أفكار منتصف النهار (9). فضيحة بجلاجل

في  تاريخ 7 نيسان و8 نيسان 2023 بدأت أخبار لبنان في أكثر من محطة تلفزيونية خاصة ( إم تي في ) بخبر: فضيحة بجلاجل، كانت هذه هي العبارة الأولى في نشرة الأخبار اللبنانية ووعدوا المشاهدين بالتفاصيل خلال نشرة الأخبار. انقبض قلبي وتوقعت الأسوأ بأن اشتباكاً لبنانياً إسرائيلياً قد حدث أو لعل شبه حرب أهلية قد حدثت، لكن الفضيحة بجلاجل كانت بأن النازحين السوريين يُؤجرون بطاقتهم الصحية –حيث تُمكنهم البطاقة من العلاج مجاناً– للمواطن اللبناني “المعتّر” كي يدعي أنه سوري ويُعالج مجاناً. وكان في طريقة إلقاء الخبر وصياغته والعنوان الذي بدؤوا به نشرة الأخبار (فضيحة بجلاجل ) إدانة واحتقار للنازحين السوريين وإظهارهم كمُستغلين وانتهازيين يُؤجرون بطاقاتهم الصحية للأشقاء اللبنانيين (سوا ربينا) . وأصبح من المعتاد تصريحات الكثير من المسؤولين والنواب اللبنانيين بضرورة عودة النازحين السوريين إلى سوريا وأن عددهم أصبح ينافس عدد اللبنانيين .

ولم تتكرم أيه نشرة أخبار باستضافة محلل سياسي أو عالم اجتماع (كمصطفى حجازي مثلاً) ليُقسر لنا تلك الظاهرة أي لماذا النازح السوري يُؤجر بطاقته الصحية للمواطن اللبناني الذي لا يتمتع بأية رعاية صحية في وطنه. مع العلم أنه في نهاية كل نشرة أخبار يحلل محلل عسكري تطورات الحرب الروسية الأوكرانية أمام خريطة كبيرة وكأننا نتعلم درساً في الجغرافيا العسكرية .

