مي زيادة

إعداد : محمود أبو حامد

ملف أدب الشتات

مي زيادة (1886-  1941) أديبة وكاتبة عربية وُلدت في الناصرة الفلسطينية عام 1886، اسمها الأصلي كان ماري إلياس زيادة، واختارت لنفسها اسم مي فيما بعد. أتقنت مي تسع لغات هي: العربية، والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية واللاتينية واليونانية والسريانية

كانت مدينة النّاصرة موطن والديّ مي، فأمُّها من أصل سوريّ إلّا أنّ موطنها فهو فلسطين، ووالدها إلياس زيادة أصلهُ من لُبنان، كان معلمًا في مدرسة الأرض المقدسة، كانت مهتمةً بدراسة الّلغة العربيّة، وتعلّم الّلغات الأجنبيّة، فتميّزت ميّ منذ صباها ونشرت مقالات أدبية ونقدية واجتماعية، أما عن حياتها العاطفيّة، فقد أحبّت جبران خليل جبران على الرغم من عدم لقاءهما؛ حيث دامت المراسلات بينهما عشرين عاماً منذ عام 1911 وحتى وفاة جُبران في نيويورك عام 1931. سافرت إلى عدة دولٍ وعانت من اضطرابات نفسية بعد أن أدخلها أقرباؤها إلى مستشفى الأمراض العقلية في لبنان لتلقيّ العلاج. بدأت ميّ زيادة أول مراحلها التّعليميّة في مدارس النّاصرة الابتدائيّة ثمّ تابعت دراستها الثانوية في دير الرّاهبات في مَنطقة عينطورة، ثم استكملت دراستها في كلية الآداب بالقاهرة.

أبدعت مي في مَجال الصّحافة، وكانت تنشر مقالاتها في الصحافة المصرية، وتُمضي في نِهايتها بأسماء مُستعارة، كان من أسمائها المستعارة: “شجية، خالد رأفت، إيزيس كوبيا، عائدة، كنار، السندبادة البحرية الأولى”. كانَ لِمي زيادة دَور في الدِّفاع عَن حُقوق المَرأة، وبِمُطالبة المُساواة كَما أنّها استَحقّت أن تَكون رائِدة مِن رائِدات النَّهضة النِّسائية العَربيَّة الحَديثة، حَيثُ كانَت مُتطلعَة عَلى تاريخ المرأة في الفَترة التي سَبَقت سَجنها فَأكثرت مِن الكِتابة والمُحاضرات والنّدوات؛ لِلمُطالبة بِحقوق المرأة.

النشأة والبدايات

وُلِدت ميّ زيادة في فلسطين في مدينة النّاصرة تحديداً، وذلك في الحادي عشر من شهر شباط عام 1886م، والدُها هو إلياس زيادة، وهو ماروني، أصلهُ من لُبنان، وكان معلمًا في مدرسة الأرض المقدسة، أمّا أمُّها فهي نُزهة معمر، وهي فلسطينيّة الجنسيّة، والتي تُعدّ من أصحاب الأدب الذين يُعنَون بحفظ الأشعار، وقد حَظيت الأديبة ميّ زيادة باهتمام كبير من والديها كونها الابنة الوحيدة لهما بعد وفاة أخيها ومما قالته أمُّها فيها:

انتقل والدُها للعيش في مدينة النّاصرة الفلسطينيّة في النّصف الثّاني من القرن العشرين، وذلك بعد أن كان يسكن في قرية شحتول فيلبنان، وكانت مدينة النّاصرة موطن اجتماع والديّ مي، فأمُّها من أصل سوريّ إلّا أنّ موطنها فهو فلسطين، ومن الجدير بالذِّكر أنّ لخلفية أمها الثّقافيّة والأدبيّة سبباً في إعجاب إلياس زيادة بها. تلقت ميّ مبادئ القراءة والكتابة في قرية الناصرة، وقد انتقل والد مي ّ “إلياس” هو وأسرته الصغيرة إلى لبنان وعمل بالتدريس في قرية عينطورة، وهكذا فارقت ميّ بلدة الناصرة مرتع طفولتها وصباها، فكتبت مذكراتها لمدينة الناصرة: بعد دراسة ميّ بدير المدينة التحقت بمدرسة راهبات عينطورة لتدرس في القسم الداخلي بين عامي ّ(1900-1903)م. إلى جانب دراستها كانت مهتمةً بدراسة الّلغة العربيّة، وتعلّم الّلغات الأجنبيّة، فتميّزت ميّ ونشرت مقالات أدبية ونقدية واجتماعية. بالإضافة إلى جوانب أخرى تتعلّق بالفنّ، والغناء والموسيقى، فتعلّمت العزف على آلة البيانو، وممّا قالت فيها:

أما عن حياتها العاطفيّة، فقد أحبّت جبران خليل جبران عَلى الرُّغم مِن عَدم لِقاءهما؛ حَيثُ دامَت المُراسلات بَينهما عِشرين عاماً منذ عام1911 وحتى وفاة جُبران في نيويورك عام 1931، لَم تتزوج ميّ بأحدٍ من بَعد حُبها لجبران، فَعاشت فترة عَصيبة وعانَت من الوحدة بعد وفاة أحبائها ومن كانوا سَندها في الحياة، فَتفرغّت لِلكتابة والقِراءة والتّأليف، وفي عام 1932 سافرت إلى عدة دولٍ، عانَت مِن حالة نَفسيّة صعبة بعد أن أدخَلَها أقرباؤُها إلى مُستشفى الأمراض العقلية في العَصفوريّة بلُبنان لتلقيّ العلاج.

بدأت ميّ زيادة أول مراحلها التّعليميّة في مدارس النّاصرة الابتدائيّة، وعلى وجه التحديد في دير المدينة الذي ذَكرته في كِتاباتِها، ثمّ عادت لموطن أبيها في لبنان، وفي كسروان تَحديداً وهي في سِنّ الرّابعة عشر، ثمّ تابعت دراستها الثانويّة في دير الرّاهبات في مَنطقة عينطورة، وتعرّفت هناك عَلى الأدب الفرنسي والرومنسي الذي أخذ يروقها بشكلٍ خاص. كما التحقت بعدة مدارس أخرى في لبنان عام 1904 لتنتقل العائلة بعدها عائدةً إلى الناصرة، ويشاع أنها نشرت أولى مقالاتها في سن السادسة عشر. إلّا أنّ ذلك لم يُنسها المدينة التي وُلدت فيها.

شعر وموسيقى

أجادت مي العزف على البيانو، وقرأت أشعار الصوفيين العرب، وأعجبت إعجاباً كبيرًا بابن الفارض، وعلى أيدي الراهبات أجادت اللغة الفرنسية، وحفظت الكثير من أشعار الفرنسيين أمثال دي موسيه، ولامرتين. وفي عام 1904 تخرّجت مي من مدرسة الراهبات عينطورة ورجعت إلى الناصرة عند أهلها. وفي عام 1908 انتقلت مع أسرتها للإقامة في القاهرة. دخلت الجامعة المصرية عام 1916م، ودرست الفلسفة والآداب وأتقنت اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية ولكن معرفتها بالفرنسية كانت عميقة جداً وكانت بدايات نشرها بتلك اللغة في القاهرة، عملت بتدريس اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته، كما عكفت على إتقان اللغة العربية، فكتبت بهذه اللغات في الصحف حول قضايا الثقافة، وقضية نهضة النِّساء العرب والشرقيات عامة وحول اللغة العربية ونهضة الأمم الشرقية، كما أنّها دخلت مسيرة التّربية والتّعليم فعملت فيها.

