الكتابة المغامرة

يفيدنا القاموس في شرح معنى الفعل (غامَر)، بما هو آتٍ: غامَر أي رمى نفسه في المخاطر غير مبالٍ، خاطر بنفسه، اقتحم المجهول.. والكلمة في تواضع الناس: المغامر هو الذي يقتحم الخطر، بكل شجاعة غير هيّاب من النتائج؛ ففي المغامرة شجاعة وإقدام وفروسية ومواجهة، وقد يستخدمها الهامشيون في الحياة، بمعنى الذمّ للآخر، إذ تفيد عندهم التهوّر وغياب رجاحة العقل.

الكتابة مغامرة في اقتحام عالم اللغة؛ لتصنع منها نصًا ينطوي على قيمة معرفية أو قيمة جمالية أو قيمة معرفية جمالية، على نحوٍ يعتقد صاحبها أنّ ما تفتّق قلمه عنه حالٌ جديدة.

إذًا، الكتابة المغامرة هي في إنتاج ما ليس بمألوف، في حين كل كتابة مألوفة هي استظهار لما خطّته الأقلام في قاعة الدرس، حتى لو لم تكن عن ظهر قلب، أو بتصرف.

ولا ينتج اعتقاد الكاتب المغامر، حين يُنتج ما ليس مألوفًا، من وهمٍ وفصامٍ ما، بل من ثقافةٍ تراكمت لديه، ورأى انحيازه عنها وتجاوزه لها، أو إثراءَ قضية من قضاياها، وهذا ما يُشار إليه بالمبدع؛ فالإبداع في الكتابة نصّ فذ.

الكتابة المغامرة -بالمعنى الذي أشرت إليه آنفًا- كتابةٌ قليلة، بالقياس لما يُكتب، وليس من العقلانية في شيء أن نطلب من جميع الكتاب أن يكونوا مغامرين، وآيَة ذلك أن الأسوياء من الناس يُشكّلون الأكثرية، فيما هناك أقليتان لا سويتان: المبدعون من جهة، والحمقى من جهة ثانية؛ وعليه فإن الأسوياء هم كتّاب التسلية والتناصيون، وراصدو الأحداث والمُعلّقون.

فيما المغامرون من الكتّاب هم كتّاب الفكرة في إهابها الأدبي أو الفلسفي، وهؤلاء أسماء لا تبلى، واستمرار أثرهم لا ينقطع غالبًا، فما زالت النخبة العربية الأدبية تعود إلى المعرّي باحثة عما وراء نصوصه، وحملة شهادة الدكتوراه، بفضل رسائل عن المعري، لا يُحصون، وقس على ذلك المتنبي، وابن رشد، وما شابههم من العبقريات.

ولا يحسبن أحد من القرّاء الكرام أنّ اتساعَ الجمهور المعجب بكاتب من الكتّاب، معيارٌ لقياس عبقرية الكاتب؛ لأن الجمهور الواسع، بما يتوافر فيه من ثقافة عامة، يحبّ المألوف من الكلام والمعروف من الأفكار، وما يوافق هواه من المواقف.

فقصائد مظفر النواب العامية الجمهورية الممتلئة بالعبارات البذيئة الشاتمة والهزلية، والتي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، لا تجعل من الشعرية النوابية ذات شأن في تاريخ الشعر العبقري، من حيث القيمة الجمالية والفكرية، فيما قصيدة الشابي التي كتبها وهو ابن الأربعة والعشرين ربيعًا: “حوار مع الله” قصيدةٌ من الأوابد، تتجلى فيها سمات الكتابة المغامرة، وشتان ما بين قصيدة (الطلاسم) لإيليا أبو ماضي وقصائد الجواهري في مدح الأسد والخميني

في الأولى، أتت الطلاسم أمام قول يأخذك إلى كل أسئلة الوجود والمعرفة والشك، في إهاب من اللاأدرية التي تجعل السؤال مفتوحًا في صور جمالية غير مألوفة، فيما أنت في الثانية، أمام كلام مُكرّر موزون، يصل فيه الممدوح إلى حالة من النشوة لا يشاركه فيها المتلقي أو القارئ.
فالشاعر المغامر ليس هو ذاك الشاعر المقلد،الخاضع لسلطة القوافي،والصورة التقليدية،والقول المرذول لإرضاء الجمهور.الشاعر المغامر هو الذي يشق طريقاً ليس بمألوف حتى لو تعرض لهجوم العوام ونقاد الشعر المدرسيين.
أما الفيلسوف المغامر:فهو الذي يجترح سؤاله الخاص متحرراً من أسئلة الآخرين،أوذاك الذي يقدم أجوبة لم يقدمها أحد من أسلافه على سؤال مألوف.
أما بعد: فإن المهجوس بالهمّ الكلي ليس بالضرورة أن يصدر عنه نص عظيم، فهذا أمر يعود إلى العبقرية، ولكن العبقرية لا تظهر إلا إذا كانت مهجوسة بهمّ عظيم، أما ما هو الهمّ العظيم؟ فهذا سؤال يحتاج، احترامًا له، إلى نص مستقل.

عن د. أحمد برقاوي

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *