الشاعر پابلو نيرودا تحدث في مذكراته الشهرية عن (مهنة الشاعر). بالطبع، قد لا يستسيغ المرء مثل هذا التعبير، وقد لا يقبل أن تكون ممارسة الشعر (مهنة). لكن عندما يقول بذلك شاعر إنساني كبير وعميق مثل نيرودا، فإننا نقبل به ولو على سبيل الوصف الاجرائي. أنت، أخي محمود، كيف تعيش (مهنتك) كشاعر. كيف تؤثث هذه الهوية الإنسانية العميقة بوصفها صيغة وجود أو تعبيراً عن وجود. وأيضاً، كيف تمارس (هذه المهنة) كطقس كتابة ؟.
محمود درويش: دعنا نناقش في البداية موضوع المهنة. لاشك أن الشعر هواية ومهنة معاً. لا يستطيع الشاعر أن يبقى هاوياً، بل عليه – خلال عمر تجربة شعرية معينة – أن ينتبه الى الصناعة الشعرية، والصناعة هي أقرب إلى المهنة. إن الشعر ليس تدفقاً سليقياً تلقائياً بديهياً فقط، بل ينبغي أن يخضع لفكر شعري، لموقف ما ولفهم ما للوجود وللعالم. فالجدلية بين المهنة والهواية ضرورية لسببين: لكي لا تتحول الصناعة إلى مهنة حرفية.. بمعنى الافتعال. نعم، أي كما لو لَديَّ مصنع خشب، فأصنع كرسياً كل يوم ! وهناك شعراء لديهم هذه المهارة لإنتاج كتب ليس من الضروري إنتاجها طالماً أنهم صنعوا هذا الكرسي في كتب أُخرى. ولأن لهم مهنة ويتقنون الصنعة الشعرية، فهم قادرون على الإنتاج اليومي. والمهنة ضرورية أيضاً لكبح كسل الهواية وعدم تركها في انتظار ما يسمى بالإلهام، أو ما شابه ذلك. لذا يجب على المهنة أن تراقب كهواية، وعلى الهواية أن تخضع لشروط المهنة. وبالتالي، فهناك علاقة جدلية بين بعد المهنة وبعد الهواية في الممارسة الشعرية. من جهتي، صرت أشعر، في السنوات الأخيرة، بأنني كنت هاوياً أكثر مما ينبغي. لم أنتبه إلى نظام العمل، إذ مهما أعطينا للشعر من حرية التفجرات التلقائية وتشظياتها، ينبغي أن ننظم مراقبة الحالة التي ينادينا فيها الشعر. فقد يأتي الشعر ونحن مشغولون بفوضى غير منظمة، وقد يمر الشعر فلا ننتبه له. وبالتالي، فأنا أُدرب نفسي على الإصغاء لهذا الصوت الشعري.
حسن نجمي: كيف تنظم هذا الإصغاء إذن؟
محمود درويش: أنظمه بخلق عادات وتقاليد كتابية، إذ إنني درّبت نفسي وبصعوبة على الانضباط في وقت الكتابة. على أن أجلس الى مكتبي في الصباح وأُحاول الكتابة، لكن بدون أن أُرغم نفسي على الكتابة. ولا أعرف من قال بأن الإلهام موجود، لكنه قد يمر ونحن لسنا في انتظاره! بمعنى أن علينا أن ننتظر، أن نحاول قدح شرارة هذه العلاقة بين الإلهام والعمل. وربما علينا أن نتساءل عن معنى الإلهام، ما هو الإلهام. أعتقد أن الإلهام هو اللحظة التي يجد فيها اللاوعي كلماته أو القدرة على التعبير عن نفسه. وقد تأتي هذه اللحظة أو لا تأتي، لكن علينا أن نسعي لانتظارها واصطيادها في الوقت المناسب. ما أقصده هو أنني أفهم هذه الجدلية وانتظر الإلهام، بل أستحثه أحياناً على القدوم. إنني أذهب أحياناً إلى عملي الشعري، إن جاز التعبير، بدون شهية عالية، فأُفاجأ بأن الإلهام قد جاء، وأحياناً أذهب بحماسة لانتظار الإلهام ولكنه لا يأتي. إذن، هذا الشيطان الشعري، وهو فعلاً شيطان، ليس له مواعيد وليست له إنذارات مسبقة. وبالتالي، علينا أن نلعب معه اللعبة الماكرة.
حسن نجمي: حديثك عن جانب من أسرار الكتابة لديك يحفزني على أن أندس قليلاً في مختبر القصيدة التي تكتبها. وما أعرفه شخصياً، وما أنا مقتنع به بصدق، أنك شكلت، عبر التجربة الطويلة وخبرة السنوات المتراكمة من الكتابة، نوعاً من المختبر في كتابة الشعر العربي الحديث والمعاصر. مختبر متميّز لمعجم من الكلمات الخاصة. كيف تربي في الظل هذه الكلمات. كيف تحدب عليها. كيف تقيم العلاقة معها. كيف تؤثث فضاء الكتابة. ما نوع الأوراق والأقلام التي تستعملها. ما هو الزمن الملائم والأثير لكتابة القصيدة. باختصار، هل يمكننا أن نتعرف على المختبر السري للشاعر الكبير محمود درويش وما هي مواصفاته وملامحه الأساسية ؟.
محمود درويش: إذا جاز أن لي مختبراً، فإن مختبري نهاري. لستُ من كتّاب الليل، وقد بذلت جهوداً طائلة لكي أتعود على الكتابة في الليل، لأن الوقت في الليل أطول، ولكن لا أعرف الأسباب الغامضة. وإذن، مختبري مفضوح، مكشوف في الضوء. صحيح أن الكتابة تعبير عن اللاوعي، إذ الكتابة هي اللاوعي عندما يتكلم. لكنها تحتاج الى وعي شديد. وهذا هو الذي قد يربط بيني وبين الضوء، فلا أكتب إلا في الضوء (الطبيعي). من طقوسي.. أو بالأحرى عاداتي الأُخرى، أنني لا أكتب إلا على ورق أبيض غير مسطر، وأقطع كثيراً من الورق. كلما أشطب سطراً على صفحة، أُعيد نسخ ما كتبت على صفحة أُخرى. لا أُحب المسودات المشوشة. كما أنني أكتب بقلم الحبر السائل، باللون الأسود دائماً. وأحياناً، عندما تتعثر الكتابة.. أتطير من قلم ما فأُغير الأقلام، معتبراً أن المشكلة في الأقلام. وإذا صدقت هذه الريبة فإنني أُؤمِنُ بالقلم الآخر. إنها أوهام صغيرة، لكنها لا تضر القارئ ولا تضر الشاعر، نوع من التطيُّر من قلم معين والتفاؤل بقلم آخر. من عاداتي أيضاً أنني لا أستطيع الكتابة لا في الطائرات، ولا في القطارات، ولا في الفنادق، ولا في مكان خارج المكان الذي توجد فيه كتبي أو على الأقل مكتبتي الرئيسية. أحتاج دائماً الى مراجع. وقد تستغرب سي حسن، كلما كبرت في السن وفي التجربة الشعرية، تزداد شكوكي إزاء دقة الكلمات وصوابها، أنا لم أكن أفتح القاموس بهذا الشكل الذي أفتحه الآن. فلا يمر يوم بدون أن أفتح القاموس للتأكد من سلامة الكلمة وجذرها ومصدرها وتعدُّد معانيها. ولذلك، لا أستطيع أن أكتب في مكان لا توجد فيه قواميس أو مراجع أو انسيكلوپيديا. في الكتابة الشعرية أحتاج إلى مراجع كما لو أنني أقوم ببحث، بينما القصيدة في ظن الناس الذين لا يكتبون تبدو كما لو كانت خاطرة، لا، الشعر ليس خاطرة. إنه عمل بحث شاق، يحتاج إلى التدقيق في المراجع والمرجعيات والعودة الدائمة الى المكتبة. إن القصيدة بحث..
حسن نجمي: محمود، عندما تنتهي من كتابة قصيدة وتشعر بأنها اكتملت وأصبحت قادرة على الخروج الى قارئها، كيف تعثر لها على عنوان. ثم ما حكاية العناوين في تجربتك. هل يحدث أن قصيدة كتبتها سبقها عنوانها مثلاً أم أن العنوان لديك يأتي ليسمي القصيدة بعد ولادتها. واستطراداً، هل مجموعاتك الشعرية تسبقها عناوينها أم تأتي العناوين لاحقاً ؟.
محمود درويش: لم يسبق لي، عبر كل تجربتي الشعرية، وهي طويلة أن سبق أي عنوان أية قصيدة أو سبق اسم معين لمجموعة شعرية المجموعة نفسها. ودائماً، أجد صعوبة في اختيار العنوان. كما أنني أستعين بأصدقاء في أحيان كثيرة. وأحياناً أُرسل المجموعة الشعرية إلى ناشر بدون أن أعثر لها على عنوان، فأستعين بالناشر وأستعين بهيئة القراءة (في دار النشر) لكي يقترحوا علي مجموعة عناوين أختار من بينها العنوان الملائم. وقد حدث هذا مع مجموعتي الجديدة (لا تعتذر عما فعلت)، إذ تم رقن النصوص وتصفيفها ولم نعثر لها على عنوان، واقترح علي الناشر عشرة عناوين، اخترنا منها هذا العنوان. كذلك، حدث نفس الأمر مع مجموعتي الشعرية (لماذا تركت الحصان وحيداً) التي تأخرت في المطبعة أكثر من شهر في انتظار العثور على العنوان الملائم. وفي النهاية، توفق أحد الأصدقاء في اقتراح هذا العنوان. دائماً، كان العنوان يأتي في آخر العمل الشعري..
حسن نجمي: نفس الشيء حدث بالنسبة لمجموعتك الشعرية الأُولى (عاشق من فلسطين) الذي اقترح الناشر عنوانها بعيداً عنك كما نذكر لكن، عندما تتواطأ مع ناشرك على قبول عنوان معين، سواء كان من اقتراحه هو أو اقترحه أحد الأصدقاء، كيف تؤسس علاقتك مع هذا العنوان. كيف يصبح جزءًا منك ومن تجربتك ؟.
محمود درويش: أولاً، عند الاختيار أُراعي ألا يكون العنوان أحادي الدلالة. لماذا. لأن عنواناً محدّد الدلالة يقود القارئ الى تأويل محدّد للكتاب، فأحرص أن أتركه مفتوحاً على عدة احتمالات وعلى عدة مستويات من القراءة. في البداية، أتعوّد على أن هذا العمل بهذا الاسم هو ابن لي وجزء مني، لكن مع كثرة التداول، يصبح (شخصية مستقلة)، فيعرف بذاته وباسمه وتصبح له كينونة، وثمة بعض من أعمالي الشعرية، تمنيت لو راجعت عناوينها، ولكن ذلك أصبح خارج الإرادة.
حسن نجمي: أيضاً، عندما تكتب شعراً.. هل تحتاج الى تفضية موسيقية. هل من عادتك أن تهيئ فضاء موسيقياً معيناً ولكتابتك. وبمعنى آخر، هل تنصت للموسيقى أثناء استيلاد قصيدتك، أم تفضل أن تسمع الموسيقى خارج لحظات الكتابة. وما علاقتك أساساً بالمرجع الموسيقي ؟.
محمود درويش: أحياناً، أحتاج الى نوع من الموسيقى لكي يخدم إيقاعي أو لكي آخذ من هذه الموسيقى إيقاعاً ما، مثلا، عندما أُريد أن أكتب نصاً خافتاً أستمع الى شوپان، وعندما أُريد أن أكتب مقطعاً عالي النبرة وقوياً، أستمع الى بتهوڤن. من جهة أُخرى، أستمع الى الموسيقى لكي آخذ منها أفكاراً. لماذا. لأن الموسيقى لا تقول لك بالكلمات، ما هي موضوعاتها، وما هي طريقها، وما هي رحلتها، فأنت تؤول وتترجم من خلال تفاعلك مع الموسيقى هذه الأصوات التجريدية الى كلمات ملموسة. إنني كثيراً ما أستفيد من الموسيقى وأستخدمها ليس فقط لتقوية أو تخفيض النبرة أو الايقاع، بل من أجل تحويلها الى كلمات تُعينني على أن أُترجم الموسيقى الى لغة.
حسن نجمي: والموسيقى التقليدية، موسيقى الشعوب وبخاصة الموسيقى التقليدية الفلسطينية، ألا تهتم بها ؟.
محمود درويش: دعني أُعطك مثالاً على هذه العلاقة مع موسيقى الشعوب من خلال تجربتي الشعرية: عندما كنت أشتغل على نصي الشعري عن الهنود الحمر في سنة 1992 ، قرأت كثيراً من أدبهم ومن خطبهم البليغة جداً، ومن شعرهم، ومما كتب عنهم. وأيضاً، اشتريت مجموعة من الأسطوانات وأشرطة موسيقاهم. وذلك لكي أدخل الى هذا العالم الغرائبي بالنسبة إلي ولكي أدخل في عمق الثقافة الروحية لهذا الشعب الذي تعرض لأكبر إبادة في التاريخ البشري الحديث. فعلاً، أحتاج إلى موسيقى الشعوب. وحدث نفس الشيء، عندما كتبت عن الأندلس. فكل ما كتبته، كتب على إيقاع موسيقى الفلامنكو، وعلى أصوات القيثارات والكمنجات الغجرية.
حسن نجمي: استطراداً وفي نفس الأُفق، كيف تقيم علاقة مع الفنون البصرية وضمنها الثقافة التشكيلية؟.
محمود درويش: مشكلتي مع الفنون البصرية ومع الفن التشكيلي بالذات، أنني أبحث فيها عن الشاعرية، أنا منحاز الى الفن التشكيلي التجريدي الذي لا يقدم لي صورة واضحة نهائية أو وجوهاً ذات ملامح محددة، أفضل الفن المائي المفتوح على عدة قراءات، ولذلك لا أصلح أن أكون ناقداً تشكيلياً، لأنني لا أبحث في هذا الفن إلا عن حضور الشاعرية وتعبيريتها.
حسن نجمي: أخي محمود، أنت تكتب نصاً شعرياً عظيماً له قيمة ملموسة في الشعرية الإنسانية، وله حضوره على مستوى الجغرافيات الشعرية الكونية المعاصرة. بالطبع، لا أُجامل وإنما أتحدث عن معرفة شخصية وعن مواكبة للنص ذاته ولأصدائه الممتدة. وفي نفس الآن، أُلاحظ أنك تمد جسوراً وتربط الوشائج مع عدد من الصداقات والقراءات والمرجعيات الشعرية الإنسانية، ولك صداقات مع بعض الشعراء الكبار، أحياناً صداقات مباشرة وأحياناً أُخرى صداقات مع نصوصهم الشعرية والمرجعية. كيف تشيد حوارك مع هذه الصداقات وهذه الجغرافيات والنصوص الكونية (أُفكر الآن في يانيس ريتسوس مثلاً، شاعر اليونان الكبير الذي تعرفت عليه وكتب عنك) ؟.
محمود درويش: في الحقيقة، أغلب صداقاتي الشعرية تمت من خلال النص، ونادراً ما بذلت جهداً لتطوير علاقة شخصية. ذلك لأنني أعرف أن هؤلاء الشعراء الكبار في الغالب هم كبيرو الشأن وشديدو التهذيب، وبالتالي لا أفرض عليهم نوعاً من تَطَفُّل الصداقة. ذكرت ريتسوس، وقد أقمت معه نوعاً من الصداقة لأنني أقمت لفترة معينة بأثينا، وقدّمني للجمهور أول مرة قائلاً في حقي كلمات أخجلتني كثيراً، وتناولنا الغداء معاً، ثم زرته في بيته. لكننا لم نطور معاً هذه العلاقة من خلال المراسلات أو تبادل المكالمات الهاتفية مثلاً، وتقريباً انتهت في فترتها الأُولى، وظلت في حدود المجاملة والضيافة الشعرية، ضيف ومضيف. وكذلك نفس الشيء يمكنني أن أقوله عن علائقي ببعض الشعراء الفرنسيين، وبعض الشعراء العالميين الآخرين. لكن هناك علاقة صداقة عميقة مع ديريك والكوت رغم أننا لم نلتق. أبداً، لم نلتق وأنا معجب بشعره، وأظن أنه يعرف مدى إعجابي بشعره. يمكنني أن أستحضر هنا صداقتي مع برايتن برايتنباخ، الجنوب الإفريقي، وهي صداقة كانت قوية بحكم لقاءاتنا المستمرة عندما كنت في پاريس، حيث كنا نقيم معاً، لكننا بعد أن نفترق، لا نلتقي ولا تظل هناك مواكبة يومية إلاّ من خلال العلاقة مع النص. وطبعاً، عندما نلتقي تتجدد هذه الصداقة. أذكر أيضاً علاقات أُخرى كانت قوية وثرية مع شعراء روس من أمثال يڤتوشنكو، بريزنسكي ورسول حمزاتوف، وغيرهم، ولا أنسى الصداقات مع بعض الكتاب الكبار كالروائي البرتغالي العظيم ساراماغو، الذي زارنا في رام الله، والكاتب النيجيري الكبير وول سوينكا، وصديقي خوان غويتيسولو الذي أعرفه كثيراً والذي يسهّل العلاقة ويبادر الى الصداقة.
حسن نجمي: وصداقاتك الشعرية العربية، ما هو رصيدك منها ؟.
محمود درويش: بالنسبة لصداقاتي الشعرية على المستوي العربي، الأمر مختلف.. فنحن نعيش في بيئة واحدة ونلتقي كثيراً، وأنا أشكر الله أن ليس لي خصوم. كما لا أتوقف كثيراً عند من يبادلني العداء. وعلاقتي بالشعراء الكبار ممتازة. لقد كانت علاقتي مع الشاعر نزار قباني علاقة صداقة قوية. علاقتي مع أدونيس علاقة صداقة طويلة ودائمة، وكذا علاقتي مع سعدي يوسف علاقة صداقة راقية، ومع سليم بركات.. ومع الجيل الجديد من الشعراء الفلسطينيين، وفي مصر مع أحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر، وأيضاً مع ممدوح عدوان ونزيه أبو عفش (في سورية). وعلاقة الصداقة في المغرب مع محمد بنّيس.. ومع حسن نجمي..
حسن نجمي: عفوا، أنا تلميذ لك يا أخي.
محمود درويش: الحمد لله، علاقاتي صحية وسليمة وليس بها أي غبار، لأنني لا أؤمن بالحزبية الشعرية بتاتاً. وأتحرك خارج اعتبارات بعض الظواهر السلبية التي تسود الحياة الثقافية العربية، كالتكتلات أو الحزبيات أو المافيات الصغيرة أحياناً. ذلك لأنني أعتقد أن الفضاء الشعري واسع ويتسع لكل الخيارات والتجارب، ولكل الأجيال أيضاً. إن علاقتي بالأجيال علاقة سليمة، فأنا مجايل لأصغر الشعراء سناً وأتعلم منهم وأُصغي إلى حساسيتهم الجديدة، لأنهم هم المستقبل في آخر الأمر. وبالتالي، فنحن الأكبر سناً ينبغي أن ندقق في سلامة مجازنا وعالمنا الشعري. قد يكون هذا العالم دخل في طور كلاسيكية محافظة ونحن لا ندري. لذلك علينا دائماً أن نصغي وأن نقرأ النتاج الجديد لكي نفهم بشكل أفضل الحساسية الشعرية الجديدة، سواءً كنا نقبلها أو نرفضها. فقد نكون هرمنا دون أن ندري. وبالتالي على المرء أن يجدد شبابه من خلال توطيد العلاقة مع شباب الشعر الحديث.
حسن نجمي: هيأت لي أُفق السؤال عن مواكبتك للقصيدة الفلسطينية الجديدة. كيف تقرأ نتاج شعراء الجيل الجديد. كيف تقيم مع هؤلاء الشعراء الجدد علاقة. وكيف تحاورهم بوصفك مرجعية كبرى في الشعر الفلسطيني، وفي الشعر العربي.؟ أعرف عدداً من أصدقائي الشعراء الفلسطينيين الشباب، وكيف يحبونك ويواكبون أعمالك قراءة ومواكبة نقدية، فكيف تواكبهم أنت من موقعك. هل تحاورهم من موقع الأستاذ، المرجع أم من موقع الصديق الذي يكتفي بالقراءة والانصات فقط. هل توجه أم تنصح مثلاً ؟.
محمود درويش: لم أتصرف أبداً، ولو مرة واحدة، من منطلق كوني أكبر سناً أو أكثر تجربة شعرية، بالعكس، أحرص على أن أُعطيهم الإحساس بأنني أُريد أن أتعلم، وبأنني أُريد أن أفهم المناخ الشعري الجديد من خلالهم. طبعاً، إذا طلبوا مني النصيحة فإنني أُقدمها بأقصى درجات الأناقة تواضعاً، وأنصح بالخصوص عندما يكتب الشاعر قصيدته بالوزن، بألا يخطئ الوزن. إذا كتب بالفصحى، عليه ألا يخطئ في الصرف والنحو. هناك أدوات أولية علينا ألا نخطئ فيها. أنا أحترم خيار قصيدة النثر. ولكنك إذا كتبت وزناً فعليك ألا تلعب بالوزن. عليك أن تتقن الوزن، وأن تطوعه لمتطلباتك لأن له قواعده ونظامه الزمني والإيقاعي. وأنصحهم بأكثر من ذلك: ألا يكرروا تجربة الجيل الذي سبقهم. ذلك أن الجيل السابق قد قام بالواجبات الوطنية في الشعر، فوفّر عليهم هذا الجهد. إذن عليهم أن ينتبهوا الى تطوير الجماليات والذائقة الجديدة، وتطوير القصيدة، والاهتمام بقضية الشعر أكثر من الاهتمام بشعر القضية. إن الموضوعات التي كانت تؤرق المجتمع الفلسطيني قد قدم الجيل الشعري السابق كثيراً من الشهداء (شهداء بالمعنى المجازي) من أجل تثبيتها في المدونة أو في السجل الثقافي الفلسطيني. فهم إذن على أرض ممهدة لهم، وقد يكون جيلي أو بعض مجايلي، هم سلاح الهندسة للكشف عن أرض الصراع. بمعنى أن أمامهم ظروفاً أفضل لكي يُطَوِّروا جمالية القصيدة. وبالتالي، فإن علاقتي معهم سليمة جداً ولا أُعطيهم أي إحساس بأنني أُحاورهم أو أتحدث إليهم بوصفي مرجعية. ودائماً أقول لهم: تحرّروا منا!
حسن نجمي: أصل الى سؤال ضروري، ولا أُريد أن أُثقل عليك أو أُزعجك بالأسئلة التي لا تحب، لكن لا بأس أن أسألك: إلى أي حد ما زالت (تضغط) على قصيدتك وعلى يوميِّك الشعري قضيتك الوطنية. كيف تصرف أمرك معها كشاعر أساساً ؟.
محمود درويش: خير جواب عن هذا السؤال هو لا ما أقوله عن القصيدة، بل ما تقوله قصيدتي عنها. الشعر يقول أكثر ممّا يقال عنه. ولست من المتحمسين لإخضاع إبداعهم الشعري لنظريتهم النقدية. طبعاً، لا بد لنا من أفكار عن الشعر، لكنني أؤمن أكثر بالمفاجأة الشعرية والنظرية تكون دائماً لاحقة بالإبداع ولا تسبقه، وبالتالي، فإن هذا الموضوع لا يطرح أي مشكلة. إن ضغط اللحظة الراهنة على نصي الشعري قد تم استيعابه بطريقة تدل عليها قصائدي الأخيرة. لم أعد أُعاني من هذا المأزق، وأعرف كيف أتدبّر أمر ضغط اللحظة الراهنة على المتطلبات الجمالية، لكنني لا أعرف كيف أقول ذلك نظرياً، بل أعرف كيف أُعالجه إبداعيًّا.
حسن نجمي: لكن بشكل عام، كيف يمكن للقصيدة أن تتحمل العبء الإنساني كثقل يومي، كانشغالات، كقضايا وجودية. كيف يمكن النهوض بهذا العبء في تجربة محمود درويش تحديداً ؟.
محمود درويش: بودي أن أستعيد هنا سؤال أدورنو: هل يمكن كتابة الشعر بعد (أوشفيتز). آه.. ممكن. صحيح أننا في زمن وحشي جداً، في زمن استبداد كوني، في زمن مضاد للشعر، في زمن اللاشعر بالمعنى الشمولي. لكنني أعتقد أن الشعر لا يعرف إلا بنقيضه. من فرط ما هوى العالم غير شعري، هناك ضرورة للشعر. لكن الشعر لا يحارب الحرب على سبيل المثال بأسلحتها، فهو أكثر مكراً ويستطيع أن يستمد قوته من هشاشة الأشياء ومن هشاشته هو. الشعر بطبيعته هش، وإذا حملناه من الطاقات لحل مشاكل الكون نكسره. ما يستطيعه الشعر هو أن يتلصص على الضوء. يستطيع أن يتعلم من قوة العشب أكثر من قوة الطائرة. ويستطيع أن يجدد دهشة الإنسان، لأن الكلمات في الشعر تبقى دائماً في حياتها الأُولى. كيف نعود الى طفولة الأشياء، وإلي طفولتنا داخل هذه الأشياء ونجددها.. هذه أفضل طريقة للدفاع عن وجودنا الإنساني. إن الشعر لا يستطيع أن يغيّر العالم. ما يستطيعه هو أن يمنح الإنسان قيمة الإحساس بجدواه، بل ويعطيه إحساساً بمعنى ما لهذا الوجود. الشعر متواضع جداً، ويجب أن يكون متواضعاً لكي لا ينكسر في مواجهة الأثقال التي قد يحملها لنفسه. إنه التحلل من وهم القدرة على تغيير الواقع. إنه صراع ضد الموت، الموت بكل الأسباب والأشكال. وبهذا المعنى، يعيد للحياة الإنسانية شيئاً من ألقها ومعناها. إنه يدافع عن الإنساني بما هو يعادي الموت.
حسن نجمي: في مجموعاتك الشعرية الأخيرة، خصوصاً منذ (الجدارية)، أصبح لديك إحساس بالزمن أقوى من الإحساس بالمكان الذي لربما كان يميّز سيرورة خطابك الشعري في السابق. وأنت تعرف أن إحدى أهم المجموعات الشعرية لدى الشاعر الإيطالي أونغاريتي كان اسمها (الإحساس بالزمن). من أين ينبثق هذا الإحساس القوي الطارئ في عمق تجربتك الشعرية الأخيرة ؟.
محمود درويش: إن الزمن هو الذي يجعلك تحس به (ضحك). نحن لا نعرف هل ندخل في الزمن أم الزمن هو الذي يدخل فينا! ولعله إحساس ينبثق من كون ما تبقى من العُمْر أصبح معروفاً ومرئياً. البدايات ابتعدت وصارت النهاية أكثر وضوحاً. وهذا يحرك أسئلة حول الموت، وحول الوجود والعدم، ويعطيك إحساساً بأنك في صراع مع الزمن.. هل تسبقه أم يسبقك. وأن عليك أن تسجل شهادة حضورك في العالم من خلال بَلْورة بَلَّوْرِيَة لنص شعري أقرب الى الشعر البيو الصافي. هذا الهم لم يكن موجوداً في السابق بنفس الكثافة. ذلك أنني لا أملك الوقت الآن لأجدد وهمي بتغيير العالم. أنا منشغل الآن بالعثور على معنى ما لهذا الوجود العبثي في محاولة لمقاومة العبث بعبث جمالي.
حسن نجمي: سؤال أخير، محمود. أرى أنك لم تكتب حتى الآن نصك الشعري عن المغرب. وذلك رغم معرفتك العميقة بالمغرب والمغاربة من خلال تعدد زياراتك، وتعدد صداقاتك. ربما ليس من الضروري أن تكتب هذا النص، لكن أصدقاء آخرين من الشعراء العرب الكبار حاولوا الكتابة عن الفضاء المغربي، كل بطريقته. ومن خلال ما عرفوه وعاشوه وما انخرطوا فيه من أُفق مغربي. هل يمكننا أن ننتظر يوماً نصاً شعرياً من محمود عن علاقته (السرية) بالمغرب ؟.
محمود درويش: إن علاقتي بالمغرب علاقة جميلة وعميقة. لكنني أرجو أن أعيش تجربة حياتية أعمق لكي يكون نصي الذي أتمنى أن أكتبه عن المغرب بعيداً عن النصوص السياحية. أما تجربتي الحالية مع المغرب فلا يمكنها أن تنتج إلا نصاً سياحياً. أتمنى أن أعيش التجربة الأعمق لكي أكتب عن المغرب، وهذا دين للمغرب عليَّ.
هذه المادة بإذن من الصديقة سهام داود من صفحتها الشخصية لى موقع فيسبوك https://www.facebook.com/SihamMemory