تفوقت ميّ زيادة في الدراسة والتحصيل العلمي. وأكسبها اطلاعها الواسِع عَلى التّراث العَربي، والأدب الأوروبي فصاحةً وتعبيرًا واضحًا. ومنحها الترحال بين كسروان ويافا وحيفا وبيروت والناصرة والقاهرة ثقةً عاليةً بِنفسها، ومَعرفة عَميقة بِمعاناةِ السكان وحاجاتِهم وأحوالِهم. فَتَح لَها التعليم والصحافة أبوابَ الصداقة والتَّعارف مَع صحفيين ومفكرين وأدباء كَثيرون في لبنان ومصر وبلاد المهجر. أفادت من ثقافة والديها المُتعلمين، ومِن مُلاحظات أساتِذتها وعِلمهم، كما تأثرت بأسلوب عَدد مِن رائِدات النّهضة وروّادها ومن بين هؤلاء: أحمد لطفي السيد الذي سُمي “أستاذ الجيل” وكان أستاذًا للدكتور طه حسين، وتردد أحمد لطفي السيد والدكتور طه حسين إلى صالون ميّ الأسبوعي.

تأثرت مي بفارس الخوري وفخري البارودي وخليل مردم وخليل مطران وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم وروز اليوسف والدكتور أنيس المقدسي وشكيب أرسلان وأنستاس ماري الكرملي والدكتور يعقوب صرّوف صاحب مجلة (المقتطف) وجبران خليل جبران وعباس محمود العقاد وأسلوب الشيخ مصطفى عبد الرازق وأسلوب مصطفى صادق الرافعي ونثره المتقن.

الانتِقال إلى مَصر

انتقلت مَي زيادة إلى مصر سَنة 1907، أقامَت في العاصِمة القاهرة، حيثُ عَملت بِتدريس الُّلغتين الفرنسية والإنجليزية، وقامَت بدراسة الألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوَقت ذاته، بَذلت الجُهد في إتقان اللُّغة العَربية والتَّعبير بِها وفيما بَعد، تابَعت في جامعة القاهرة دراسة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة. بعد أن تخرّجت من كلية الآداب في القاهرة، وُلدت فكرة مي بإنشاء صالونها الأدبيّ الخاص وعقده كل ثلاثاء من كل أسبوع وقد امتازت بسعة الأفق ودقة الشعور وجمال اللغة. كما أنها نشرت مقالاتٍ وأبحاثاً في الصُحف والمجلات المصرية، مثل المقطم، والأهرام، والزهور، والمحروسة، والهلال، والمقتطف. أما الكتب، فقد كان باكورة إنتاجها في عام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية وأول أعمالها بالفرنسية كان بعنوان “أزاهير حلم”. وفيما بعد صدر لها “باحثة البادية” عام 1920، و”كلمات وإشارات” عام1922، و”المساواة” عام 1923، و”ظلمات وأشعة” عام 1923، و”بين الجزر والمد” عام 1924، و”الصحائف” عام 1924.

وتُعدّ ميّ ممّن أبدعوا في مَجال الصّحافة، فكانت تكتب المقالات ذي الأثر الاجتماعيّ في الصّحافة المصريّة، ومن الصُّحف التي كتبت فيها صحيفة “المحروسة” التي كان لها فيها باب خاص وثابت اسمه “يوميّات فتاة”، كانَت تستعرض في هذا الباب مَقالاتِها وتُمضي في نهايتها بأسماء مُستعارة، كان من أسمائها المستعارة: “شجية، خالد رأفت، إيزيس كوبيا، عائدة، كنار، السندبادة البحرية الأولى”. وممّا أضافته ميّ إلى عَملها في سنة 1926 أنّها ابتَكرت بابًا جَديدًا في صَحيفة “السّياسة الأسبوعيّة” وتَسمِيتٌه “خَليّة النّحل”، وكانَ هذا الباب قائما على أساس الأسئِلة وَالأجوِبة الصّادِرَة مِمّن  يُريدُ من قُرّاء الصّحيفة أن يَسأل سُؤالاً أو يُجيبَ عَلى سُؤال مَطروح.