بداية من الضروري أن نشرح حال الطبابة أو وضع المستشفيات اللبنانية، وانقطاع الكثير من الأدوية الأساسية. وأنا من متابعي نشرات الأخبار اللبنانية خاصة في تلفزيون الجديد و( إم تي في )، ولا تكاد تخلو نشرة أخبار في لبنان التردي المُروع لوضع المشافي التي تُعاني من مشاكل عديدة منها إنقطاع الكهرباء والعجز عن تأمين اسطوانات الأوكسجين اللازمة للمرضى، وعن نقص كبير في أجهزة غسيل الكلية حيث يجد نفسه المريض المُصاب بقصور في كليتيه مُهملاً ومتروكاً لقدره ليموت بالتسمم الدموي، لا تخلو نشرة أخبار لبنانية يومياً من التحدث عن إنقطاع أدوية السرطان وغلاء الأدوية الفاحش، والكثير من الأدوية تكون منتهية الصلاحية لكنها تُباع فالفساد يسرح ويمرح في لبنان، ويومياً تعرض نشرات الأخبار اللبنانية حالات لمرضى (خاصة أطفال) يحتاجون كي لا يموتوا إلى عمليات جراحية تكلف الملايين ويتوسلون لأصحاب الثراء الإنسانيين أن يساعدوا هؤلاء المرضى. ومن المهم أن نذكر هجرة آلاف الأطباء اللبنانيين إلى دول أوروبية وغيرها لأن العمل الطبي أصبح صعباً جداً في لبنان وسط هذه الظروف المعيشية المُروعة للناس وبؤس المشافي وانقطاع العديد من الأدوية الهامة والأساسية. لكن السؤال الأهم والوحيد الذي يجب أن يُطرح: لماذا يؤجر النازح السوري بطاقته الصحية لأخيه اللبناني؟ الجواب واضح فالنازح السوري معتر وفقير، والمواطن اللبناني معتر وفقير، وأحاول أن أخمن ما الخدمات الصحية التي يحصل عليها المواطن اللبناني حين يستأجر البطاقة الصحية للنازح السوري! هل سيحصل على علب بنادول مجاناً أو علبة أنتي بيوتيك، لا أتوقع أكثر من ذلك حتى أن بعض الصيدليات أقفلت لأن الأدوية الأساسية اللازمة للحياة مقطوعة والصيدلي يجد نفسه محرجاً أمام المرضى الذين يتوسلون الدواء . استيراد الأدوية الأوروبية والأمريكية أصبح مستحيلاً بعد إنهيار الليرة اللبنانية وتحليق الدولار فوق 120 ألف ليرة . وكان لبنان يعتمد في الكثير من أدويتها على معامل الأدوية السورية التي هي فعلاً تنتج أدوية ممتازة، لكن أهم تلك المعامل تدمرت في الحرب في سوريا، وأصبح الدواء صناعة إيرانية ودواء من الهند أو باكستان يغزو الصيدليات. وكنت أصعق حين أطلب دواء ما من أيه صيدلية في اللاذقية فيعطيني الصيدلي ظرف دواء بدون علبه وبدون ورقة تشرح تركيبة الدواء وكيف يجب تناوله والأهم مدة صلاحيته، كنت أشعر كأنني أشتري علكة. أعود إلى الفضيحة بجلاجل حيث يُصور النازح السوري كانتهازي ولص وعديم الأخلاق وكيف يرضى أن يؤجر بطاقته الصحية لمواطن لبناني قبل أن يستضيفه في أرض لبنان قبل أن يستضيفه في خيم النازحين السوريين وبعض المناطق الفقيرة حيث نجد أن الأثاث عبارة عن فرشات رقيقة على الأرض وظروف معيشية قمة في البؤس، وكيف نرى أطفال النازحين السوريين فقراء يلعبون في مياه نهر مياهه مختلطة بمياه المجرور. وقد اطلعت على الإحصائية التي تبين بأرقام عالية إصابة الكثير من الأطفال السوريين النازحين بمرض شلل الأطفال (هذا المرض الذي انقرض تقريباً من العالم بسبب اللقاح المُضاد لشلل الأطفال) . سأحكي عن خلود امرأة سورية مُصابة بشلل تام أي لا تستطيع أن تحرك إلا رقبتها، التقيتها في مدينة في هولندا وحكت لي قصتها فهي أم لأربعة أطفال كانت تسكن في إدلب وخرجت من بيتها لتشتري طعاماً لأطفالها فأصابتها رصاصة في رقبتها، ثم تهدم بيتها كلياً، خلود المشلولة تماماً عاشت أربع سنوات في خيمة للنازحين السوريين في لبنان ولم تحصل على أيه رعاية صحية على الإطلاق ولولا وجود أمها التي تخدمها وتساعدها لماتت. بطريقة ما استطاعت خلود وعائلتها الهجرة إلى هولندا حيث تتمتع بعناية صحية ممتازة، الكرسي الخاص بخلود سعره خيالي، كل أسبوع تزورها مرتين طبيبة وتفحصها بدقة وتكتب تطورات حالتها. الحكومة الهولندية أمنت لخلود منزلاً جميلاً وأولادها الأربعة في المدرسة، باختصار لم تحصل خلود على أيه رعاية صحية في لبنان طوال أربع سنوات .

اللعبة القذرة والمكشوفة التي يلعبها ( الكلون يعني كلون) أي كل الأطراف السياسية من أحزاب ووزراء ونواب، اللعبة واضحة فكي يغطوا عن فسادهم ونهبهم المال العام وتسببهم في هجرة آلاف الأطباء، ليغطوا عن تقصيرهم ومسؤوليتهم في تأمين الدواء والعناية الصحية للمواطن اللبناني والسوري معاً فإنهم يلجؤون إلى إشعال الفتنة بين المواطن اللبناني والنازح السوري، فتنشأ الكراهية بين شعبين مُروعين من بؤس العيش والقهر واستغلال السياسيين لموضوع. النازحين السوريين، كل رجال الدين في موعظة يوم الأحد في الكنيسة أو الموعظة في الجامع لا يفوتون أبداً كلامهم الحماسي عن ضرورة عودة النازحين السوريين إلى وطنهم الآمن، وبأن لبنان بلد صغير لا يتحمل عبء أكثر من مليوني نازح سوري.

سنوات ونحن نسمع هذه المواعظ، وبدأت تنتشر جرائم غريبة وبلا أي سبب سوى الأحقاد والشحن الطائفي الذي نجحت الطبقة السياسية الفاسدة في زرع مشاعر الكراهية بين النازحين السوريين واللبنانيين. مُخجل ومؤلم جداً أن نسمع من وقت لآخر عن مواطن لبناني طعن بالسكين نازح سوري أو العكس . زرع الكراهية سهل الكراهية تتكاثر بسهولة كبذور البقلة. أما لماذا لا يعود النازحون السوريون إلى سوريا فالأسباب كثيرة أهمها أنهم ورقة تفاوض، وستكون عودتهم إلى سوريا إن عادوا آخر خطوة في مرحلة التفاوض، كما أن عودتهم في هكذا ظروف غير آمنه فبيوتهم مهدمة وهم فقراء، ومعظمهم تنتظرهم تقارير أمنية، وقمة المهزلة والظلم أن على كل نازح سوري أن يدفع مئة دولار عند دخوله الأراضي السورية، ويدفع مئة دولار عن زوجته وكل من أولاده! من أين سيأتي بهذه الدولارات؟ وبأي منطق سأقبل أن السوري النازح الذي اضطرته الحرب للنزوح عليه أن يدفع مئة دولار عنه وعن أولاده!

هل تحتضن سوريا أبنائها العائدين بعد سنوات من القهر والفقر والتنمر بأن تجلدهم ويدفع كل منهم مئة دولار وأن يُراجع تنوعات الفروع الأمنية! فعلاً نجحت طبقة الفاسدين اللصوص في زرع الكراهية بين النازح السوري وبين المواطن اللبناني وصار النازح السوري هو أصل البلاء في لبنان لمجرد أنه يحمل بطاقة صحية يؤجرها إلى أخيه اللبناني لأنهما كليهما ضحايا وفقراء ولأن الشحن المتواصل والنفوس المُنهكة من الظلم والتعتير وتجبر طبقة الفاسدين نجحت إلى حد كبير في حرف تفكير المواطن اللبناني من الأهوال والمصائب المروعة في لبنان من إفلاس المصارف إلى انفجار المرفأ إلى الغلاء الفاحش.. إلخ، تم تنحية تلك المصائب ووضع النازح السوري في فم المدفع، فهو الفاسد الانتهازي الذي يسرق لقمة اللبنانيين ويستغلهم بتأجيرهم بطاقته الصحية. هو العدو الخطير الذي يجب أن نتخلص منه ليعود لبنان مزدهراً .

تحضرني هنا رواية رائعة لرؤوف مسعد هي (بيضة النعامة) حيث بين فيها أن كل الجرائم وأعمال العنف التي جرت بين الأقباط والمسلمين من حرق الكنائس والجوامع والحروب الطائفية المتفرقة بين الأقباط والمسلمين في مصر كانت الطبقة الحاكمة هي المحرك الخفي لها. فخلق عداوة بين الأقباط والمسلمين وجرهم إلى صراعات دموية يحرف نظر المصريين عن فساد واستبداد الطبقة الحاكمة.

هذا ما يحصل تماماً في لبنان، من مصلحة “الكلون يعني كلون” ومن مصلحة تجار الكبتاغون أن تشتعل الكراهية بين السوري النازح واللبناني الذي سرقت طبقة الفساد أمواله وقتلت أولاده وأذلته في لقمة عيشة وطبابته .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (38) العنف والإجرام عند الطفال والمراهقين .

كل مدة نسمع عن جريمة مروعة قام بها مراهق ( أحياناً أطفال 8 سنوات مثلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *