ترجمة شروق صلاح
جيمس بالدوين (1924-1987) – James Baldwin هو مناضلٌ أفريقيّ أميركيّ وأحد أهم الأدباء الأميركيين في القرن العشرين. في هذا المقال الذي نُشِر على موقع “Mondoweiss” بعنوان “جيمس بالدوين والدولة اليهودية”، يستعرض الباحث الأميركيّ ستيفن سلايطة موقف بالدوين الجذريّ من الصهيونيّة، باعتبارها حركةً أيديولوجيّةً تُسَخّر السمات الدينيّة والثقافيّة لليهوديّة، من أجل تشكيل كيانٍ سياسيّ يخدم “طبقة عابرة للقوميّات من أنصار الحروب وشركات المرتزقة وتجار الأسلحة”، وتخدم مصالح إمبرياليّة تُمَكّن الفوقيّة البيضاء عالميّاً.
بالنسبة لجيمس بالدوين، لا يبدأ العالم ولا ينتهي عند حدود الولايات الأميركيّة المتّحدة. ولطالما اتخذت تعليقاته عن التوتّر بين اليهود والسود في مسقط رأسه أبعاداً عالميّةً. كما طرح أفكاراً استثنائيّةً حول العلاقات العرقيّة داخل بلاده، كما في الشؤون الدوليّة وبشأن الصراع الدائر في الشرق الأوسط.
لم يكن بالدوين مهووساً بالسياسة، لكنّه كما يليق بشخصٍ في مكانته، لطالما كان بمعرض التعليق على القضايا المعاصرة الهامّة عالميّاً. لم تتهرّب الشخصيّات العامّة من مواجهة الأسئلة المطروحة عن “إسرائيل” وفلسطين؛ ولم يخالفهم بالدوين في ذلك. تكشف لنا المناسبات القليلة التي تحدّث فيها بالدوين عن المنطقة مفكراً ذا رؤية بالغة الأهميّة، وخطيباً متمرّساً لا يمنح جمهوره رفاهيّة المقولات المُريحة.
ظهرت أبرز تصريحات بالدوين بخصوص “إسرائيل” والصهيونيّة في سياق الجدل الذي أحاط بانتخابات عام 1984 حين ترشّح جيسي جاكسون عن الحزب الديمقراطيّ، إذ مثّلت حملته الانتخابيّة علامةً فارقةً في السياسة التقدميّة والسوداء. في حديثٍ اعتقد جاكسون أنّه ليس للنشر مع أحد الصحافيين، استخدم جاكسون لفظ “حايمتاون” لوصف مدينة نيويورك (حايم: لفظ معادي لليهود.) نَشْرُ الاقتباس في الصحافة شكّل فضيحةً للحملة الانتخابيّة.
بالدوين الذي ادّعى أنه قد “تم استبعاد جيسي لأسبابٍ معيّنةٍ”، تناول هذا الخلاف في مناقشةٍ في جامعة ماستشوستس-أمهرست. يظهر ذلك في أنطولوجيا بعنوان “صليب الفداء” (“The Cross of Redemption”) وهي أنطولوجيا تضمّ خطاباتٍ ومقالاتٍ ومراجعاتٍ نقديّة لم تُجمَع سابقاً (وكان بالدوين ناقداً شرساً وبلا رحمة أحياناً). نصّ الأسئلة والأجوبة، يمكّننا من قراءة بالدوين يتحدّث بعفويّة وارتجال.
تُعد هذه المناقشة وثيقةً هامّةً، بدايةً لأنها توحي بأنّ الحاضرين لم يفهموا ما رمى إليه بالدوين. وهو ذهب إلى تعريف الصهيونيّة بأنها مصلحة إمبرياليّة غربيّة، بدلاً من الحديث عن بديهيات النزاع والسلام:
“يبدو لي أحياناً، أننا مطالبون بالتظاهر بفضيلة الصمت متى ذُكرت “إسرائيل”. حسناً، لنسأل لماذا؟ إنها دولة كغيرها من الدول. تأسست بطريقة فريدة ذات خصوصية. لكنها لم تصبح دولة -وأؤكد على النفي- بسبب أنّ من كتبوا وعد بلفور أو أنّ تشرشل -أو أيّاً كان في أوروبا أو العالم الغربي- يهتم بصدقٍ لما حدث مع اليهود. أتمنى لو كان بوسعي الزعم بغير ذلك، وسيكون كلامي كذباً إنْ فعلت – فقد قامت”إسرائيل” كوسيلة لحماية المصالح الغربيّة على بوابة الشرق الأوسط.”
يؤكد بالدوين على هذه النقطة عندما يسأله أحد الحضور عن صحة تلميحه بأن “إسرائيل” قد “تأسست لحماية المصالح النفطيّة في المنطقة”. جاء ردّ بالدوين على ذلك قائلاً: “لقد قُلتُ حماية المصالح الحيويّة للعالم الغربيّ، ولم أقصد أي تهكمٍ أو سخرية، لكنني وحسب تجربتي، ٍسأكون كاذباً لو أخبرتك أنّ الأوروبيين -الإنجليز والهولنديين والألمان والفرنسيين- يولون اليهود أيّ اهتمامٍ حقيقيّ”. وبذلك يعود بالدوين إلى مسألة أنّ اليهود، بالنسبة للتراث الرأسماليّ الغربيّ، لطالما كانوا شعباً إما يُنبذ أو يُستغل.
لا يرى بالدوين الصهيونية ثقافةً متأسلةً ولا سمةً دينيّةً، إنما تعبيراً حديثاً عن منطق استعماريّ قديم. “ليس من الضروري أن تُحِبَّ اليهود كي تكون صهيونيّاً، أنا شخصيّاً أعرف العديد من الصهاينة المعادين للسامية”. هذه نقطةٌ تُناقضُ الركائزَ الأساسيّة للصهيونية: [الركائز التي تُفيد] أنّ “إسرائيل” تجسّد اليهوديّة، أنّ “إسرائيل” هي ردّ ضروريّ على معاداة السّامية، وأنّ “إسرائيل” تقدّم نموذجاً للطوباويّة القوميّة. تُظهر هذه الأيديولوجيا، إلى جانب وظائفها الأخرى، أنّ الفصل بين البشر الذي يحتلّون منطقةً وبين الفائدة الاقتصاديّة للدولة القوميّة التي أقيمت باسمهم هو فصل مرجّح، بل وضروريّ، في تكوين الإمبرياليّة.
ما معنى أن تكون صهيونيّاً معادياً للسامية؟ (بالدوين على حقّ بالمناسبة، هذا الوصف يلائم تماماً، وبطرق مختلفة، القادة المسيحيين الإنجيليين، ورؤساء الدول الغربية، وأثرياء الخليج). هذا يوضح بدايةً أن الصهيونية لا يمكن لها أن تزعم الحفاظ على الشعب اليهوديّ في أنحاء العالم. أولاً وقبل كل شيء لأنّها دولة، وكونها كذلك فهي موجّهة نحو خدمة مصالح نخبها.
الأنكى من ذلك أن مجرّد احتمال وجود صهيونيّة معادية للساميّة يوضّح أنّ الدولة ليست حرماً مقدساً، بل كياناً متورّطاً في العنف ذاته الذي تزعم مكافحته. يُسهّل هذا الشرخُ التفاعلَ بين الاستعمار والرأسماليّة: الخلط بين الشعب والدولة، تشكّل سياسيّ موجّه لأهداف غير إنسانيّة، دون أن يعيش الشعب أي نوعٍ من المثاليّة؛ فالدولة ليست قادرة على -وهي غير معنيّة بـ- معالجة اضطراب ما بعد الصدمة عند اليهود.
إنّّ الصهيونية المعادية للسامية ممكنة لأنّ “إسرائيل” تُـفيد الطبقة الشوفينية الحاكمة، والمنتمون لهذه الطبقة لا يهتمون إطلاقاً بمصلحة سكّان المنطقة. في الحقيقة، ونظراً لظروف العنف وتراكم السلطة، من المنطقي ألّا تحب اليهود وتؤيد “إسرائيل” في الوقت ذاته. فإن اليمين المتطرّف لم يختر “إسرائيل” كنموذج الحنكة السياسية عبثاً.
لم يكن بالدوين وحده من خَلص لهذا الشكل من التحليل. لما يزيد عن القرن، أُقحم المفكرون الفلسطينيّون وأصوات عديدة مناهضة للاستعمار في نقاش الإثنيّة القوميّة. لم يحتج بالدوين أن يكون مختصاً بشؤون المنطقة ولا أن يكون له تاريخ شخصيّ يربطه بها حتى يطوّر نقداً واضحاً للصهيونية. لقد بدا لدى الرجل فهمٌ حسيٌّ لعنفها الفريد. ولم لا؟ فهو يعي ما تعنيه الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية، ويعي جيّداً ما تعنيه المسيانيّة والاستثنائية. لقد فهم العنصرية الأميركيّة.
كان يمكن لمن يتابع بالدوين عن كثب أن يتوقّع توجّهه هذا. فقد كان يعبّر عن استيائه من الصهيونيّة وتشييئها لبياض البشرة حتّى قبل لقاء جامعة ماستشوستس. أفكاره عن العلاقات اليهوديّة-السوداء أعقد من أن تُلخّص في مقالٍ واحدٍ (وأوسع من مجال فهمي)، إنما لو كان التلخيص ممكناً، لاستوفى الاقتباس التالي ذلك: “لا أحد يتمنّى أن يحكي له يهوديٌّ أميركيّ بأنّ معاناته تعادل في شدّتها معاناة الأميركيين السود. ليست بذات الشدّة. ويُمكنك معرفة ذلك من لهجته في التأكيد على الأمر.”
لا يُقصد بهذا الاقتباس، الذي يكشف رجلاً منهكاً إنّما غير مهزوم، أن يخلق هرميّة في المعاناة بحسب تراتبيّة عرقيّة. عام 1979 نشرت صحيفة “The Nation” مقالاً لبالدوين يحدّد فيه مفهوم البياض ليس من خلال المظهر الخارجيّ أو الجينات، إنما من خلال العلاقات الاجتماعيّة: “اليهوديّ في أميركا هو رجل أبيض. عليه أن يكون كذلك، بما أنّي رجل أسود، وهو يفترض، أن تلك هي حصانته الوحيدة ضدّ القدر الذي قاده إلى أميركا.”
يرى بالدوين أن الطموح اليهودي للبياض هو محاولة حمقاء للتصالح بين قوّتين عدوّتين بطبيعتهما: “لم تقم دولة “إسرائيل” لأجل خلاص اليهود، بل لخلاص المصالح الغربيّة. هذا ما صار واضحاً (يجب القول أن هذا كان دوماً واضحاً بالنسبة لي). لطالما دفع الفلسطينيون ثمن سياسة “فرّق تَسُد” للاستعمار الإنجليزيّ وللشعور بالذنب في ضمير أوروبا المسيحيّ لأكثر من ثلاثين عاماً.” (لاحظ أن بالدوين عنى بالظلم 1948 وليس 1967).
الإشارة للفلسطينيين هامّة. فإن بالدوين الذي وصف نفسه “داعماً للعرب”، يرفض إغفالهم في النقاش، مما يعني رفضه لما يسمى برعونة “الصراع” كشأن يهوديّ بأصله (الشيء الذي يختار معارضو الصهيونيّة فعله دون وعي). يؤكد بالدوين على هذه النقطة:
“لا أمل قطعاً -أكرّر: قطعاً- في تحقيق السلام في “الشرق الأوسط” كما تسميه أوروبا بعجرفة (كيف لأوروبا أن تعرف بحق السماء؟ هي التي فشلت فشلاً ذريعاً في إيجاد ممر مؤدٍّ للهند) بدون إشراك الفلسطينيين في الحوار. إن سقوط شاه إيران لم يكشف فقط مدى زيف قلق كارتر بخصوص “حقوق الإنسان”، ولكنه كشف أيضاً عمّن مدّ” إسرائيل” بالبترول ومن تمدّهم” إسرائيل” بالسلاح. وظهر أنّها جنوب أفريقيا البيضاء. علينا قول ذلك.”
يعمد بالدوين هنا إلى تبسيط تحليله الباروكيّ المركّب إلى أساسياته. الصهيونية تمكّن البُنى العالميّة للفوقيّة البيضاء، وكذلك الاستثمار الدينيّ والثقافيّ في أيديولوجيا تُعيق السياسة الأخلاقيّة. بالطبع انحازت “إسرائيل” إلى جنوب أفريقيا البيضاء، وبالطبع تعمل “إسرائيل” على تأجيج المؤامرات فيما يُسمّى الشرق الأوسط. لهذا أُقيمت “إسرائيل”. وكان تدمير فلسطين تمهيداً لتحالفات رجعيّة.
في الأسبوع الماضي، كشف فيسبوك أن إحدى شركات الاستشارات الإسرائيلية تدخلت في الانتخابات التي جرت في الجزء الجنوبيّ من العالم؛ جزءٌ أسمّاه ناطقٌ بلسان الشركة: “تعدّداً مناطقيّاً مربكاً”. لم يكن بالدوين ليتفاجأ، ويجب ألّا يتفاجأ أحدٌ من ذلك. فإن “إسرائيل” في النهاية ما هي إلا متطفل قديم على الانتخابات الأميركية. في عالم منقسم بين جغرافيا الثروة والحرمان، تخدم “إسرائيل” طبقة عابرة للقوميّات من أنصار الحروب وشركات المرتزقة وتجار الأسلحة.
فطن بالدوين مبكراً جدّاً إلى ما تجاهله الكثير من أبرز وجوه اليسار الغربيّ: “إسرائيل” ليست منتجاً معاد بناؤه من المحيط الذي حوله، وليست نموذجاً مثالياً من أصلٍ نبيلٍ، إنّها مجرد مدخل لفرض سيطرةٍ غربيّةٍ غير محدودة على عالمٍ غريبٍ مُستنزف.