زَادت ميّ زيادة مِن إقبال الفِئة الشّبابيّة عَلى القِراءة مِن الجَريدة بإنشائها باب خليّة النّحل التّفاعليّ، وَبِهذا تَكونُ قَد أضافَت عامِلاً مُهماً في الصّحافة، ومَع أنّ هذا الباب يُعدُّ عَملها “الفنيّ” الأول في الصّحافة إلّا أنّه كانَ الأخير؛ لِأنّها فضّلت أن تَكون كاتِبة غَير مُقيَّدة بأحَد وأنْ تَكونَ حُرّة لا تَختَلِط مَع مَن تَكتب لَهُم. حاوَلت صَحيفة “الأهرام” أن تَجتذب مَي لِتَكون عُضوًا في أسرة تَحريرها وأعَدّت لَها مَكتبًا خاصًا في غُرفة رَئيس التّحرير، ولكنّها رَفضت العَرض، وبَقِيت صِلتها قائِمةً عَلى الكِتابة الحُرّة

الصَّالون الأدبيّ

وُلدت فِكرة مي زيادة بصالونها الأدبي في فَترة تَحوّل جَذريٍ شامِلٍ في جَميع مَناحي الحياة، بَعد الدَّعوة إلى الاستقلال السياسي، وظهور الرغبة المُلحّة في الحريّة الفرديّة والمساواة، والدعوة إلى تحرير المرأة، فكانت بداية انعقاد صالون مي 24 نيسان 1913م، حيثُ وَقفت في خطابٍ لأول مَرة في بهو الجامعة المصرية، لإلقاء كَلمة جبران خليل جبران نيابةً عنه اشتراكاً في تَكريم الشاعر خليل مطران، وفي نهاية الكلمة وَجّهت الدَّعوة لِعقد صالون أدبي في مَنزِلها، فَتلقت يَومها تَشجيعاً كبيراً من الحاضرين، وبعد ذلك ابتدأ يجتمع في بيتها مَجموعة من الأشخاص الذين حَضَروا صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع، وبقي أعواماً تَحت رِئاسة الشاعر إسماعيل صبري. كانَ الصالون في بادِئ انعِقاده عام 1913 يُعقد بمسكنها في الطّابق العلوي من مَباني جريدة الأهرام في شارع مظلوم باشا، واستقطبت فيه المفكرين والكتاب والشعراء، ونَوعياتٍ مُختلفة مِن عليّة القَوم والأثرياء والأدباء المعدومين ومنهم إسماعيل صبري، منصور فهمي، ولي الدين يكن، أحمد لطفي السيد، أحمد زكي، رشيد رضا، محيي الدين رضا، مصطفي عبد الرازق، الأمير مصطفي الشهابي، أمين المعلوف، الدكتور يعقوب صروف، الدكتور شبلي شميل، سلامة موسى، إسماعيل مظهر، محمد حسين المرصفي، أحمد شوقي، خليل مطران، إبراهيم المازني، عباس محمود العقاد، أنطون الجميل، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، داوود بركات، زكي مبارك، عبد الرحمن شكري.

وكان صالونها واسعاً رحباً، اختارت أثاثه بنفسها، وعلقت في صدره أبيات من الإمام الشافعي وهي:

إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وذنبك موفور وعرضك صين ُ

لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن ُ

وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل يا عين للناس أعين

وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى وفارق، ولكن بالتي هي أحسن ُ..

كانت تُقدم شراب الورد أو القهوة في صالونها عَلى الطَّريقة الشرقية وكانت تَجلس في صَدرِه تُرحّب بِضيوفِها. وكانَ صالونها الصّالون الأدبي الوَحيد في مصر الذي تُديره امرأة وتستقبل فيه ضيوفاً من الجنسين. تميّز بما فيه من حريّة فكريّة واجتماعيّة وحركة ثقافيّة وفّرها كلٌّ من المضيفة والضيوف، وشكّل منبعاً للإنتاج الأدبي، وهي أحد أسباب نجاح هذا الصالون، فأثرت في أدباء عصرها من الناحيتين الإنسانية والفنية، كان حَديثها يغلب عليه التسامح والود والتَّهذيب الرفيع والفكر العميق، فكانَت تحرص على إفساح المَجال لَزائريها لِيُعطي كل منهم رأيه، فَلا يَشعر أحد بالاغتراب في مجلسها.

أما المُرتادون فَكانوا يَتحدثون في شَتى المَواضيع الفكرية والأدبية، ويَتكلمونَ بالعربية أو بِغيرها مِن اللغات الأجنبية، أمّا مَي فكانَ حديثها دائما باللغة العربية الفصحى، وكانَت في صالونها وأحاديثها تُباعد بَينها وبَين التّيارات الحِزبية والتَّعصبية، فَما استطاعَت أن تُدير لها ظهرها والمُجتمع يُعاني مِن هُمومه، كانَت سِمة صالونها الأساسية أنه أدبي فكري، ولم يكن اجتماعيًا أو سياسيا، وكانَ الطابع هُو الطابع الأدبي الّذي لَم يَتغير. كان أبرز أهداف صالونها البَحث عَن إنشاء جَديد يُقرّب بَين طَرفي اللغة الفصحى التقليدية واللُّغة العامية، والتَّقريب بَين الفِكر الشرقي والغربي بواسطة تعريب الروائع الأوروبية، ومُناقشة الكُتب الجَديدة والقَصائِد الحَديثة والحَملات الصّحفية.

جريدة المحروسة

أخَذَت مَي عَن والِدها المعلم والصحفي وصاحِب جريدة “المَحروسة” القُدرة عَلى مُحاورة رِجال الفكر والقلم. وإتقانِها اللغات الأجنَبِية والاطلاع الواسِع عَلى مُختلف ألوانِ الثقافة، وتوفّر فيها مُقومات قُوة الحُضور والتأثير، وبَراعَتِها في إدارة حوار جَلَسات الصالون، فكانَ أحد أسباب نَجاح صالونها وشُهرتها بَراعَتها في إدارة الحوار، وكانَت حِواراتها حافِزاً لِلإنتاج الإبداعيّ والفكريّ، فَكانت مِن الأوائِل الّذين دعوا لإقامة جُسور مِن الحوار والتَّفاهم والتَّبادل بَين الثقافات الإنسانيّة.

ذَكر عباس محمود العقاد أحد رُواد صالونها بَراعتها في إدارة الحوار وتوجيهه فَقال:

كانَ صالوناً ديمقراطياً مفتوحاً، وقد ظَللت أتردد عَليه أيّام الثلاثاء إلى أن سافرتُ إلى أوروبا لِمُتابعة الدِّراسة، وأعجَبني مِنهُ اتِّساعَه لمذاهب القول وأشتاتِ الكلام وفُنون الأدب، وأعجَبَني مِنهُ أنّه مَكان لِلحديثِ بِكل لسان، ومُنتدى لِلكلام في كُل عِلم.

علاقاتها الخاصة

بدأت علاقةً مي وجبران عبر الرسائل عِندما كَتبت مَي زيادة مَقالة تُعبّر فيها عَن رأيها بِقصيدة جبران خليل جبران ” المواكب”، حَيثُ كانت مي مُعجبة بِأفكاره وآراءه، ثُمَ كَتبت لَه رِسالة تُعبّر فيها عَن رأيها أيضاً بِقصة “الأجنحة المتكسرة ” الّتي نَشرها في المهجر عام 1912م حيث كتبت لَهُ :

 إنّنا لا نَتفق في مَوضوع الزّواج يا جُبران. أنا أحترمُ أفكارَك وأجلُ مَبادئك، لِأنني أعرِفُك صادِقاً في تَعزيزها، مُخلصاً في الدِّفاع عَنها، وكُلُها تَرمي إلى مَقاصِدَ شَريفة. وأُشاركك أيضاً في المَبدأ الأساسيّ القائِل بِحرية المَرأة، فكالرجل يَجبُ أن تَكون المرأة مُطلقة الحُريّة في انتِخاب زَوجها من بَين الشُّبان، تابِعة بذلك مُيولَها وإلهاماتِها الشّخصية، لا مَكيفة حَياتها في القالِب الّذي اختارَهُ لَها الجيرانُ. عِندما أقيم احتفال كَبير لِلشاعر “خليل مطران” في القاهرة وطَلَب مَنشئ الهِلال ” جرجي زيدان” مِن جبران أن يُرسلَ كَلمته، طلبَ زيدان مِن مَي زيادة أن تَقرأ نَص جبران في ذلك الحَفل نِيابةً عَنه، وفي عام 1914م بَدأت العَلاقة التّراسُلية بَينهما، وتَوثقت العَلاقة بَينهُما شيئاً فشيئاً فَتدرّجت مِن التّحفظ إلى التّودد إلى الإعجاب ومِن ثُم الصّداقة حَتى وَصل الأمرُ إلى الحب في عام 1919م. عَلى الرُّغم مِن ذلك إلا أنّ كِلاهما كان يخشى التّصريح بِحبه لِلآخر، فَيلجأ إلى التّلميح فَلم يُخاطبا بَعضهُما بالّطريقة المَألوفة بَينَ العُشاق، فجبران لَم يَكن يُسمي الأشياءَ والمشاعر بأسمائها إنمّا كانَ يَرمِز إليها فَعبّر عَن حُبه لِمي بِقوله:

 أنت تحيين فيّ، وأنا أحيا فيكِ”، ووصف علاقتهما أيضاً بقوله: ” الدّقيقة، والقويّة، والغَريبة” وأنّها “أصلَبُ وأبقى، بِما لا يُقاس مِن الروابط الدموية والجَنينيّة حتى عَلى الرُّغم مِن ارتباط جُبران بالعديدِ مِن النّساء الأُخريات مِثل: ميشيلين وماري هسكل وغَيرهن، إلّا أنَّ مي كانت صديقته وحَبيبته وَلطالَما عَبّر عَن إعجابِه بِكتابَتها وبِذوقِها وثَقافتها عَبر رَسائِله إلَيها، وَأخبَرها بِما لَم يخبر غيرها بِه، طُفولَته وأحلامَه وكتاباته أحب فيها أيضاً حُبها لَهُ فَقد كانَ جبران الحُب الوَحيد في حَياة مي، وعَلى الرّغم مِن هذا الحُب الكَبير بَينهما إلّا أنَّ أحداً لَم يَلتقي بالآخر ويقال أيضاً أنّهُما تَجنبا لِقاءَ بَعضهما، واستمرّا فَقط بِكتابةِ الرّسائل لِبعضِهما، واستمرت المُراسلة بَينهما ما يُقارب العشرين عاماً، وانتهت بوفاة جبران خليل جبران في نيويورك عام 1931م، ما شَكّل صَدمة كَبيرة لمي وعاشَت بَقية حياتها وَحيدة.  تُعد رَسائلهما أحَد أهَم الأعمال في فن المراسلة، حَيثُ قامَ جبران خليل جبران بِتأليف كِتاب يَضم جَميع رَسائِلُه لَها وعَددُها 37 رسالة بعنوان ” الشعلة الزرقاء”.

مؤلفاتها وأسلوبها

 قال أحد أساتِذة جامعة هامبورغ عَن أسلوبها في كتابَتها: “أنّ المَرء يجد فيه توازن الإنجليزيّة، ودُعابتها، ودقّة الألمانيّة وأحكامها، ورشاقة الفرنسية، وحيويّة باقي الّلغات الّلاتينيّة”. بالإضافة إلى أخذِها ما تَقومُ بِدراسَته عَلى مَحمل الجِّد، فكانت تُجيد الإقناع وتعرض رأيها بقوة وتدعو إلى الآخذ به، وتُشير سلمى الصّائغ أنّ لكتابات غوستاف لوبون سبباً في نُضج كتابات ميّ زيادة، مِن الأمور التي اتّبعتها مَي في أُسلوب كِتابتها ما يلي: العَرض المَنطقيّ لِما تَطرحه. استخدام طَريقة السّرد التّشويقيّ في عَرض أفكارها. الانتِقال بَين الأفكار بِطُرق مُختلفة باستخدام الأساليب الإنشائيّة المُختلفة، كالاستفهام الاستنكاريّ، والتّعجب. إيراد الحِكمة في نِهاية النّص الأدبيّ. استِخدام المُفردات التي تُصوّر للقارئ خيالاً جميلاً في ذِهنه، ويَعودُ هذا لِما تَملكُه مِن حَصيلة مُفردات من الّلغات والثّقافات المُختلفة. استِحضار الوِجدانيّات بِأسلوب غامِض، وألفاظ روحيّة. توجيه نصوصها للنّاس كافّةً، وبطبقاتهم المُختلفة. الابتِعاد عَن المُحاكاة والتّقليد.

كانَ أوّل كِتاب وَضعتهُ بالاسم المُستعار (إيزيس كوبيا)، وهو مَجموعة مِن الأشعار باللغة الفرنسية، قامَت بِعدة رِحلات إلى أوروبا وغذت المكتبة العربية بِطائفةٍ من الكُتب وبَلغت مِن غايَتها في الأدب والعلم والفن. ظَلت سَنواتٍ طويلةٍ تَغرس الأشعار والنثر وتتهادى بمُؤلفاتها في الأدب إلى أن وافتها المنية سنة 1941م في المعادي بمصر، وتَركت وَراءَها مَكتبة لا تَزال مَحفوظة بالقاهرة، ومن هذه المُؤلفات:

الكتاب                                                       سنة الصدور (م)

رجوع الموجة                                                    1914

باحثة البادية                                                       1920

غاية الحياة                                                        1921

ترجمة ابتسامات ودموع أو الحب إلى الألمانية           1921

سوانح فتاة                                                        1922

وردة اليازجي                                                   1922

ظلمات وأشعة                                                   1923

المساواة                                                         1923

بين الجزر والمد                                                1924

الصحائف                                                       1924

عائشة تيمور                                                    1926

من أدب مي زيادة                                             1981

الحب في العذاب، ترجمة مي زيادة                       1989

الأعمال المجهولة                                             1996

كتابات منسية                                                 2009

كلمات واشارات (1) —-

كلمات واشارات (2) —-

وفاتها

قالت مي زيادة قبل وفاتها:  أنا امرَأة قَضيتُ حَياتي بَين قَلمي وأدواتي وكُتبي، ودِراساتي وقد انصَرفتُ بِكل تَفكيري إلى المَثل الأعلى، وهذه الحَياة “الأيدياليزم” أي ّالمِثالية التي حييتُها جَعلتني أجهَلُ ما في هذا البَشر مِن دَسائِس.»

وقالت هدى شعراوي بعد وفاتها: كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة». وكُتبت في رثائها مَقالات كَثيرة بَينها مَقالة لأمين الريحاني نُشرت في «جريدة المكشوف» اللبنانية عُنوانها «انطفأت مي»

بَعد أن تُوفي والِدها في عام 1929م ثمَّ والدَتها في عام 1932م، تبعها وفاة جُبران، عادَت على إثر ذلك إلى لبنان 1938م، حَيثُ أساء أقاربها مُعاملتها، وتَم إدخالها مَشفى لِلأمراض العَقلية في العصفوريّة قرب بيروت، وبَعد أن خَرجت مِنه أقامَت عِند الأديب والمُفكّر اللبناني أمين الريحاني، ثم عادَت إلى مصر وزارت العَديد مِن البُلدان الأوروبيّة لِلتخفيف عَن نَفسِها واستقرت في مصر، تُوفيت في مستشفى المعادي في 17 تشرين الأول 1941م في مَدينة القاهرة عن عمر يُناهز 55 عاماً.

وَلَم يَمشِ في جنازتها سِوى ثَلاثة: أحمد لطفي السيد، خليل مطران، وأنطوان الجميل.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *